تجليّات غيداء طالب في روايتها "البينَ بين"

...
...
...
...


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


بعد رواية رومانسية حملت عنوان "كلّ عام وأنت حبي الضائع" تطلّ الكاتبة اللبنانية غيداء طالب على القارئ العربي برواية جديدة عنوانها "بين غمّازتين"؛ لتضعه في مواجهة عدد من الثنائيات الضدية: الحضارية والإثنية والدّينية والطائفية والمذهبية، ولتكون بذلك مثالاً ناصعاً ينتمي بجدارة إلى رواية "الما بين" أو "البين بين" بدءاً من عنوانها الذي يحيل على امرأتين، وليس انتهاءً بترجُّح سردها بين ذاكرتين وزمنين ومكانين.
تحكي الرواية حكاية شادي الابن الذي أثمره زواج عز الدين (المسلم) ومنى (المسيحية)؛ حيث أجبرت الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1974 منى على الهرب بطفلها للاحتماء بطائفتها، بينما حارب عز الدين مجبراً إلى جانب عن طائفته، وسرعان ما تتطور الظروف لتلقي بالطفل من الميتم الذي وضعته فيه والدته إلى فرنسا مع مجموعة من الأطفال الذين تمّ بيعهم في صفقة؛ لينشأ فرنسياً مسيحياً.
وإذ يعود إلى بيروت ليتعرف على أسرته، بعد نحو ثلاثة عقود، بناءً على دعوة من برنامج "فرحة عمر" الذي يقدّمه الإعلامي جورج كرم على "STAR TV"، يكتشف بيروت من جديد، ويقابل وجهاً قبيحاً من وجوه الآثار الاجتماعية للحرب الأهلية، والاصطفاف الحاد الذي يجعل المجتمع على شفا حرب مؤجلة، وليقترب أكثر من معاناة الفلسطينيين في مخيماتهم، ومعاناة السوريين في نزوحهم، وليكتشف أهله عن قرب، ويترجّح بين ثنائيات تمسّ الدين والهوية والمكان والحب الذي يشطر قلبه بين رفيقة الطائرة يارا، وحبيبة الماضي جوليا، لتنتهي الرواية حاسمة خياراتها لصالح أبٍ عاش على ذكرى ابنه ضدّ أمٍّ تورطت في صفقة بيعه، ومبقية باب القلب، حتّى السرد النهائي،  مشرعاً على احتمال امرأتين.
هي رواية تجري أحداثها في عشرة أيام، وهذا ما يعني خروجاً مبدئياً من نظرية الأجيال التي تتحدث عنها الرواية الكلاسيكية، ويُضيف الكاتبة إلى قائمة الكتاب الذين يختزلون الزمن الروائي؛ لتتيح للماضي (لا للوصف غير السردي) أن يملأ فراغات الحكاية التي امتدّت استذكاراتها على مدى نحو أربعين عاماً. إنّها رواية مشغولة بدقة، لا تسلم الروائيةُ فيها قياد السرد لشخصية واحدة، بل تُعدّد فيه الساردين، وتعتمد على تقنية الحلم لتقديم بعض أحداثها، وتستعين بالرسائل النصيّة، وتهتمّ بالفضاء الطباعي، فتستخدم بعض النصوص الفرنسية، وتشرحها في هوامش أنيقة؛ لتحقق واقعية اللغة، وعدم إبهامها في آن، وهي ـ لتحقيق تلك الواقعية ـ تُنَوِّعُ اللغة بين عامية تنظق بها الشخصيات، وفصيحة تسرد حكاية طريفة تصل إلى سرد مفتوح على أكثر من احتمال، يتبعه سرد (بَعد نهائيّ)، يشير (ص ص 213ـ 216) إلى  أنّ المسرود كلّه ما هو إلا تدوين لذاكرة الشخصية، وهذه مغامرة أخرى؛ إذ سبق أن  رأينا مثل هذا الاعتراف التدويني في بدايات عدد من الروايات، لا في نهاياتها.
غير أنّ أكثر ما يلفت النظر في هذه الرواية أنّها لا تنوسُ فقط "بين غمّازتين"، بل بين زمنين وفضاءين مكانيين وفكرين وحضارتين. ولا يبدو التحديد الزمني الذي يحتلّ رؤووس الفصول سوى تحفيز للعودة نحو الماضي، نحو الذاكرة، تلك الأرملة السوداء التي تطلّ على مستنقع مليء بالخبايا، حسب تعبير الرواية في ص33، وص160.
يلاحظ القارئ أنّ الماضي يشغل حيّزاً مهمّا جدّا من الرواية، من خلال استثمار العتبات ومن خلال توظيف الذاكرة التي تبدو كلمة أثيرة تكرّرها غيداء بأشكال مختلفة، فالعتبات ذات علاقة وثيقة بالماضي، وبموضوعه الأكثر فجيعة: الفقدان/ فقدان الأب والأم والهوية والوطن. تلك الذاكرة التي يطلّ منها شادي على الماضي الذي يعني له، مثلما عنى لأطفالٍ غيره، الرحيل والألم.
إنّ الذاكرة التي ترتدّ هنا إلى الماضي هي ذاكرة تفترض مقارنة مع الحاضر، وبين هذين الزمنين تنشأ مقارنات ذهنية، ومقارنات نصيّة في بعض الأحيان، ترصد حالة الراهن انطلاقاً من ذلك الموغل في القلب، ولعلنا نشير هنا إلى نوسان الزمن بين قطبيه المشار إليهما، وتأثيره في عدد من الشخصيات التي عرفها شادي في حياته: "طوني الذي غالباً ما كنت أتشاجر معه بسبب عدوانيته قد ارتحل عن لينان قبل سنوات مهاجراً إلى أوستراليا، وفؤاد صديق المشاغبات وسرقة الموز في البستان المجاور، يعمل اليوم في كاراج سيارات في الدورة، ويعيل زوجة وولدين. اما كميل "زعوري الدار" كما نطلق عليه، فلا يزال زعوري ولكنه يقبع في السجن بتهمة تعاطي المخدرات"، ص167.
ومثلما ترجّحت الرواية بين زمنين، اختارت لأحداثها مكانين يحتضنان الأحداث والأشخاص والمواقف والذكريات: باريس عاصمة النور والعشق بما تحمله من ثقافة وحضارة، وبيروت عاصمة الجنون والتنوّع بما تحمله من فوضى وتلقائية ومفاجآت. ويقف شادي مشروخاً بين مدينة الأهل والرفاق التي أسلمته مطروداً من رحمة الوطن إلى حضن باريس، متسائلاً: "أوليس الفرق شاسعاً جدّاً بين مدينة وهبتني كلّ شيء دون أن تسأل، وأخرى سلبتني كلّ شيء، وأعلنتني منفيّاً ومنسيّاً؟"، ص40. غير أنه سرعان ما يؤكّد غربته في باريس التي لا قصف فيها "لا خوف، لا أخبار، ولكن، لا والدة أيضاً، ولا وطن"، ص44.
فإذا انتقلنا من بصيرة القلب إلى بصر العينين وجدنا صوراً طريفة للمقارنة بين المدينتين؛ فلبيروت نظام سير خاص بها لم يعهده شادري في فرنسا، "وربما لم يكتشفه العالم الخارجي بعد"، ص28، و"الأمور هناك منظمة جدا ومدروسة، كل شيء مخطط له مسبقاً بدقة فائقة، وقلّما تتعثّر يومياتي بمفاجآت طارئة (...) أما في بيروت فالصدفة هي التي تتحكم بزمام حياتي بطريقة عبثية، وكأن المدينة تعيش عشوائية الأحداث والتواريخ والأماكن"، ص118.
ويمتد فضاء المقارنة بين بيروت وباريس؛ ليصبح في أحيان غير قليلة مقارنة بين شرق وغرب، حتّى إن يارا حين تفكّر؛ إذ بتبنّي شادي من قبل أسرة فرنسية، تنطلق إلى ذهنها صعوبة مثل ذلك الأمر في مجتمعاتنا العربية، ففي الغرب تكون المسألة فردية شخصية، أما في الشرق فهي قضية مجتمعية، إن لم تكن وطنية.
إن صدمة الحضارة (ونحن هنا نتحدث عن صراع لا عن تكامل) جعلت شادي يفكّر ملياً بالخيار الآخر، فهو كفّ عن أن يكون مسيحياً، وهو لا يفكّر في أن يكون مسلماً أيضاً، ولم يكن ذلك الصراع ولا ذلك الاصطفاف يعنيانه، ولا حتى يارا وجوليا، غير أنّ الخوف من المجتمع يرسخهما بلا رحمة، فقد خبر نتائجهما كلّ من منى وعز الدين اللذين تزوجا، وكانا ضحية الحرب التي قامت على أساسهما، وحولت الحبيبين إلى عدوّين محتملين، ثم عدوّين حقيقيين. هذا الإرث الثقيل الذي قضّ مضجعي منى وعز الدين انتقل إلى شادي الذي لم يكن من السهل على والد جوليا أن يتقبله بسبب جذوره الإسلامية، ولم يكن من السهل على يارا/ ابنة الجبل أن تفكّر به حبيباً،حتى عائلة شادي نفسها لم تتقبله، فأم رائد زوجة أبيه متحفّظة تجاهه، وعمه إبراهيم يقول: "ما بيصير بيت شعبان يكون فيهن واحد مسيحي"، ص99. وأما عمته فاطمة مثلاً فتفكّر بالمجتمع العائي الصغير الرافض للتناقضات الثنائية التي تصبغ حياة شادي وهويته.
لقد كان على شادي أن يختار بين اثنتين: "إما لبنان وعائلتي المجهولة، وإما حياتي في باريس بعيداً عن اليتم والتشرّد"، ص34، وبناء عليه كان يتوجّب أن يحسم خياره بين أن يكون شادي نصّار أو شادي شعبان، ويحسم خيار قلبه تجاه جوليا أو يارا. وإذا كان المقطع ما بعد الأخير (التصريح بالتدوين) قد حسم خيار السفر إلى فرنسا، فإنه لم يحسم خيارات قلبه نحو بيروت وأهلها الذين نضحت بهم ذاكرة الحواس جميعاً، من مثل ذاكرة الصوت التي تحكي حكاية أب "كانت في صوته نبرة مترعة بالألم"، ص81.، يتحدّث "بصوت مرتجف وببحة ترزح تحت ارتباك خفيّ"، ص77. وذاكرة اللمس التي تغري شادي  بالسير حافياً على رصيف الماضي، ص20، وذاكرة الرائحة التي يمكن أن نشهد لها أمثلة متعددة تضوع في بيروت، وفي مزار السيدة حريصا على نحو خاص، ص61.
وتنجح غيداء طالب في تقديم الشخصيات بغنى سيكولوجي لافت، وبشكل خاص شخصية شادي؛ فهي تبرع في تصوير ألمه وتناقضاته وشوقه وهيامه بكل من حبيبتيه؛ إذ تصوره باحثاً في عيني جوليا عن فرحة صباه، ص154، وباحثاً في الآن ذاته في عيني يارا عن نجاته: "أشعر بأنّ عيني يارا هما المركب الذي سينتشلني من عمق وحدتي"، ص23.
بقي أن نشير إلى مغامرة جريئة قامت بها غيداء طالب معتمدة على ازدواجية الجنس، فالبطل الذي يشغل المساحة الكبرى من السرد مذكّر، والروائية/ المؤنث تنجح في تصوير أدقّ مشاعره الإنسانية، وهي إلى ذلك تستخدم ثنائية لغوية فصيحة تبلغ غاية الشاعرية في بعض الأحيان، وعامية محملة بزخم الواقع وهموم الناس وأحلامهم وأغانيهم.
"بين ذاكرتين" إضافة مهمة، ليس لغيداء طالب وحدها، بل للرواية النسائية العربية؛ لأنها لا تستسلم لغواية الموضوع الأنثوي، بل تتجاوزه لتعالج موضوعات نفسية، وأوضاع سياسية تعيشها مجتمعاتنا العربية، وتجعل تلك الأوضاع خلفيات لأحداث روايتها، دون أن تغرق في مستنقع الذهنية الجافة، والخطاب السياسي الأجوف.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
1 ـ غيداء طالب: بين غمازتين، دار نوفل، بيروت، ط1، 2018.
2 ـ رواية الـ "مابين" أو رواية الـ "بين بين": رواية تحتفل احتفالاً باهراً بالثّنائيّات (وخاصة الضدّيّة منها)، سواء أكانت مضمونيّة أم فنيّة. وقد عقد د. رشيد بن حدّو كتاباً كاملاً عنوانه "جماليّات المابين في الرّواية العربيّة"؛ لتقصّي التجليّات الفنيّة لبعض تلك الثّنائيّات.

 

تعليق عبر الفيس بوك