قراءة في “ نصف شمس صفراء “


غادة سعيد  - إسبانيا


قليلة هي الروايات التي تحرضك على إتمامها بعد أول سطر.. وتستهويك إلى درجة كتابة قراءة لها، وتجد نفسك أمام أنامل لا تتوقف... رواية “ نصف شمس صفراء “، ترجمت إلى خمس وثلاثين لغة وبيعت منها حوالي ثمانمائة ألف نسخة. وهي للكاتبة الشابة شيما ماندا نغوزي أديشي، النيجيرية من عوالم واقعية، ثراء النصوص توفر - للقارئ ضربا من الخيال- فضلاً على  الواقع بذاته، ليبدو بسلطته مرجعاً أثيراً بحيوات نابضة، وحكايات متصلة ومنفصلة في آن واحد، لكن خيطها السردي يمتد بحرير لغتها وكثافة هواجسها، وتيمناتها المتواترة أيضاً ، ومنها تجارب المهاجرين النيجيريين في أمريكا، وانعكاس الحرب الأهلية النيجيرية على المصائر البشرية.
يتميز أدب أديتشي بتأثرها البالغ بأجواء الحرب التي مر بها مجتمعها، إذ نجدها في معظم أعمالها كعدو حاضر يؤثر على المجتمع مما يؤدي إلى إصابة المجتمع بالعديد من الأمراض.  وتتعرض لمواضيع تمس المرأة في قصة مهمة جدا “,”الانتقال إلى الألق“,” والمعايير المزدوجة التي يتعامل من خلالها المجتمع النيجيري مع المرأة، كما اهتمت بمواضيع مثل القهر الجماعي لها ولقضايا المهمشين واللاجئين.
تعرضت أديتشي في عملها (نصف شمس صفراء) لتجارب مؤلمة لامرأة شابة من قبائل الإيجبو في نيجيريا – حيث تنتمي (Adaobi ) وعائلتها في وقت الحرب الأهلية النيجيرية في أواخر الستينيات من القرن الماضي حينما طالب إقليم بيافرا بالاستقلال عن نيجيريا.  الآمال والأحلام البديهية للأسرة حول مسألة استقلال دولة بيافرا في شرق نيجيريا بعد انفصال المنطقة عن بقية البلاد، تنتهي بخيبة الأمل.
ووصفت المجازر اليومية والجوع والمرض الذي يجعل العديد من أعضاء أسرة Adaobi يطالب بالعودة إلى حكم نيجيريا ومن ثم تتحطم آمال بيافرا. على الرغم من أن أديتشي ولدت بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب، حيث ذكرت أنها “,”شعرت دائما بالرعب العميق الذي وقع على أهلها بسبب الأعمال الهمجية التي جرت مع إحساسها الكبير بالشفقة على المظلومين“,” .
على الرغم من ذلك، فإن خلقها للشخصيات والأحداث يشعر القارئ أنها كانت شاهدة على الحرب رأتها رأى العين، حيث أثرت الحرب بشكل دائم على هوية الأجيال من قبائل الإيجبو، ويرى أثر هذا بشكل لا يمحى في قوة البطلة Adaobi ، حتى بعد استسلام بيافرا. وقالت إنها ترفض الارتباط برجل من قبائل الهوسا بالرغم من كونه كان بعيدا في إنجلترا خلال الحرب.
ترجمة “ نصف شمس صفراء “ إلى العربية، أظهر نمطا من القص بخصوصيته، ووقف على أدب جديد يمثل حساسية لافتة، ويغري باكتشاف فضاءات خصبة، يتعانق فيها الواقع مع الخيال، مع الأساطير، وإذا كانت شيما ماندا تختار أماكنها برموزها وحيوات أبطالها الواقعيين، فهي تذهب فيما وراء الحرب الأهلية النيجيرية، لتسرد وقائع يغلفها التمرد أو الأسى. ومواكبة الفضاءات الإنسانية تنشد مقاربة فردوس مفقود، لكنه الجحيم الذي يستحق «نصف اغماضة ولكن باتساع» لتجعل من أغاني «الاغبو» دالة جذرها الافريقي الحي، وكخلفية لأحداثها، وكذاكرة للمذابح ومدى ما تلقيه على النفوس من قلق وتوجس، لتنشئ سيراً أخرى لناس مازالوا على قيد الحياة ، تتنازعهم «الهوية.... وهو شيء وقفت عليه مجموعة من الشعوب العربية وتتقاطع مع في الخصائص، و ذلك مرده اولا الى الاستعمار، و ثانيا الى الانتقال للعيش في المدن الحديثة كما مر من المستعمر، عبر مراحل تاريخية واقتصادية، و التي لم تتوفر شروطها في دول العالم الثالث... المُستعمرة.
الألم كما في نصف شمس صفراء التي حملت عنوان مجموعتها... الألم الذي تراهن الكاتبة عليه «نحول ألمنا إلى أمة عظيمة، سنرفع من ألمنا مجد إفريقيا» فيما تبدو أغاني «الاغبو» ومقولاتهم كحوافز نصية موزعة بإحكام لتكثف رؤيتها بما يجري من أحداث ووقائع... هي ريشة النسر الخبير الناضج تظل دائماً نظيفة، هذا العنوان الدال سوف نراه بظلاله الكثيفة في متونها الحكائية، وفي متابعتها لصيروات شخصياتها«تتمادي» أو العائلة أو مطاردة أحلام عصية، أو صور الجحيم الذي خلع الأرواح ،وبددها في فضاءات «بيافرا» نصف شمس صفراء لا تزين ربطة عنق، إنها مجاز الجحيم الذي تبرع الكاتبة في وصفها كحقيقة طاردة لأوهام الظفر بالفردوس، أو استدعاء الزمن المحلوم به، خارج وقائع الحرب وفظائعها وأهوالها«كانوا بشراً مثل أولئك الذين قتلوا الخالة ايفيكا».
كانوا بشرا مثل الذين أجهضوا الأطفال وهم في بطون أمهاتهم، تقول بطلة شيما ماندا وهي تتعثر بجسد جندي نيجيري، وتتساءل عن طريقة موته وكيف كان شكل حياته، فكرت بعائلته..زوجة تقف في انتظاره خارج المنزل وعيناها مصوبتان نحو الطريق ، نحو أخبار عن زوجها تتحدث الكاتبة عن ملح سوريالي وجد في نيجيريا ، وكان سبب اجتياز سعيها إلى الحدود ، وهي ترصد انتقال نيجيريا من السير على جهة الطريق اليسارية إلى السير على جهة اليمين، ماذا يعني ذلك هل أصبح الشعب نيجيرياً مرة أخرى ؟!
ثمة ما تثيره - قصصها الأخرى- في انتقالاتها بين صور الموت وصور الحياة، من قضايا لعل أبرزها ليس الحديث عن الأوبئة والفقر والفساد، ومآسي الأطفال ومحنة العلماء فحسب، بل عن المفارقات ذات الطابع «التراجيدي- الكوميدي» وجوهرها السعي لإرضاء الغربيين كما في «أنت في أمريكا» كما يحدث مع المهاجرين الافريقيين الذين يرون الانفتاح المثير في أمريكا ، تقول مغتربة «إنها ليست شيئاً مثل الوطن (نيجيريا) هذه هي أمريكا..لتقارن في أنماط العادات والتقاليد والأمزجة، من خلالها بطلتها «أكيوننا» المهاجرة والمسحورة بأجواء أمريكا ، والتي تعتقد أن كل شخص فيها يمتلك سيارة وبندقية،أمريكا فرصة للأعمال والأحلام، الآخر الذي نفعل كل شيء لارضائه، لتعود وحيدة إلى وطنها بعدما غادرها ذلك الشيء حول رقبتها...
يتدفق السرد لدى شيماماندا وهي تبرع باستخدام ضمائر السرد وأساليبه توزع ذاكرتها الروائية على تحولات شخصياتها ، تؤرخ لمن تعرفهم، أو تسمع عنهم، لعل سردها بتلك الطرق المباشرة أو الكنائية يستبطن سيرتها بشكل موارب، وسيرة شعبها ، لترسم صورة كلية لافريقيا السوداء على الخصوص، بتأريخ وجدانها الجماعي وصوغها لمحكيات مألوفة في تراث تلك الشعوب ، بيد أن ميزتها الباذخة في تشكيل رؤيتها لعالم لا يسيره السحر، أو الشعوذة، أو الأساطير، أو لعنة الحروب، بل تسيره جذورها الضاربة في عمق تاريخ وثقافة وحضارة، رغم شتات الأرواح، وتوتر لغة صادمة تعكس توتر الروح لتنسج حكاياتها- فتثري معرفتنا بثنائية الألم والشجن- فنقرأ كتابة مغايرة، ومغامرة عن عالم آخر يتشظى بصيرورة الهواجس الابداعية..يكاد يشكل من جديد كما الأمل.

 

تعليق عبر الفيس بوك