وجهًا لوجه

 د. غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي

نناقش في هذا المقطع من الحوار مع الدكتورة غالية آل سعيد مدى حضور المرأة العمانية في رواياتها والتعريج على تجليات ذلك الحضور في العديد من نصوصها واستحضار رؤيتها لهذه الفكرة بعمق في مدونتها الإبداعية بشكل عام..  فإلى الحوار..

س:؟؟) قضايا المرأة العمانية، والواقع الذي تعيشه، وهو واقع خصب، قادر على تحفيز المخيلة الروائية، لم تولّها اهتماما واضحا في نصوصك الأدبية، ورواياتك، هل هو نوع من التقليل من أهمّية تلك القضايا؟
ج..) أتفق معك في الرأي أن للمرأة العمانية، كما لدى نساء العالم ككل، قضايا ملحة ويجب طرحها، وتسليط الضوء عليها. من ناحيتي، سبب قلة التركيز على قضايا المرأة العمانية ليس تقليلا من قيمة قضايا المرأة عموما، أو عدم اهتمام بقضايا المرأة العمانية خصوصا، السبب يرجع إلى اقامتي الطويلة خارج عمان، وابتعادي عن المسرح الاجتماعي العماني، وشؤونه المختلفة. عندما تكتب عن موضوع، مثل الكتابة عن قضية مهمة كقضية المرأة، يجب أن تعطيه حقه، وأن تعيش، وتلمس الواقع عن كثب، وتتمكّن من عناصره، ومكوناته، وللأسف ظروفي، وواقعي لم يسهلا تحقيق ذلك.
بعد ذلك، أقول لك، ذكريات السنين التي عشتها في مسقط، وفي الحي الذي ولدت فيه لم تفارقني أبدا. الأيام التي عشتها في مسقط في بيت عم أبي السيد نادر بن فيصل مع أخي، وبنات، وأبناء عمومتي، والزوار الذين كانوا يأتون لزيارة عمتنا السيدة مزنة بنت نادر، طبعت في خيالي صورا ما زالت ماثلة في ذاكرتي، ووجداني. كانت النسوة تأتي من الخارج حاملات الأخبار، والقصص من قلب مسقط، ومن وسط حاراتها، يجري الحديث عن ورطة الخروج بعد الساعة العاشرة حيث يحظر التجول في مسقط من دون حمل قنديل.
وتقول واحدة من الزائرات، حملت القنديل لكن الهواء أطفأه، ووجب تفسير الأمر للشرطة، وتتحدث أخرى عن طرافة التعامل مع المبشرين، من خلال زيارات للمستشفيين، أو المدرستين في مسقط ومطرح. ويطول الحديث عن أسعار السمك أو الأقمشة، والأقمشة كانت تلعب دورا كبيرا، ومهما في حياة المرأة العمانية التي عرفت بحبها للثياب، وللزينة حتى في تلك الأيام الصعبة. زينة المرأة، وثيابها ترك لنا موروثا غنيا، وجميلا، ولقد قمت بحفظه في متحفي لأهميته، ولما يجلبه من بهجة الى قلبي، ووجداني.
في تلك السنين عرفت الكثير من القضايا التي كانت تهم المرأة العمانية من أهمها التعليم، ومن أبرزها مشاكل الطلاق. كانت مشاكل الطلاق تمثل عقبة كبيرة أمام المرأة العمانية، بسبب عدم تقبل المجتمع للطلاق من ناحية ومن الناحية الأخرى مشكلة المبلغ المؤخر المطلوب دفعه في حالات الطلاق.

س:؟؟) تبدو الصورة التي ترسمينها للمرأة العمانيّة قاتمة، ألم تتغيّر بعد عهد الانفتاح الذي دخلته عمان بعد السبعينيات؟
ج..) الذي استنتجته بعد سفري، وعند مقارنتي لحال المرأة العمانية مع حال المرأة الأوروبية هو أن المرأة العمانية، حتى قبل الانفتاح، والتقدم اللذين شهدتهما عمان في عهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، وتنظيم حقوقها، ورعايتها، كان لها حق أخذ قضاياها بنفسها إلى المحكمة، وطرح هذه القضايا أمام الوالي، والقاضي، والشهود. الكثير من الناس لا يتصوّر أن المرأة العمانية لها هذه الصلاحية، أو أنها قادرة، أو حتى مسموح لها شرعيا، أو قانونيا.

س؟؟)إذن أين تكمن المشكلة؟
ج..) في القيود الاجتماعية، فهي التي تقف حائلا في هذا الصدد، وواجهت المرأة العمانية صعوبة أخرى في أمر الطلاق، وهو عدم وجود المال الكافي لحصولها على المؤخر من الرجل الذي أوقع عليها الطلاق. وأحيانا يطلب منها دفع مبلغ من المال إن كانت هي التي رفعت دعوة الطلاق ضد الزوج، ولكن النساء لا يرضخن لهذه العقبة، كن يبعن المصاغ، والحلي، أو يضطررن الخروج للعمل لجمع المبلغ المطلوب، رغم قلّة الأعمال المتواجدة في ذاك الزمان في الستينيات من القرن العشرين.
المهم، وحتى لو أني لم أتبحر في كتابة الكثير عن قضايا المرأة العمانية، الحمد لله هناك أديبات، وكاتبات، وروائيات عمانيات نقلن قضايا، وهواجس، وهموم المرأة العمانية بإتقان، وتميز، وبراعة، ووصلت أعمالهن الى خارج حدود عمان، وحظين باهتمام النقاد. رواياتي تدور حول مجتمع خارجي عشت فيه سنين طويلة أكثر من ثلاثين سنة، مع ملاحظة أن رواية ( صابرة وأصيلة) وقعت أحداثها في عمان.

س؟؟) ما هي أبرز المشاكل التي تعاني منها المرأة العمانية؟
ج..) هي ذات المشاكل التي تعاني منها المرأة في العالم العربي، في مصر، لبنان، اليمن، ليبيا، والسودان كما في مجتمعات العالم الأخرى مثل: أمريكا اللاتينية. نحن هنا نتحدث عن مطالب تحقيق احترام حقوق المرأة، وحريتها في التعليم، وحريتها الخروج لميدان العمل، ومشاكل رعاية الطفل حال خروجها للعمل، والمساواة في الدخل، وغيرها من حقوق أخرى كثيرة كإعطاء الجنسية للأولاد إن تزوجت من أجنبي. والذي يجب ذكره في هذا المضمار إن المرأة العمانية حتى في حقبة ما قبل السبعينيات من القرن العشرين، عملت، وشاركت في إعانة أسرتها، وفي أيامنا هذه مع ازدهار فرص التعليم المتاحة لها، التي تحققت في حقبة حكم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، نجحت المرأة العمانية في اقتحام ميادين العمل المختلفة، ومن دون أي معوقات سياسية، أو قانونية. أي معوقات تقابل المرأة، مردها لتقاليد اجتماعية بمعنى أن أفراد المجتمع، أو الأسرة هم الذين يعارضون اشتراك المرأة في ميادين العلم، والعمل، فلقد أظهرت المرأة العمانية قدراتها، ولكن ما زالت هناك عقبات، وتحديات عليها تخطيها، واقناع أفراد الأسرة، والمجتمع تقبلها، والعمل على حلها. مثلا خذ (مليحة) في رواية ( جنون اليأس)، فهي ليست عمانية إلا أن مشاكلها ربما قريبة من مشاكل أي امرأة في العالم، وفي العالم العربي، والعماني خاصة، قلة التعليم، واجبارها على الزواج من رجل لم ترغب في الزواج منه؛ وقائع متشابهة هنا، وهناك تقيد المرأة، وتحد من طاقتها في التفكير الحر، والعطاء غير المحدود.
س؟؟) بعد الدويّ الذي حققته رواية رجاء الصانع (بنات الرياض)، وروايات نسوية خليجية أخرى، ما هي رؤيتك للكتابة السردية النسوية في الخليج بشكل عام، وفي عمان بشكل خاص؟
ج..) الذي يجب قوله في هذا الموضوع إن المرأة الخليجية، والعمانية حقّقت ثقة بالنفس بسبب الثورة التعليمية التي بدأت في الخليج العربي قبل السبعينيات من القرن المنصرم بقليل، وكانت على أوجها في أوائل السبعينيات في عمان. خرجت المرأة من العزلة التي كانت نمط حياتها بسبب قلة التعليم، فبرز وجودها في شتى المجالات، واليوم نراها في عالم الكتابة، وكتابة الرواية خاصة، أصبحت المرأة الخليجية، ومثلها المرأة العمانية رافضة لتقبل، وتلقي المكتوب عنها، وعن مجتمعها من منظور الآخر، من دون الإدلاء برأيها بل، والمشاركة في طرح قضاياها، وقضايا مجتمعها بنفسها.
أذكر قبل السبعينيات، كانت المرأة العمانية، والرجل العماني، على حد سواء، ينتظران بفارغ الصبر وصول الأعداد الشحيحة، والمحدودة من المجلات، والكتب، والجرائد، وكانت تصل بصعوبة بالغة إلى مسقط من مصر، ولبنان. تروي تلك المصادر ظمأ الناس للمعرفة، والتطلع إلى العالم الخارجي، بخاصة للعالم العربي الذي كان يعيش حياة مغايرة، ومختلفة عن الحياة في عمان.
الكتابة الروائية أصبحت متنفسا للنساء الخليجيات، والعمانيات اللواتي لم يعرف عنهن الكثير، ولم يقرأ لهن بسبب قلّة ما كتب في الماضي، وضعف مشاركتهن في عالم الأدب الذي، وحتى فترة قصيرة انحاز للكتابة النسائية الآتية من جهات أخرى من العالم العربي. وتظل الأعمال الروائية النسائية الخليجية تعاني من النقد، والتهم الملقاة عليها، ومن عدم الاعتراف بقيمتها الأدبية، والاجتماعية. وحتى تركيبة هذه الأعمال الفنية لم تنج من هذا النوع من النقد اللاذع، ولكن، ولو أن الانتقادات كثرت يظل المهم في الأمر هو أن المرأة الخليجية، والعمانية خرجت من نفق الصمت، وشرعت في الكتابة عن هموم، ومطالب مجتمعاتها. ما كتبه الآخرون عنهن سابقا، دفعهن لمسك زمام الأمر في أيديهن، وبدأن الكتابة عن مجتمعاتهن، ونجحن في ذلك. قمن بدور فحص، وفضح مجتمعاتهن من منظورهن الخاص، ومن أعلم بما يدور في المجتمعات الخليجية، والعمانية من النساء اللواتي يعشن فيها، وكما يقول المثل (أهل مكة أدرى بشعابها).
وفي أوائل السبعينيات، حين كان البترول من أهم السلع عالميا، والحاجة إليه على أوجها، حصل انتعاش اقتصادي للمجتمعات الخليجية. عندها ظهر اهتمام كبير وفضول وسط الكتاب، والصحفيين، والسينمائيين، عربيا وعالميا، لمعرفة المزيد عن حال هذه المجتمعات، وبرزت رغبة لكشف المستور، والمتستر عليه في المجتمعات الخليجية. الثراء، والدخل العالي من عائدات النفط نتجت عنه محاولات أدبية تلقي الضوء على المرأة الخليجية، فهي تعيش حياة مرفهة لا مثيل لها بين نساء المجتمعات العربية الأخرى.
في تلك الحقبة من أهم الروايات التي كتبت عن المرأة الخليجية رواية الكاتب المشهور إحسان عبد القدوس (اخرجني من هذا البرميل). حاول إحسان عبد القدوس من منظور خيالي تصوير حياة المرأة الخليجية المرفهة بنعمة المال من دخل البترول العالي وهي تعيش في مجتمع مختلف عن المجتمعات العربية الاخرى. تتمحور الرواية حول حياة فتاة خليجية مترفة ومرفهة درست في أغلي المدارس الاجنبية في سويسرا، وفي لبنان. ولكن، وعلى الرغم من أنها أعطيت حرية التعليم، وتتمتع بالرفاهية المطلقة من مال، ولبس غال، وأكل، وشرب، وسفر، إلا أنها منعت من حرية اختيار شريك حياتها. البترول كما تصوّر إحسان عبد القدوس قيدها، وسجنها داخل برميل بترول، كما يشير عنوان الرواية. مثل هذه الرواية كتبت لتزيل بعض الغموض عن حياة المرأة الخليجية، والمجتمع الخليجي الذي تعيش فيه، مفعم بالمال، والرفاهية، ولكن حبل الحرية فيه قصير.
في السنوات الأخيرة، وبسبب العدد الكبير من العرب الذين يعيشون في دول الخليج طلبا للرزق، عاد الاهتمام بالمجتمعات الخليجية من جديد، وبمعرفة جوانب مختلفة عن حياة المرأة فيها. بدأت محاولات الكشف عن هذه المجتمعات من خلال الكتابة الصحفية، وغيرها من كتابات تنقب، وتبحث في حياة المرأة الخليجية، وظهرت أفلام أولها كان فيلم (مقتل اميرة عربية) بطولة الممثلة المصرية سوسن بدر.
وحاليا، اختلف الأمر، وقابلت المرأة الخليجية، والعمانية هذا الاهتمام بها، وبمجتمعاتها بالكتابة، والكشف عن أسرار، وخبايا مجتمعها الخليجي لكن بنفسها ومن منظورها الخاص. بدأت تظهر اعمال روائية عن المرأة الخليجية والعمانية كتبتها روائيات من الخليج العربي وعمان، كتبن عن همومهن وهموم مجتمعاتهن، بعض هذه الروايات كما يقال كشفت المستور في المجتمعات الخليجية. وفي ذلك، سارت الكاتبات الخليجيات على نهج كاتبات عربيات كشفن المستور عن مجتمعاتهن، من لبنان، وسوريا، والسودان، ومصر، والعراق.
ولكن الانسيابية، والانفتاح في الأعمال الروائية النسائية الخليجية، والعمانية جلبت للروائيات نقدا لاذعا، واستخفافا بأعمالهن من قبل النقاد. فقد وصفت هذه الأعمال بالسطحية، والرخيصة، والمشبعة بالإيحاءات غير اللائقة، يقولون لا يمكن رفع تلك الأعمال إلى المستوى الأدبي المتميز حسب المعايير المتبعة.

س؟؟) هل ترين أنّ النقاد ظلموا كاتبات الرواية النسوية الخليجية؟
ج..) نعم، كيفما كتبن، ومن أي منظور يجب أخذ ما كتبن على محمل الجد مثل أنواع الكتابة الأخرى. الذي كتبنه لغاية معينة، وعلى ذلك ربما نستطيع أن نقول إنه نمط جديد في كتابة الرواية، كتابة البحث عن الذات، والكشف عن المسكوت عنه.
    
س؟؟) عندما سئل الروائي البرازيلي المشهور باولو كويلو ذات مرة في نهاية مقابلة أجريت معه من قبل صحيفة المترو البريطانية ماذا يقول عن النقاد، الذين وصف بعضهم أعماله الروائية بالخفيفة، والسطحية، قال في رده: لا شيء، النقاد ذاك عملهم ينتقدون ما يشاؤون، وكما يشاؤون، كيف ترين ردّه؟
ج..) بصراحة، أعجبني، النقاد ذاك عملهم في أي مجال كان، فعلى الكاتب أخذه، أو تركه. وكل روائي يتصور إن الذي كتب من نقد عن أعماله غير كاف، ويتمنى لو كتبت مجلدات وسألوه الاف الاسئلة عن مضمون وتركيب أعماله وعن الشخصيات والمكان والزمان. هذا طموح، وزهو الكاتب بعمله الذي يعادل زهو الآباء بأبنائهم، أو زهو المخترع باختراعه نستطيع القول، من دون مبالغة، النقد مهم للعمل الأدبي. رئيسة حزب المحافظين السابقة، عند حديثها عن الثوار الإيرلنديين الذين سببوا للسياسة البريطانية دوخة رأس، قالت بتعنت "احرموهم من أوكسجين الدعاية". النقد للعمل الابداعي بمثابة اوكسجين الحياة، والعمل الادبي والروائي لا يختلفان عن ذلك، ولا استثنى اعمالي. النقد الأدبي يمدّ العمل الروائي بالحياة، والحيوية، فهو يكشف عن وجوده، ويرفع شخصياته، ومضمونه واحداثه من القعر إلى أعلى السطح. يرى الناقد في الرواية ما لا يراه القارئ غير المتمرس، فيسلط الضوء على المضمون، أو على جمال الشخصيات، أو المكان، أو حتى ضعف البنية السردية، فيتجدد العمل الروائي، ويزداد حيوية. وكم من عمل لولا الأعمال النقدية التي سلطت عليه لما انتشر، واشتهر.
وبالطبع هناك نقد يندّد بالعمل، ولا يعرف الروائي كيف يأخذه، أو أين يقف منه، وحتى الكتاب المعروفين، والمشهورين لم تنج أعمالهم من لسع النقد السلبي.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك