مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (9)


ناصر أبو عون

 

الجزء 30 - سورة  عَبَسَ – الآيات من (1 -10)
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ ﴿١﴾ أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ ﴿٤﴾ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿١٠﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
" ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ويُلِّحُ عليه وود النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لو كفَّ ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3))؟ أي يحصل له زكاة وطهارة في نفسه (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ(4)) أي يحصل له اتِّعاظ وانزجار عن المحارم، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6)) أي أما الغنيّ فأنت تتعرَّض له لعله يهتدي (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ(7))؟ أي ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة (وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8)) أي يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له (فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)) أي : تتشاغل ومن ها هنا أمر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يخصَّ بالإنذار أحدا بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار ثُمَّ الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة".(1)
(المشهد التصويريّ):
يصوّر المشهد النبي محمد – صلى عليه وسلّم – واقفًا مع بعض صناديد قريش يعرض عليهم الإسلام ودستوره ويخاطب عقولهم ويقيم الحجّة عليهم فإذا ابن أم مكتوم يقترب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  "فجعل يسأله ويُلِّحُ عليه، فودّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَكفَّ عن السؤال ليتمكن من مخاطبة هؤلاء الصناديد تبليغًا لرسالته ورغبةً منه في هدايتهم، غير  إن ابن مكتوم لضعف بصره لم يدرك الموقف وواصل الإلحاح في سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم -  فعبسَ وأعرض عنه وأقبل على كفار قريش يواصل المحاججة وتبليغ رسالته.
"ففي سياق معاتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصوِّر لفظُ (العبوس) إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشدة كراهيته لمقاطعة ابن أم مكتوم له لأنه كان مشغولاً بدعوة أولئك النفر من قريش، ولم يكن انشغاله لنفسه أو لمصلحته ولكن لمصلحة الإسلام، ولهذا يعبس الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وجه ذلك الأعمى ويعرض عنه مقبلاً على دعوة أولئك النفر من صناديد قريش وهنا يجئ العتاب من الله العلى لنبيه الكريم في أسلوب عنيف شديد حيث يقال في سياق هذا العتاب ولأول مرة كلمة " كلا" وهي كلمى ردع وزجر للمخاطب".(2)
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
"التعبير بعبوس الوجه كناية عن الإعراض وعدم الإقبال على الأعمى.. وإن التعبير بحركة العبوس يوحي بدلالات لا يمكن أن يستطيع الوفاء بها لفظ آخر، وتعجز أن تنهض بها ريشة الفنان. (3)
وقرئ «عَبَّسَ» بالتشديد للمبالغة وأن جاءه علة لـ «تولى»، أو عبس على اختلاف المذهبين، وقرئ «أإن» بهمزتين وبألف بينهما بمعنى «ألئن جاءه الأعمى» فعل ذلك»، وذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقوم والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، أو لزيادة الإنكار كأنه قال: «تولى لكونه أعمى» كالالتفات في قوله: وما يدريك لعله يزكى أي: وأي شيء يجعلك داريا بحاله لعله يتطهر من الآثام بما يتلقف منك". (4)
"وقرأ طلحة بن مصرف : «تتلهى»، وقرأ  أبو جعفر: «تلهى»؛ أي: يلهيك شأن الصناديد، فإن قلت: قوله: فأنت له تصدى، "فأنت عنه تلهى" كأن فيه اختصاصا قلت: نعم، ومعناه: إنكار التصدي والتلهي عليه، أي: مثلك خصوصا لا ينبغي له أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير"(5)

المصادر:
(1)    تفسير ابن كثير - الجزء الثامن ص: 319
(2)    يوسف الأنصاريّ - (من بلاغة التصوير بالحركة في القرآن الكريم دراسة في البيان الحاكي) ص 17
(3)    يوسف الأنصاريّ - (من بلاغة التصوير بالحركة في القرآن الكريم دراسة في البيان الحاكي) ص 17
(4)    تفسير البيضاوي، الجزء الخامس: [ ص: 286 ]"
(5)    "كشاف الزمخشري" الجزء السادس : [ ص: 313 ]

 

تعليق عبر الفيس بوك