المهلّب.. عمان التاريخية وجدل التاريخ والجغرافيا والقبيلة

د. محمد بن سعيد الحجري

في خضم الجدل الدائر حول قضية المهلب بن أبي صفرة من الخطأ بل من السذاجة القول بأنَّه جدل مُفتعل أو مبالغ فيه، بل هو نقاش في صميم الشعور الوطني، لأنه نقاش حول ما يُقدمه التاريخ للجغرافيا، فالتاريخ هو الذي يعطي الجغرافيا معنى أن تكون وطناً وهو الذي ينضج مفهوم الوطن، ذلك أنه في وجدان أي دولة وأي شعب تكون الشخصيات التاريخية هم رموز للسيادة الزمنية، كما أن الإقليم الجغرافي هو عنوان السيادة المكانية، والشخصيات التاريخية تمثل للأوطان رصيداً معنوياً وجودياً لا يمكن للأمم الحية أن تتنازل عنه، مثلما لا يمكنها التنازل عن شيءٍ من الجغرافيا، ولتوضيح الأمر بالأمثلة فإن أمةً كفرنسا لا يمكنها التنازل عن نابليون أو جان دارك أو ديجول مثلاً، كما لا يمكن أن تتنازل بريطانيا عن ريتشارد قلب الأسد أو الملكة فيكتوريا أو شكسبير مثلاً، ولا يمكن لأمم أحدث كأمريكا أن تتنازل عن جورج واشنطن أو لينكولن أو روزفلت، ولا يمكنها أن تتنازل عن شخصيات علمية أو أدبية أثرت في تاريخها، سواء صنعته أو كانت نتاجاً له.

الشعوب الحية تدافع عن شخصياتها ولا تقبل المساس بانتمائهم، ولذا فإنَّ الدفاع عن انتماء المهلب وشخصيته هو أمر طبيعي لشعب يقدر تاريخه ويحترمه، ومع أن النقاش حول شخصية المهلب ذاته محسوم لدينا بعمانيته، إلا أن سبب كل هذا التفاعل هو أنها لم تكن الحادثة الأولى ولن تكون الأخيرة على ما يبدو، وقد بلغ الأمر حداً لا يمكن التغاضي عنه أو التساهل تجاهه دون مواقف واضحة، فاليوم المهلب وغداً غيره، ولقد بقيت نقطة مهمة في النقاش تتعلق بالسؤال هل هو من دبا أم من أدم وهما بلدتان تاريخيتان عمانيتان؟ ودونما تفصيل أُحيل القراء إلى البيّنات التاريخية التي أدلى بها الشيخ أحمد سعود السيابي في حديث متلفز متداول ومنشور ففيها الكفاية والحسم بكونه من أدم، كما أدعو إلى العودة إلى كتاب "تاريخ المهلب القائد وآل المهلب" للشيخ المؤرخ سيف بن حمود البطاشي (طبع 1988م).

وهنا أرى أن نتجه بالنقاش إلى نقطة أخرى لعلها ثمرة لكل هذا الجدل وفيها يكمن ما يقدمه التاريخ للجغرافيا، إذ في خضم كل ذلك عاد مفهوم عمان التاريخية الكبرى بقوة إلى الواجهة من جديد، وهو مكسب مهم وكبير، فتحتَ وطأة النقاش لا تجد كل الأطراف مفراً من العودة إليه باعتباره حاضناً لكل حراك الإنسان في هذه الجغرافيا الممتدة الشاسعة.

لكن مع العودة المهمة لمفهوم "عمان التاريخية" إلى الصدارة بدا في بعض الردود والتعقيبات خلطاً تاريخياً فادحاً بين مركزية الدولة العمانية وبين حركة القبائل في بعض أطرافها، وكأن تلك القبائل كيانات موازية للدولة أو تشكل بديلاً عنها، والحقيقة أنّ المتأمل في التاريخ السياسي والاجتماعي العماني تتأكد له حقيقة النضج المبكر لمفهوم الوطن من ناحية وتطور الممارسة السياسية العمانية حتى داخل أطرها القبلية، إذ لم تكن القبيلة بديلاً للدولة أو كياناً موازياً لها في أي مرحلة تاريخية عمانية حتى في أقصى مستويات حضور القبلية، وعلى الرغم من أنَّ التاريخ العماني شهد طوال فتراته جدلية الدولة والقبيلة، فكلما قويت الدولة ضعفت القبيلة، وكلما ضعفت الدولة قويت القبيلة، لكن القبيلة لم تكن كياناً بديلاً حتى في أضعف حالات التشتت والفرقة؛ فمفهوم الوطن العماني منذ أن تبلور مبكراً ظل صامداً في استمراريته التاريخية حتى في حالات ذبول الدولة وتشتتها ولفترات طويلة أحياناً، ولم يجد العمانيون في الكيانات القبلية بديلاً له؛ وتأثير القبيلة السياسي المنافس للدولة كما قلت كان مرهوناً إما بضعف الدولة أو بارتباط خارجي سياسي أو فكري، والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة جداً سواء في وسط عُمان أو في أطرافها بنمو مشيخات قبلية أو انحسارها، والنتيجة في كل ذلك واحدة: تبقى الدولة وتتراجع القبيلة، ولعل المثال الذي أوردته بعض الردود والنقاشات المتمثل في "القواسم" هو برهان على ذلك، فشواهد التاريخ بل والتاريخ القريب (وما أكثر أدلته) يدل على عدم النجاح في تطوير كيان دولة بديل، بل كان كياناً تابعاً لدولة أخرى، مدفوعاً بعقيدة كراهية متعصبة وافدة ومفروضة أحياناً (انظر مثلاً في ذلك كتاب د. سلطان القاسمي، تحت راية الاحتلال، ص 5-7) وقد أدى كل ذلك في النهاية إلى تحويل الخليج إلى بحيرة قراصنة عانت منها شعوب الخليج وتجارته، ولعل من أبشع أمثلتها وأكثرها غدراً الحادثة الشهيرة التي أدت إلى مقتل السيد سلطان بن أحمد في عام 1804م وهو سيد الخليج يومئذ، بينما كان في إحدى جولاته في موانئ الخليج، في عملية واجهها السيد سلطان بشجاعة فذة وبطولة نادرة ضحى فيها بحياته (انظر في ذلك ابن رزيق، الفتح المبين، ج2، ص362-364، ط6)، وهي حادثة أدت إلى تغيير وجه الخليج فيما بعد، بل أدت في النهاية إلى انحسار قوة القواسم وتدمير موانئهم، كما أدت إلى ظهور قوة قبائل أخرى منافسة كالنعيم وبني ياس وغيرهم من مشيخات الساحل، والتي تختلف بعضها مع الأولى في الاتجاه والولاء، وظهورها كان كذلك بدعم من المركز العماني أي من الدولة العمانية لأسباب سياسية وفكرية، ومع ذلك كله فإنِّه حتى لدى شيوخ القواسم المتأخرين ــ فضلاً عن غيرهم ــ ظل الانتماء عُمانياً وظلت المرجعية العمانية هي الأساس، وشواهد التاريخ والثقافة حتى القريب منها واضحة في ذلك، ولولا خشية الإطالة لأوردناها.

أما ما ورد في بعض الردود بشأن تعليقات الدكتور سلطان القاسمي على مقاومة الساحل العماني للغزو البرتغالي فقد تم الرد عليها ومناقشة هذه التعليقات باستفاضة حينها في مقالنا المعنون بــ "الغزو البرتغالي للساحل العماني بين المقاومة والتحرير" المنشور في يناير 2015م وهو متداول ويمكن العودة إليه لتبين الحقائق، أو من خلال كتاب "مذكرات البوكيرك" المنشور منذ أكثر من عشر سنوات (نشره المجمع الثقافي في أبوظبي)، أو من خلال الكتاب المهم الذي نشر مؤخراً بعنوان "عمان والبرتغال في بحر عمان، الدين والسياسة" الذي جمع وثائق الأرشيف البرتغالي في16 مجلداً، ثم ترجمت إلى العربية والإنجليزية والبرتغالية الحديثة ونشرت في عشرة مجلدات قبل سنتين؛ وخلاصة ذلك أن هناك كياناً تاريخياً هو عمان متشبثٌ باستقلاله وسيادته، قام بالمقاومة والتحرير من الاحتلال البرتغالي، والذي قامت به مدن الساحل والداخل العماني بأسرها هي حركة ضمن سياق هذا الوطن ككل لا باعتبارها كيانات جزئية.

هذه النقاط تحتاج إلى استفاضة وتوسع وضرب الأمثلة عليها لتوضيحها أكثر، وفهم أبعادها في استنتاج خلاصات التاريخ والفرص التي يتيحها النقاش حوله وحول أعلامه، والخلاصة الأهم هي أن هناك دولة مركزية تاريخية هي عمان لها استمراريتها التاريخية، وهناك قوى قبلية تظهر وتنحسر تبعاً لقوة الدولة المركزية ولعوامل أخرى، ولم تتمكن هذه القوى تاريخياً من أن تكون بديلاً عن الدولة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة