حمود بن علي الطوقي
(الإنسان هو التراث)، بهذه المقولة وضع مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - الجوهر الحقيقي الذي ينبغي أن يكون عليه الفرد في علاقته بتاريخه، وفي حضوره الذي يمتد عبر أجيال وحقب، من خلال نزوعه نحو ما يُشكل خصوصيته الممتدة عبر التاريخ. بهذه المقولة "الإنسان هو التراث" كان رد جلالته عندما طرح عليه سؤال في مؤتمر صحفي عقده جلالته في مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي مع رؤساء تحرير الصحف العُمانية عن جهود السلطنة في المحافظة على التراث؛
تثير هذه المسألة أي التاريخ والتراث ردود الأفعال التي تصدرت المشهد الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي والمجالس حول أصل القائد المهلب بن أبي صفرة العُماني، والتي عقدت مطلع الأسبوع المنصرم وشهدت الندوة تغطية واسعة وردود أفعال حول هذه الشخصية التاريخية وما زاد من ردود الأفعال هذه وتداول النشطاء في شبكات التواصل الاجتماعي التصريح المباشر لمعالي عبد العزيز بن محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، الذي حسم هذه الادعاءات ليُؤكد عمانية المهلب ومكانة عمان قبل المهلب بآلاف السنين منذ عهد الملكة شمساء وحتى العهد الزاهر لباني عُمان الحديثة سيد عُمان جلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله - حيث أكدت الندوة العلمية على الجذور التاريخية العُمانية للمهلب التي ينبغي التمسك بها، والإيمان بها، والدفاع عن كونها جزءًا من التاريخ العُماني.
يدرك العارف بشؤون علاقات الشعوب برموزها ومناخاتها التاريخية، أنَّ البناء الداخلي لها متأصل من خلال المرجعية، سواء كان على مستوى الأرض أو الإرث الحضاري أو المنجز الشعوبي، الذي به تأثرت مساحات عبر حركة الشعوب في التاريخ.
هنا تتجلى الشخصية العمانية، قديماً وحديثاً، وتدرك تمامًا أنَّ هويتها ليست قاصرة على حاضرها، بل هناك أسلاف ينتمون إليهم، وهؤلاء الأسلاف هم مفتاح الامتداد، فكلما كان تأثيرهم إيجابياً في البناء الحضاري، كان التمسك بهم أوجب وأولى.
ندرك تمامًا أن الرموز في تاريخ الحضارات يمتلكون مساحتين مهمتين، الأولى مساحة عامة، لأنها جزء من البناء الحضاري المستمر، الذي صار - هو الآخر - جزءا من بناء البشرية في حقبة ما من الحقب، والثانية هي مساحة الخصوصية، والتي يحتكم فيها إلى المنشأ والهوية وأرض المولد، فهذا يحفظ حق الوجود للشخص ذاته، وهو ما لا يماري فيه أحد، لكونه محجة بيضاء.
وندرك تمامًا نحن العمانيين أنَّ التزام المواطن العماني بخصوصيته، واعتداده بمرجعيته لأسلافه، جعل من امتداده سبباً لتأكيد هويته الممتدة، وعلى الرغم من معرفته بقاعدة (العارف لا يُعرّف)، لكن العماني يُدرك تماماً أنَّ سلوكياته وتصرفاته الطيبة والتفاعلية مبنية على كونه عارفاً تاريخه، وواعيا بجذوره، ومنتبهًا إلى خصائصه وخصوصياته الحضارية، فهو يفعل ما يُمليه عليه هذا الوعي، ويتصرف وفقا له.
إذا كان القائد المهلب بن أبي صفرة، محور حديثنا قد عاصر بداية الدولة الإسلامية، أي قبل أكثر من ألف عام، فإنَّ عُمان صنعت حدودها منذ ما قبل ذلك بكثير، برا وبحرا، على السواحل وفي المجاهل الجغرافية، ولها من الأسماء ما خلد ذكرها، وظلت نفحاتهم الطيبة عبر المراجع التاريخية المختلفة، وهذا العلم الداخلي الذاتي حول المكان والتاريخ، وتموضع العماني فيهما، يجعله واعيًا لهويته، نائياً بنفسه عمَّا يقلق بشأنه حيال ذلك.
لأن الذات العمانية ضاربة في أعماق التاريخ بدءا من نشأة الخليقة مرورا بتلكم الحضارات القديمة وصولاً إلى الإمبراطورية العمانية التي سطرت الأمجاد في العصر القديم وحتى في عصرنا الحالي بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله- والمشهد العُماني يحظى بتقدير واعتزاز من كافة الشعوب .
أعتقد جازمًا أن هذا الحراك من التجاذب في الحوار يفتح مناخا جديدا، فالأجيال التي تعيش بين ظهرانينا، وهم مسؤولية الجميع على الأرض العمانية، تجعلنا نأمل من الجهات العلمية والأكاديمية والثقافية والإعلامية والمساهمة في نشر الإبداع، تجعلنا ندعوها ونتمنى عليها أن تقوم بدور الموثق والمدون، لكل رمز وشخصية عمانية المنشأ والجذر، وبخاصة تلك الشخصيات التي حجبتها خطوط الطول والعرض والجغرافيا الحديثة، كي يجد الجيل الحالي والتي بعده مرجعياتهم مكتوبة وموثقة، فنحن مثلاً في مجلة مرشد للأطفال نسعى لأن نقوم بهذا الدور من خلال غرس وتعريف وسبر الأغوار عن الشخصيات العمانية التي رسخت أقدامها على مدار العصور. نحاول أن نقدم هذه الشخصيات بأسلوب سلس ومبسط لتصل إلى الطفل العُماني وتستقر في ذاكرته على مدى الحياة. فتوعية الناشئة خطوة استباقية لرسم خارطة الطريق للمحافظة على الموروث العُماني العظيم.