أمَا آن لهذه الأزمة أن تُحل؟!

 

عبيدلي العبيدلي

كما يرد في كتب التاريخ، أنه إثر نجاح عبدالملك بن مروان في السيطرة على العراق، سارع إلى تجهيز جيش آخر، وعيَّن على رأسه الحجاج بن يوسف الثقفي، وسيَّره نحو العراق كي ينال من عبدالله بن الزبير. حاصر الحجاج مكة، وشدَّد الخناق على ابن الزبير ورجاله، وانتهى الأمر بانتصار الحجاج، وصلب عبدالله بن الزبير، الذي ظلَّت جثته مُعلَّقة حتى مرَّ بها عبدالله بن عمر، فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب. أما والله لقد كنت صوّاماً قوّاماً. ثم أضاف: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟". وهناك من ينسب مثل هذا القول إلى والدة عبدالله بن الزبير وهي أسماء بنت أبي بكر، المعروفة بـ "ذات النطاقين"، عندما نظرت إلى جسده المصلوب نظرة، ثم قالت قولتها المشهورة: "أما آن لهذا الفارس أن يترّجَّل؟! أما آن لهذا الفارس ان يترجل؟!"

ترِد هذه القصة بذهن من يتابع الأوضاع في منطقة الخليج، خاصة إثر الأزمة التي عصفت بواحدة من أهم محاولات التوحد العربي المعاصرة. فرغم كل ما يقال عن تجربة مجلس التعاون الخليجي، تبقى تجربته التوحيدية الأطول عمرا في التاريخ العربي المعاصر. وشكلت بكل ما حملته من ثغرات نموذجا وحدويا عربيا يمكن أن يكون تجربة تثري العمل الوحدوي العربي، عندما تقرأ بعين موضوعية، وذهنية متفتحة، متحررة من كل الإسقاطات الأيديولوجية المسبقة التي حاولت قراءة تلك التجربة.

ثم جاءت الأزمة الخليجية الأخيرة، التي انفجرت على نحو عاصف، ودون أية مقدمات تمهيدية، كي تعصف بهذه التجربة، وتنشب أظفارها فيها، وتهدد إمكانية استمرارها، حتى بخطاها البطيئة. كان جميع المتابعين للأزمة يتوقعون أن تكون تلك الأزمة مجرد سحابة صيف خليجية لا تلبث أن تمر سريعا. لكن الأزمة استمرت، وباتت تهدد كيان مجلس التعاون الخليجي، وتُنذر بهدم تجربة في غاية الأهمية، عندما تقاس بنظيراتها من التجارب العربية الأخرى.

خُطورة استمرار الأزمة، لا تكمُن في انعكاساتها المرحلية فحسب، وإنما تمتد أيضا للتداعيات المستقبلية، والتي يمكن رصد الأهم بينها في العناصر التالية:

- تسهيل الطريق أمام التدخلات الأجنبية في شؤون دول التعاون، ومن غير المتوقع ان تكون مثل تلك الاختراقات إيجابية، بل من المحتَّم ان تكون سلبية، وربما مدمرة. تكفي الإشارة إلى الجارة الكبرى إيران، وقراءة بشكل موضوعي أطماعها التوسعية، كي ندرك حجم الخطر المتربص بنا كشعوب خليجية. حتى الدعوات المنادية بحوار موضوعي مع إيران، لا بد وأن تدرك، مسبقا مدى استعداد طهران للشروع في حوار إقليمي- خليجي "موضوعي"، ينطلق من احترام متبادل بين طرفي الحوار العربي-الفارسي، وأن تكون نتائجه عادلة، فلا تغلب مصلحة طرف على طرف آخر.

- ليست إيران هي الدولة الوحيدة؛ فهناك تركيا التي لا تزال أحلام الإمبراطورية العثمانية تدغدغ طموحات القيادة التركية الحالية. ليس هناك من عربي ومسلم، من يقف في وجه تلك الطموحات طالما هي لا تصطدم مع المشروعات العربية، ولا تمس السيادة العربية لأي من الدول العربية. هذا يدفع المراقب الخليجي إلى تتبع الخطوات التركية في منطقة الخليج، العسكرية منها، بل وحتى التجارية، بمزيد من الحذر كي يتلافى أية صدامات مستقبلية محتملة تستنزف قوى الطرفين: العربي والتركي على حد سواء.

- وعلى المستوى الخارجي أيضا، حرمت الأزمة الخليجية دولها من انتهاج سياسة خارجية منسقة ومتناغمة في الحوارات التي ولجتها الدول الخليجية مع دول، أو كتل سياسية عالمية او إقليمية أخرى، وفي مرحلة من أحرج مراحل التاريخ العربي المعاصر. ولعل في اللقاءات التي تمت مع الولايات المتحدة، أو بعض الدول الأوروبية، واستفادة هذه الأخيرة من ذيول الأزمة كي تفرض بعض شروطها التي لم تجرؤ على الإشارة إليها في محادثات سابقة، الكثير من الدروس التي تدفعنا نحو التطلع بحثا عن حلول تضع حدا لهذه الأزمة، التي باتت تبدو وكأنها مستعصية.

- على المستوى الداخلي، بدأت هذه الأزمة تتأصل، وتفرز سمومها القاتلة في صفوف بعض القوى المجتمعية التي تؤمن بالقدر المشترك للدول الخليجية. وبالقدر ذاته لم تتوقف تلك الأزمة من تكوين مصالح قوى مجتمعية خليجية، بل وحتى عربية، لها مصلحة مادية مباشرة في استمرار الأزمة، وعدم إغلاق ملفاتها. ومنطق القول أنه كلما طال أمد الأزمة، تجذَّرت أسبابها، وازدادت عمقا؛ بحيث يصبح من الصعب الخروج منها، بل نتحول نحن، شئنا أم أبينا، إلى أسرى لها، وعبيد لقوانينها، وتداعياتها. ومن الطبيعي أيضا أن تغرس الأزمة نفسها عموديا داخل المجتمع الخليجي، فتنتشر كي تزج بأوسع قطاعات مجتمعية ممكنة في أتونها، الأمر الذي يجعل من وضع حد لها أمرا مكلفا ماليا، وأطول زمنيا.

- وفي النطاق الداخلي، لكن على المستوى الاقتصادي هذه المرة، تتناسب الكلفة الاقتصادية طرديا مع الزمن الذي تستغرقه الأزمة قبل التوصل إلى حل سليم لها. فكلما امتد ذلك الزمن، ارتفعت الكلفة المباشرة وغير المباشرة. ومن هنا؛ فمن الطبيعي أن يقود استمرار الأزمة إلى ارتفاع كلفتها الاقتصادية. وتزداد سلبيات ذلك التنامي، مع التحديات الاقتصادية التي تواجها دول مجلس التعاون في هذه المرحلة التي تتراجع فيها أسعار النفط، وترتفع فيها معدلات التضخم والبطالة على حد سواء.

كل ذلك يدعو نحو البحث عن حل سريع وشاف للأزمة التي آن أوان اقتلاع جذورها، والوصول إلى حل بشأن مسببتها. وكما قات أسماء بنت أبي بكر: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل"، يكرر أبناء الخليج سويًّا، أما آن لهذه الأزمة أن تُحل؟!