رواية المهجر بين تعثُّر الاندماج والذاكرة الشعبية

أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات


"أستغرب نأيكم ومجافاتَكم! فلا فنّكم ولا إذاعاتُكم أو فضائياتكم العزيزةُ قد أنصفت وجودنا هنا، نحن النازحين إلى الشمال الأوروبي، حيث سقطنا جميعاً على ألوانه الرمادية"، ص24.
هذا ما تقوله هدى بطلة رواية "تحت سماء كوبنهاغن" لحوراء النداوي، مخاطبة متلقّي رواياتها العرب، وهي رسالة حوراء ذاتها؛ إذ تدعو إلى الاهتمام بأدباء المهجر، وبروايات المهجر تحديداً؛ لأنها تشكّل جزءاً من الحالة الثقافية والاجتماعية العربية.
الذاكرة بين رفض الآخر والتقوقع على الذات:
ربما يرفضك الآخر فتنكفئ إلى بيتك، وربما تكون رغبتك في الانغلاق هي دافع انكفائك عن البيت، وفي الحالين يرتفع جدار عالٍ وسميك بينك وبين الآخر، وفي الحالين أيضاً تفزع، في البيئة الغريبة إلى بيئة قابعة في الوجدان على نحو ما نلمس عند هدى بطلة رواية (تحت سماء كوبنهاغن) التي عاشت غريبة في أرض غريبة، فهي لا تعلم إن كانت عراقية من الدنمارك، أو دنماركية من العراق، لأنها ضائعة بين وطنين يرفضان انتماءها إليهما.
حتى إن الطفولة البريئة التي تعني في التعامل الإنساني عدلاً أكثر وانفتاحاً أكثر تجابه معضلة إنسانية حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع الآخر، فالآخر ها هنا هو الطفل كلاوس صديق هدى في المدرسة الذي يرفض اللعب معها، وأخوه نيكولاس الذي يسميها "البلهاء ذات الإيشارب"، ص107، بالإضافة إلى الجدة التي تمثل خبرة المجتمع في التعامل مع الجاليات الوافدة. وهنا تجد هدى نفسها مدفوعة إلى المجتمع العراقي الصغير الذي يطلب الخضوع لقوانينه مقابل الاطمئنان الذي يمنحه؛ إذ يكون عليها أن تتحجب، وألا تشارك البنات في الطعام ولا في درس السباحة، وألا تستحم مع البنات في درس الرياضة حتى لا تضطر لخلع ثيابها أمام زميلاتها.
ويمكن أن نرصد تجلّياً آخر من تجليات الإخفاق في الاندماج، بالرغم من السعي إليه، في رواية (بروكلين هايتس) لميرال الطحاوي، حيث يقود ذلك الإخفاق البطلة الساردة إلى البحث في ذاكرتها عن بيئة الوطن الذي غادرته، وللحقيقة فإن هذه الذاكرة تبدو ثرة بالشخصيات والأمكنة والحكايات، حيث تطغى البيئة المصرية في الرواية على بيئة بروكلين التي تتخذها الكاتبة منطلقاً للكتابة، فتحضر مصر بشخصياتها: الأب بحكاياته، والأم بضعفها، والجدة بخبزها، والصديقات بألعابهنّ البريئة، مثلما يحضر المجتمع بعاداته وتقاليده وخرافاته.
وفي مقابل رواية ميرال طحاوي تقف روايتا "خارطة الحبّ" لأهداف سويف، و"الجانب المظلم للحب" لرفيق شامي، وهما روايتان تجعلان البيئة المحلية الأصلية خلفية للحدث (مصر ـ سورية)، على الرغم من وجودهما في البيئة الغريبة (إنكلترا ـ ألمانيا)، والفارق بين الروايتين يكمن في صورة الآخر التي اهتمت أهداف سويف برصد ملامحها، بينما بقيت تلك الصورة باهتة ونمطية عند رفيق شامي.
وفي حين انشغلت الرواية العربية المكتوبة في الغرب بموضوع الصراع بين الاندماج والانتماء، وانشغلت الرواية الغربية التي تتخذ من بلداننا ساحة أحداث لها، بتصوير الجندي الغربي الفاتح جاءت رواية "خارطة الحبّ" لتصوّر وحشية المستعمر الإنجليزي، وصلَفَه، وغروره الذي يدفعه لمحاولة فرض ثقافته ودينه على سكان البلاد التي يستعمرها. كلّ ذلك من خلال وجهة نظر فتاة أجنبية ترفض النسق العام لتفكير مَن حولها، كما جاءت لتعرض صورة المجتمع المصري في بداية القرن التاسع عشر، دون أن تسخرَ الساردةُ الأساسية لتلك المرحلة (آنا ونتربورن) من بدائية السكان المحليين وأزيائهم، بل لترصد تلك الأزياء بكثير من الإعجاب والتقدير، وتقفَ إلى جانب تطلعات الشعب المصري، وتصوّرَ نماذجَه الإيجابيةَ من المثقفين الوطنيين والمحامين وعلماء الدين المتنورين، وتعجب بقدرتهم على إدارة حوارات فكرية وسياسية متفهمة ما يدور في مصر والسودانِ وفلسطين.
وللحقّ فإنّ رواية "الجانب المظلم للحب" لرفيق شامي كانت الأكثر اهتماماً بالبيئة المحلية، من بين جميع روايات المهجر التي تيسّر لي الاطلاع عليها، إذ يحضر موقد الكاز (البابور) والحمّام الدمشقي حيث الطعام والحلويات والتنباك، وتحضر الأغاني والأهازيج الشعبية المتنوعة والخرافات والعادات الغريبة العجيبة، وإذا كنا لا نعجب من الرقص والزغاريد والتلويح بالقماش الأحمر فرحاً بإثبات عذرية العروس، فإننا سنعجب بالتأكيد من (الماشطة) التي تنسلّ في ليلة الدخلة، إلى غرفة نوم العروسين، وتساعد العريس على افتضاض بكارة عروسه، وتداعبها لتطمئنها، وربما تضطر إلى المباعدة بين ساقيها وشتمها وصفعها.
النجاح الجزئي في الاندماج محفّزاً للذاكرة:
هل يمكن للمغترب أن ينجح في الاندماج؟ وإذا فعل ذلك فما حاجته إلى البئر الأولى يمتح منها ذكرياته؟
النجاح في الاندماج مرتبط بأقنومين أساسيين هما الوطن والمنفى، والابتعاد عن الذاكرة مرتبط بقدرة المرء على الشعور بالامتلاء العاطفي والانتمائي في الوطن الجديد، وهو ما يستحيل تحقيقه من الناحية العملية. فمن خلال التجارب الحياتية والروائية يتضح أنك حتى تنجح في الاندماج مع الآخر يجب أن تدفع ثمناً ما. في رواية "غربة الياسمين" للتونسية د. خولة حمدي يجري الحوار التالي بين هيثم وياسمين:
 "ـ إذن تشكّين في قدرتك على الاندماج في المجتمع الفرنسي؟
ـ (...) ليست لي نية في الاندماج، الاندماج يعني التخلي عن الهوية والمبادئ والذوبان في المجتمع حتى يتقبلني الآخرون"، ص82.
بينما يقول الدكتور عمر في الرواية ذاتها لصديقه وليد عن المجتمع الفرنسي:
"ستظلّ على هامشه يا صديقي، طالما لم تتنازل عن كلّ مبادئك.. ما دمت لا تحترم قواعد اللعبة. لا تدخّن، لا تشرب الكحول، لا تصاحب النساء، ولا تلعب القمار، فلن تندمج في نظرهم أبداً"، ص26.
ومهما بذل الساعي إلى الانتماء من جهد، فسوف يبقى أسير نظرة الآخر التي قد تعيده إلى جذوره من جديد، فكمال عبد القادر في رواية "غربة الياسمين" سمّى نفسه كلود سيمون، وحصل على الجنسية الفرنسية عن جدارة، وتزوج فرنسية، ولكنّه بقي في نظر باتريك "العربيَّ" الذي حرمه من شقيقته، و"المنتمي" لكتلة الإسلام الموحّدة التي لا يفرّق بين أفرادها.
الذاكرة الروائية بين اغترابين:
ينطلق الروائي العراقي صموئيل شمعون في روايته السيرية المعنونة (عراقي في باريس) من بيئة روائية مختلفة، كونه انتقل من بيئة طاردة (هي العراق) إلى بيئة طاردة أخرى (هي فرنسا)، فقد عاش الفتى الآشوري شموئيل منبتاً عن مكان لا يسعى إلى التعلق به، على نحو ما يتعلّق أبطال الحكايات بأمكنتهم، على الرغم من أنّه عاش فيه طفولته ويفاعته، وذلك لأنه شكّل بيئة نابذة له ولأجداده الذين يمثّلون في العراق ما يمثّله الهنود الحمر في أمريكا، كما يقول قرياقوس، عندما تقرّر حكومة الثورة، بعد الانقلاب العسكري البعثي أن تخلي الحبانية: "نحن أصل هذه البلاد، نحن تماماً مثل الهنود الحمر في أميركا"، ص294.
لقد كان شموئيل رافضاً للاندماج حتى في مجتمعه الأول الذي يحمل في أغلبيته المطلقة  سمة العروبة. وعندما يقول: "أنا عراقي ولست عربياً"، ص139، فإنه يبعد عنه بهذه الرؤية الواضحة شبهتي العروبة والإسلام معاً، وينفصل انتماؤه عن المكان الأول، ولكنّ المكان الجديد يقبله متشرّداً في الشوارع، باحثاً عن مستقرّ دائم.
على أن العيش المغترب الجديد لم يمنع الكاتب أن يعود للذاكرة الأولى، وأن يفرد قسماً كبيراً من روايته لشخصية تشكّلت في الحبانية، قبل أن يهاجر صاحبها نحو الغرب، إنها شخصية شموئيل التي يظهرها السرد في القسم المسمّى (البائع المتجول والسينما)، ويعلّق السارد على حبال ذاكرة السرد كثيراً من الأعراف والتقاليد والأغاني والمحفوظات الشعبية والأساطير، كما تطلّ الملفوظات الشعبية، وإن على نحو قليل، لتوشّح لغة السرد بالذاكرة.
* * * * *
هكذا نجد الارتباط وثيقاً جداً بين الإخفاق في الاندماج، أو الاندماج الناقص مع الآخر، وبين اللجوء إلى الذاكرة الشعبية، إذ إن الإخفاق والإحساس بالنقص في هذا المجال يقودان بالضرورة إلى التمسك بالذاكرة الفردية والجمعية، وهذا ردّ فعل طبيعي لكلّ من يشعر أنّ هويته وانتماءه مهددان بالنفي أو الاقتلاع.

 

تعليق عبر الفيس بوك