أشواق مباغتة .. سيميائية العنوان وشعرية القصة القصيرة جدا

...
...
...

عادل سعد يوسف

عن دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع، صدر للقاصة بهجة جلال باكورة أعمالها؛ وهي عبارة عن أقاصيص، وجاءت المجموعة في أربع وستين صفحة من الحجم المتوسط وتضم أربعا وأربعين قصة.

سيميائية العنوان:

استطاعت الكاتبة أن توظف العنوان كعتبة استراتيجية وكإجراء إغرائي مرتكزة على وسم جمالي في صورة لغوية مبتكرة عبر جملة اسمية باقتصاد لغوي إذ حذف المسند إليه والإبقاء على الخبر (أشواق) لتمتين الوصف بالصفة التالية له (مباغتة).

هذه الوظيفة الإغرائية تفترض جدلية إدهاش (قارئ/عنوان، أشواق مباغتة)، هذا الوسم الجمالي يقوم على وظيفة شعرية أيضا، وهي انزياح وخرق لمبدأ العنونة النثرية، وبها يكتسب العنوان قدرة على الايحاء، وعلى امتداد لا نهائي من التأويلات.

وهو"...بمثابة البوابة الأولى التي تضيء للناقد طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي. (1).

كما أنه يحيل إلى الحمولة الفكرية والوجدانية، لذلك يقول محمد مفتاح:" إن العنوان "يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته "".

جاءت المجموعة في التسمية التجنيسية تحت مسمى أقاصيص (أقاصيص: جمع أقصوصة) والأقصوصة هي القصة الصغيرة)، وبهذا تكتسب وضعا تجنيسيا يعمل على موضعتها داخل جنس القصة القصيرة جدا.

شعرية القصة القصيرة جدا:

إن جمالية القصة القصيرة جدا تتمثل في كونها لقطة فنية مكثفة تستند إلى أركان أربعة هي: الحجم الموجز، والرمز المكثف، واللون الحكائي، واللغة المميزة.

يقول فهد إبراهيم البكر:" من الاستخدامات التي تساعــــد القاص في تكثيف الحـدث والموضوع هي الرمز والتناص، والانزياح (اللغوي، والفكري، والموضوعاتي) (2)

نخلص إلى أن التكثيف كعنصر رئيس في القصة القصيرة جدا والانزياح اللغوي، يعملان على إيجاد الشعرية في القصة القصيرة.

يقوم الشعر على مغايرة المألوف ومن هنا تكون الشعرية انحرافا عن القواعد المعيارية المعمول بها في اللغة فتكتسب هذه اللغة سمات تساهم في تمييز الشعر عن النثر، فاللغة الشعرية هي التي تطلق سراح المعنى من صلاته الداخلية، الصلات التي يتشكل منها مستوى اللغة التي تجسد اللاشعرية في الخطاب.

إن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجددة لا ينتج الشعرية بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة، وهذا الخروج أسميه الفجوة: مسافة التوتر. (3)

تتبدى ملامح الشعرية في مجموعة (أشواق مباغتة) من خلال:

  1.  استخدام ضمير المتكلم.

تستخدم الكاتبة ضمير الراوي المتكلم فيجيء السرد ذاتيا فيقترب السرد من الشعر، بالإضافة إلى خاصية التكرار وهو من الخصائص التي تميز الأسلوب الشعري، ففي قصة (حضور):

"تكبر بكفي حبات المسبحة، أدحرجها على كيفي، أمسها بحنان ناعم؛ بين أصابعي تستحيل بشرا سويا. يكلمني عن فتنة الهوى، عن زهو الخلق حين اشتهاء... رويدا... رويدا بجيدي أدس عاشقي عن عين القدر".

  1.  الجمل القصيرة:

تعتمد الكاتبة على العبارات القصيرة المتواترة، لنقل الموقف النفسي بكل أجوائه المؤثرة، مع القفلة المباغتة، وتستبعد حروف الربط لتأتي الجمل في إيقاع سريع، يولد جرسا موسيقيا ينتج من الوحدات الصوتية المعتمدة على تفتيت الكلمة (تح..تح ت..) وهذا يمكن ملاحظته في قصة (هدية):

"باقة الورد قد تناسبني، ولكني أميل إلى همس النجوم. الوميض ما يشبه أكثر هذا الرزم تح..تح ت.. كنت أكلم نفسي بصوت بدأ لي سرا. تزاحم حولي من في الدار. التزمت الصمت، وضممت صدري. بعد العقار الأخير هدأ كل شيء، من ساحق أتى صوت رتيب: توقفي... توقفي! حرك المعالج آلة التسجيل. لقد ألفت مقطوعتي الأجمل على الإطلاق".

  1.  فنتازيا الصورة:

القصة القصيرة نادرا ما تعبر بالصورة كما في الشعر، ولكن في هذه المجموعة لجأت القاصة إلى الصورة مخالفة المألوف السردي، وكاسرة أفق رتابته، وتظهر هذه الخاصية في معظم القصص، ومن القصص التي تحققت فيها شعرية الصورة؛ قصة (وحدة غير مواتية):

"تبكيني النساء الوحيدات، النساء عاريات القلب إلا من نشيج، حاسرات الجسد إلا من يد الطبيب، ومن أصابع الأمنيات. النساء اللائي عبثن بحالة الذكرى، وبالوحدة ذات اليأس. تبكيني النساء الحميمات الذاهبات إلى الحريق بكامل ثوبهن، بغامر الهمس الذي لن يرى الكلام، نساء الملاءات المرتبة، نساء النظرة المعاتبة لرجل ما؛ أحد لم يكلف خاطر خطوه نحو كتف تهدم باليقين. تبكيني النساء القابعات تحت قبة الانتظار!".

4- العلاقات التركيبية والانزياح:

نسيج هذه المجموعة (أشواق مباغتة) في جملته يستند على العلاقات التركيبية بين المفردات التي تقوم على الانزياح، كما بينا في المقدمة، ويمكن ملاحظة ذلك في الاستعمالات التي تمنح سردها هذه الطاقة الشعرية، ففي قصة موانئ:

"عبارات بأجنحة مدججة، حمالون لا يأبهون لهشاشة القلب، مسافرون بعيون مسدلة. يأتي اسمي كصفعة في خد ناعم، أو هكذا أوحى لي المنادى وهو يمط حروفه بطريقته الملكونة. وطأت خطواتي المرسى بينما حذائي تشبث بموجة مغادرة."

"يقول المناصرة: إن أبرز ما أخذنه القصة القصيرة جدا من اللغة الشعرية ما يمكن تسميته التكثيف الشعري على مستوى الصورة والدلالة، فالقصة القصيرة تمثل النص الومضة الذي يتداخل فيه السردي والشعري إلى حد يصعب معه تجنيس بنية اللغة، التي تغدو مثار خلاف، فهل هي قصة، أو نثيرة، أو شعر منثور، أو نثر مشعور، ومع ذلك لا غنى عن وصفها بالقصة القصيرة جدا..."(4)

لذلك يجب النظر إلى إن درجة الانزياح العالية قد تورط القصة القصيرة جدا في فخ قصيدة النثر أو النثيرة، وهذا يحتاج مهارة عالية من الكاتب، ودرجة من الوعي بالتمايزات بين الأجناس، نلحظ ذلك في قصة (تواطؤ(

"رائحة المطر، بقاياه العالقة بفم السماء تتواطأ سرا مع منازل الجالوص "الطين" كائنات القلب الثاوية تنهض جميعا تطاردني. يتكثف الدمع في فصاء العين، في العراء أراقص الماء، أسمد الأرض بملح الحنين".

يمكن كتابتها بطريقة رأسية كقصيدة نثر بتفتيت الكتلة الأفقية، وهذا لا يقدح بالطبع في المجموعة بقدر ما يطمح في إنجاز قصص قصيرة جدا لا تتخلى عن سرديتها وحكائيتها، لصالح جمالية أجناس أخرى.

رائحة المطر،

بقاياه العالقة بفم السماء

تتواطأ سرا

مع منازل الجالوص.

كائنات القلب الثاوية تنهض جميعا

تطاردني.

يتكثف الدمع في فصاء العين،

في العراء

أراقص الماء

أسمد الأرض بملح الحنين.

أخيرا:

إن القصة القصيرة في السودان شهدت تطورا ملموسا في الفترة الأخيرة، أدت إلى ظهور عدد من المجموعات القصصية (القصيرة جدا)، مختلفة في التقنيات بين كاتب وآخر.

هذه المجموعة (أشواق مباغتة)، تعرف بدرجة التطور الذي وصلت إليه القصة القصيرة جدا، وهي تستحق القراءة مرات ومرات، لما فيها من ميز جمالية.

المراجع والإحالات

  1.  د- جميل حمداوي: السيموطيقيا والعنونة، (بحث) ص96.
  2.  فهد إبراهيم البكر. في شعرية القصة القصيرة جدا، صحيفة الرياض،27 يوليو 2016م http://www.alriyadh.com/
  3.  انظر: كمال أبو ديب: الشعرية.
  4. المناصرة: القصة القصيرة رؤى وجماليات، ص 77.

 

تعليق عبر الفيس بوك