الانبعاث في شعر خليل حاوي.. "نهر الرماد" و "الناي والريح" نموذجا (3)


د. إحسان صداق اللواتي – جامعة السلطان قابوس


على الرغم من كل صنوف التخلف، التخلف الذي يجعل الحياة أشبه شيء بالموت، فإنّ خليل حاوي يلحّ في التركيز على وجود أمل بالانبعاث. والأمل هنا ليس أملًا خياليًا متناسيًا ما في الواقع من تخلف، بل على العكس تمامًا، فهو أمل يلاحظ كل الوهن والموت في الواقع، ومع ذلك ينطلق من البين، ناصعًـا أخاذًا، من حيث لا يتوقعه المرء. فهو تارة ينطلق من عينيّ البغيّ التي يخاطبها الشاعر بقوله:
وتغنّين، كأنّ الظل في عينيك
ما مات، ولا الينبوع غارا (1)
وثانيةً ينطلق من خلال كوى السجن:
الكوى ما للكوى تنشقّ
عن صبح عميق(2)
وأخرى ينبثق من أعماق الأرض التي بقيت ترزح تحت وطأة الجليد:
كيف ظلّت شهوة الأرض
تدوي تحت أطباق الجليد
شهوة ٌللشمس، للغيث المغنّي(3)
    ومن هنا يأتي تنبيه الشاعر على أننا مهما بدت علينا علامات الموت وإماراته، فإننا لم نمت موتًا كاملًا. إننا ما نزال أحياء، وكل ما في الأمر أننا قد تعبنا من كل ضروب التمويه والضياع المحيطة بنا:
خففوا الوطء
على أعصابنا يا عابرين
نحن ما متنا، تعبنا
من ضباب وسخ
مهترئ الوجه، مداجي(4)
وسوف يأتي اليوم الذي ننهض فيه من رقدة تعبنا هذه، لنجعل الأمة تنهض، ونهزم الزمان شر هزيمة:
ويمرّ العمر مهزومًا
ويعوي عند رجليه
ورجلينا الزمان(5)
    ويتقوم أمل الانبعاث، في نفس الشاعر، بوجود مجموعة من العناصر في هذه الأمة، تملأ بوجودها كيان الشاعر تفاؤلًا بالمستقبل الواعد، وأهم هذه العناصر: الجيل الصاعد بشبّانه وأطفاله. فالشبّان – رغم أنّ صورهم ليست كثيرة التكرر في الديوانين – يقترنون دومًا بالصفاء والأمل والمستقبل المكتنز بكل الخيرات:
بي حنين لعبير الأرض
للعصفور عند الصبح، للنبع المغنّي
لشباب وصبايا
من كنوز الشمس، من ثلج الجبال(6)
أما الأطفال فهم العنصر الرئيس الذي يشحن نفس الشاعر أملًا وتفاؤلًا، فيجد في حبهم خمرًا وزادًا لنفسه:
وكفاني أنّ لي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزاد(7)
    والشاعر على ثقة من أنّ هؤلاء الأطفال الذين هم الذين سيعبرون، وتعبر الأمة بواسطتهم، من الشرق بكهوفه ومستنقعاته القديمة، إلى الشرق الجديد؛ لذا يؤكد الشاعر استعداده لأن يتخذ لهم من أضلعه جسرًا يعبرون عليه:
يعبرون الجسر في الصبح خفافًا
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد(8)
    وبهذه الطريقة يتمكن الشاعر من إسكات "بومة التاريخ" وتحديها، تلك البومة التي بقيت تملأ نفس الشاعر أسًى وتشاؤمًا، وتذكّره بالموت القادم لا محالة. "فقد وجد الشاعر الطريقة المثلى لمواجهة هزائم الأمة المتكررة، بأن تحدى المصير المحتوم (الموت) الذي أصبح يحيط به من كل جانب، بالتوجه إلى عنصر يحمل بداخله سمة التجدد والتطور عبر الزمن... فالطفولة في استمراريتها للحياة تحدٍّ للموت"(9):
اخرسي يا بومة تقرع صدري
بومة التاريخ مني ما تريد؟
في صناديقي كنوز لا تبيد:
فرحي في كل ما أطعمتُ
من جوهر عمري
فرح الأيدي التي أعطت وإيمان وذكرى
إنّ لي جمرًا وخمرا
إنّ لي أطفال أترابي(10)
    وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة، هي أنّ تفاؤل الشاعر بالأطفال ليس قائمًا على أساس كونهم أطفالًا وكفى، فالطفولة في حد ذاتها لا تعني شيئًا في مقامنا؛ إذ من الممكن جدًا أن يكون الأطفال نسخًا مطابقة لآبائهم بنحو تفصيلي دقيق، وعندئذ لا تبقى للطفولة أية قيمة:
طفلهم يولد خفاشًا عجوز
أين من يغني ويحيي ويعيد
يتولى خلقه طفلًا جديد(11)
    فالطفولة بحاجة إلى شيء يعطيها القيمة والأهمية لتصبح، بعد ذلك، قوامًا للتفاؤل بالمستقبل. وما هذا الشيء سوى العناية بتربية الأطفال وتنشئتهم على النحو الصحيح المحقق لآمال الأمة فيهم، تمامًا مثلما كان الشاعر يفعل:
طالما روّضتهم في الريح والثلج
وفي الشمس على جمر الرمال
شئتُهم من معدن الفولاذ سُمرًا
ورياحينًا طوال(12)
    وإلى جانب الشبان والأطفال، يتقوم أمل الانبعاث في نفس الشاعر بعنصر آخر، هو "الشاعر"، فللشاعر أهميته الكبيرة، في نظر حاوي، في القضاء على سطوة الموروثات العتيقة التي لم تعد تجدي الأمة نفعًا اليوم، فهو الذي يوجِّه، بعبارته، الريحَ في موسم غضبها:
ريح تهب كما تشير عبارتي
للريح موسمها الغضوب
للريح جوع مبارد الفولاذ
تمسح ما تحجّر
من سياجات عتيقة(13)
    والريح هنا، سواء أقلنا هي "إمكانية التمرد واليقظة الكبرى على الواقع"(14)، أم رمز للبعث العربي(15)، أم "تجسيد للعقل المنضبط"(16)، تحمل دلالتها الواضحة على الفاعلية التغييرية للواقع. وإذا كان الشاعر هو الذي يوجه هذه الريح، فبهذا "يؤكد حاوي إيمانه بالدور الكبير الذي يلعبه الشعر في الثورة على صور التخلف والانحطاط وإبداع عالم النهضة المنبعث بعد موات"(17).
ويستمد الشاعر، في نظر حاوي، أثره التغييري للواقع من رؤياه التي يستطيع بها أن يستشرف آفاق المستقبل ويقرأ ما في رحم الغيب، مثل السندباد الذي ضيّع كل ما كسبه من أموال التجارة، ليعود من رحلته الثامنة، وقد كانت "رحلة عجيبة لأنه سافر فيها عبر نفسه ودياميسها وأنفاقها"(18)، يعود حاملًا معه بشارة الانبعاث:
ضيّعتُ رأس المال والتجارة
عدتُ إليكم شاعرًا في فمه بشارة
يقول ما يقول
بفطرة تحسّ ما في رحم الفصل
تراه قبل أن يولد في الفصول(19)
    لكن لمّا كان من الطبيعي ألّا يكون جميع الشعراء متحملين مسؤولياتهم إزاء الأمة وانبعاثها، فقد صبّ خليل حاوي سخريته الكاوية ونقده اللاذع على الشعراء المتخاذلين، وصوّرهم بصور مختلفة تقدّم ذكر إحداها، وهذه صورة أخرى:
وأرى، أرى الطاووس يبحر
في مراوح ريشه
نشوان يبحر وهو في ظل السياج
ويظن أن الورد والشعر المنمق
يستران العار في تكوينه والمهزلة
في صدره ثديان
ما نبتا لمرضعة
ولا للعانس المسترجلة
ثديان يأكل منهما عسلًا
ويحصد منهما ذهبًا وعاج(20)
    حاوي يتحدث هنا عن الشاعر "الطاووس" الذي يلوذ وراء تنميقاته وتزويقاته اللفظية، مثلما يلوذ الطاووس وراء جمال ريشه، لكي يستر به العار الماثل في تكوينه. ويمعن حاوي في سخريته من مثل هذا الشاعر حين يصوّره غير محدد الجنس، فهو ليس رجلًا قطعًا، وإلا لما كان له ثديان، وهو ليس امرأة أيضًا، فثدياه ليسا كأثداء النساء (ما نبتا لمرضعة)، بل إن ثدييه لا يشبهان ما لدى " العانس المسترجلة" أيضًا. ومع كل هذا، فهذا الشاعر لا يمكنه التخلص من هذين الثديين، فلولاهما لما أكل العسل، ولما لبس الذهب والعاج.
ملامح الانبعاث ومتطلباته:
لم تقتصر تجربة خليل حاوي، في التعامل مع الانبعاث، على الإشارة إلى وجود الأمل، بل تعدّت ذلك إلى الحديث عن بعض ملامح هذا الانبعاث وبعض متطلباته الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها في حال من الأحوال. فمن هذه الملامح، مثلًا، إشارته إلى أن الانبعاث لا بد أن يكون من داخل هذه الأمة، من إمكاناتها الذاتية، فلا يُفرض عليها من خارجها. وفي هذا يقول:
ما له ينشقّ فينا البيت بيتين
ويجري البحر ما بين جديد وعتيق
صرخة، تقطيع أرحام،
وتمزيق عروق(21)
"وهنا يتكشف خليل حاوي كشاعر ثوري حق، لا لأنه آمن بالبعث فحسب، بل أيضًا لأنه آمن أن البعث لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل من حركة انفصام داخلي"(22). بهذا فقط يكون الانبعاث انبعاثًا حقيقيًا، وإلا فلو كان قد فُرض على الأمة من خارجها، لما استحق هذه التسمية.
    ومن ملامح الانبعاث التي يتكرر ورودها في شعر حاوي، كون الانبعاث مترافقًا مع الشدة والعنف، فالمخدوعون النائمون في "مدينة التمويه والطهارة" لا بد لهم من يوم يستفيقون فيه، وعندما يرون التخلف الذي هم فيه، لا بد أن ينتفضوا، ويدمروا، ويحرقوا:
مدينة التمويه والطهارة
مدينة الأفيون تستفيق
فتبصر الأدغال تغزو سورها العتيق
وتبصر الحجارة
تفرّ من الطريق
ومن كهوف شبعت مراره
تفور قطعانٌ جياع
ليس يرويها سوى التدمير والحريق(23)    وإذا كانت الشدة والعنف سيتحققان لا محالة، فإنّ على المرء إذن أن يكون مستعدًا لأن يموت في سبيل قضيته، في سبيل الحياة. هكذا هو الشاعر، كما يخبرنا عن نفسه:

وأنا في حبكم، في حبكنّ
-    ومدى الزنبق في تلك الجباه –
أتحدى محنة الصلب

أعاني الموت في حب الحياه(24)
وهكذا يريد الشاعر من الجميع أن يكونوا:
فلنعانِ من جحيم النار
ما يمنحنا البعثَ اليقينا(25)
    ليس  الانبعاث، إذن، مناسبة للغرق في الأحلام الطوباوية السعيدة والفرار من مجابهة الواقع. إنه مسؤولية، وما دام كذلك فلكل مسؤولية تبعاتها التي لا بد من تحمّلها. وهذه الحقيقة تقودنا إلى نقطة أخرى، إلى متطلّب آخر من متطلبات الانبعاث، وهو تطهير الذات. فليس يمكن للأمة أن تهنأ بالانبعاث الحقيقي ما لم يسعَ كل فرد من أفرادها إلى تطهير ذاته من كل ما علق بها من سمات التخلف القديم. يقول الشاعر:
عدتُ في عينيّ طوفان من البرق
ومن رعد الجبال الشاهقة
عدتُ بالنار التي من أجلها
عرّضتُ صدري عاريًا للصاعقة
جرفت ذاكرتي النارُ وأمسي
كل أمسي فيك يا نهر الرماد:
صلواتي سِفر أيوب، وحبي
دمع ليلى، خاتمٌ من شهرزاد
فيك يا نهر الرماد(26)
نقابل الشاعر هنا وهو في حال تصميم أكيد على التخلص من الماضي، وتطهير ذاته منه؛ لذا يلقي بذاكرته في النار، وبأمسه في "نهر الرماد". لكن ما مكونات هذا الأمس الذي يتخلص منه الشاعر؟ إنه يذكر لنا بعض هذه المكونات: "صلواته" التي ترتبط بـ "سِفر أيوب"، وأيوب يرتبط اسمه بالصبر والتحمل، ولا شك أنّ الشاعر يعني هنا التخلص من الصبر الذي يرادف السكوت عن المطالبة بالحق، ومن ثَمّ الخضوع للظلم. ومن هذه المكونات أيضًا "حبه" الذي يرتبط بـ "دمع ليلى"، ودمع ليلى يجرنا إلى حب قيس لها، إلى الحب الذي يلخص كل حياة الإنسان، ويحول بينه وبين تحمّل المسؤوليات والاهتمام بشؤون الأمة والناس. وأخيرًا يبقى من هذه المكونات "خاتم من شهرزاد"، وشهرزاد تقترن في أذهان الجميع بحكاياتها الطويلة في "ألف ليلة وليلة"، تلك الحكايات التي كان يُراد منها إلهاء شهريار، وجعله يستغرق في عالم الخيال المجنح، بدلًا من الالتفات والتوجه إلى أمور المملكة والرعية. وبكلمة، فإنّ ما يريد الشاعر إحراقه هنا هو كل ما من شأنه أن ينسيه ما هو مطلوب منه من اهتمام بقضايا أمته، هذا ما تراه الدراسة الحالية، وإن كانت ثمة اجتهادات أخرى بطبيعة الحال(27).
    وفي قصيدة "الناي والريح في صومعة كيمبردج"، نلتقي برمز أساس من الرموز التي يقوم عليها بناء القصيدة كلها، وهو "الناي". والناي هنا، في دلالته القريبة، "يُرمز به إلى الحب والأهل والخطيبة"(28)، أو بعبارة أخرى هو يمثل "ذكريات الشاعر المحببة وأشواق شبابه الضائع الحزين"(29)، ولكننا إذا حاولنا أن نذهب بدلالة الناي إلى أبعد من هذا، فسنراه "رمزًا للقيود العاطفية التقليدية التي تشلّ خطوته وتعوقه عن الانطلاق إلى آفاق التجربة البكر، ثم يصبح الناي رمزًا لكل القيود البالية"(30)، وهكذا يدخل الناي في سياق الأمور التي يجب التطهر منها، ليتحقق بعدها الانطلاق مع "الريح" في الآفاق الرحبة الجديدة.
    وما دام الحديث هنا هو عن ملامح الانبعاث ومتطلباته، فحريّ بنا أن نتوقف قليلًا عند الدين، لنتساءل عن موقعه من كل هذا، فهل يصطدم الدين، أو يتنافى، مع الانبعاث المرتقب؟
يلاحظ، في البدء، أنّ خليل حاوي ينتقد من الدين جانب القيود التي يفرضها على التفكير الحر فيما هو من مصلحة الأمة. يبدو هذا واضحًا في قصيدة "الناي والريح في صومعة كيمبردج"، فالشاعر كان مشغول البال بـ"الريح" التي لا بد أن تنطلق في موسمها الغضوب لتمسح السياجات العتيقة المتحجرة، وكان يفكر في التحرر من قيود "الناي" لينطلق مع "البدوية السمراء" في رحلة إبداعه الشعري الهادف، وفجأة أطلّ عليه "الناسك" – والوصف ديني بلا ريب – ليوقف تفكيره عند حده:
الناسك المخذول في رأسي
أهملت فرضك،
هل جننتَ فرحتَ تحلم في النهار
حلم النهار
مدى النهار؟(31)
وما دام الدين، في هذه النظرة، يحجر على العقول أن تنطلق في تفكيرها الحر، فمن البدهي أن يكون الدين، إذن، سببًا لوأد الخصب المنتظر:
وكاهن في هيكل البعل
يربّي أفعوانًا فاجرًا وبوم
يفتضّ سر الخصب في العذارى(32)
لكن يبدو أنّ الشاعر لم يكن، في الصورتين المتقدمتين، ينتقد الدين ذاته، بل الدين كما يُفهم ويُطبّق، بدليل أنّ الفعل الآثم، في المرتين، كان فعل ممثلي الدين: الناسك والكاهن.
وأشد شيء يثير حفيظة الشاعر ويفجر غضبه هو أن يُفهم الدين وسيلةً للتخلي عن المسؤوليات، اعتمادًا على الجانب الغيبي، فيتوقف الناس عن العطاء المثمر الخيّر، بحجة أنّ الله هو الموفّق وهو الرازق. ومثل هذا التواكل السلبي على الغيب لن يقود الأمة إلا إلى مزيد من الغرق في الظلمات:
عبثًا كنّا نصلّي ونصلّي
غرّقتنا عتمة الليل المهلّ(33)
يريدنا الشاعر أن نفهم، بوضوح، أنّ عصر المعجزات، بمعناها التقليدي المعروف، قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ المعجزات في هذا العصر لا تكون إلا بجهد الإنسان وكفاحه وعطائه؛ لذا نجده يقول:
أترى يولد من حبي لأطفالي
وحبي للحياة
فارس يمتشق البرق على الغول،
على التنين، ماذا هل تعود المعجزات؟
بدوي ضرب القيصر بالفرس
وطفل ناصري وحفاة
روّضوا الوحش بروما، سحّبوا
الأنياب من فك الطغاة
ربّ ماذا؟
ربّ ماذا؟
هل تعود المعجزات؟(34)
الشاعر هنا يريد المعجزة، ويتمناها بإلحاح، معجزة كمعجزة الخضر الذي قاتل التنين، أو كمعجزة النبي محمد (ص) البدوي الذي ضرب القيصر بالفرس، أو كمعجزة المسيح عيسى، الطفل الناصري الذي تمكن مع حفاته من حوارييه من ترويض الوحش بروما، لكن أي نوع من المعجزات هذا الذي يريده الشاعر؟ إنه النوع الذي – كما أخبرنا منذ البدء – يولد من حبه لأطفاله، ومن حبه للحياة. ومعلومٌ أنه لا يولد من حبه لأطفاله وللحياة إلا العطاء لهؤلاء الأطفال، والعمل لإغناء تلك الحياة بكل ما هو جميل ومفيد، وليست المعجزة المطلوبة شيئًا سوى هذا.
والمعنى نفسه نجده أيضًا في قول الشاعر:
ليحلّ الخصب ولتجرِ الينابيع
ويمضِ الخضر في إثر الغزاة
فارس يولد من حبي لأطفالي
وحبي للحياة(35)
    الخضر هنا ليس هو سبب الخصب، خلافًا لما تقوله المعجزات المأثورة. إنه هنا مجرد تابع للغزاة الذين هم سر الخصب في الحقيقة، بل الخضر أصلًا يستمد كينونته ووجوده من حب الشاعر لأطفاله وحبه للحياة، أي أن الخضر ليس سوى عنوان للعطاء الصادق المخلص الذي يقدّمه الشاعر لأطفاله وللحياة، بكل سخاء. وبهذا كان خليل حاوي "يريد أن يكون الإنسان صانعًا لقدره وصانعًا لمصيره، ويعتبر ذلك شرطًا من شروط الكرامة الإنسانية والجدارة، وتمرسًا يوميًا بالحرية الفذة"(36).
ويبدو أن هذه الفكرة كانت من الأفكار التي تبلورت عند خليل منذ حداثة سنه، وبرزت في مجموعة من مواقفه وتصرفاته، كهذا الموقف الذي يحدّثنا عنه أخوه إيليا:
"كان خليل يقول للوالدة إنه عازم أن يفعل أمرًا ما في الغداة الباكرة، فأجابت الوالدة: قل إن شاء الله، فردّ خليل: إن شاء أو ما شاء، سأفعله"(37).
ما يريده خليل حاوي، إذن، أن يكون الإنسان حرًا في تفكيره، وألّا يقف إيمانه بالغيب حجر عثرة في طريق عطائه وكفاحه. وإذا تحقق الشرطان في ظل الدين، فلا منافاة، عندئذ، بين الانبعاث والدين.
أساطير ورموز:
استعان خليل حاوي، في تناوله لموضوعة الانبعاث وبيان أصالتها، بمجموعة من الوسائل الفنية، لعلّ من أهمها: الأساطير. واللجوء إلى الأسطورة هنا فيه إشعار بشدة إلحاح الفكرة، فكرة الانبعاث، على ذهن الشاعر وكل وجدانه، هذه واحدة. والأخرى هي أن اللجوء إلى الأسطورة مشعر بأنّ الفكرة المعروضة هنا هي فكرة أصيلة راسخة، وليست مجرد متطلّب وقتي زائل، إذ "لا يعود لجوء الفن الحديث إلى الأساطير ارتدادًا إلى البدائية يتعارض مع التطور الحضاري، بل استجابة لحقيقة إنسانية مطلقة لا يحدّها زمان ولا مكان"(38). ومن أبرز أساطير البعث والتجدد التي يستعين بها حاوي في ديوانيه الأولين: بعل وتموز والعنقاء، وإلى جانبها قد يستعين أحيانًا بشخصيات تاريخية أو تراثية شعبية مثل: المسيح والخضر والسندباد.
والملاحظ على توظيفات حاوي الأسطورية والتراثية أنه قد يجمع بين مجموعة من الشخصيات أو الأساطير في اللوحة الواحدة، كما في قوله:
يا إله الخصب، يا بعلًا يفضّ
التربة العاقر
يا شمس الحصيد
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عقم دهاها ودهانا(39)
فهو يجمع هنا بين كل من: بعل والمسيح (بدلالة ذكر "الفصح") وتموز، وهذا الجمع يدل على أنّ الشاعر ليس له غرض خاص بواحد معيّن من هذه المدلولات، فمراده إنما هو الروح المشتركة بين جميعها، أي الانبعاث والتجدد.
والملاحظة الأخرى في المقام، هي أنّ حاوي قد لا يكتفي بتوظيف الأسطورة كما وردت، بل يسعى إلى تحويرها وتعديلها لتتلاءم مع الرؤية التي يريد لها أن تحملها. هذا واضح جدًا في تعامله مع السندباد، الشخصية التراثية المعروفة. فخليل يخترع للسندباد رحلة ثامنة، هي رحلة إلى داخل نفسه، ومنها يعود السندباد خاسرًا كل أمواله وقد ربح الشعر، فصار شاعر البشارة، وهذه أحداث لم يعرفها السندباد الأصلي قط!
وإلى جانب الأساطير والقصص التاريخية والشعبية، يستعين حاوي، في تأكيده أمل الانبعاث، بالرموز. وأهم هذه الرموز وأكثرها استعمالًا عنده هي الرموز الجنسية. فالفعل الجنسي في شعره فعل مثقل بدلالات الخصب والولادة والبعث. وهذا واضح وظاهر في موارد كثيرة من شعره، منها المثال المتقدم قريبًا، ومنها المثال الآتي:
لن تموت الأرض إن متّم
لها بعل إلهي قديم
طالما حنّت إليه عبر ليل العقم
أنثى والهة
فضّها البعل وروّاها
فغصّت بالرجال الآلهة(40)
فالأرض لن تنتهي، والحياة لن تتوقف، بنهاية هؤلاء الذين عدّهم الشاعر من أهل "سدوم"، بل ستظل الحياة تتجدد، والخصب يتجدد، ما دام هناك فعل جنسي رمزي بين الأرض وزوجها الذي هو "بعل إلهي قديم". وبما أنّ الفعل الجنسي هنا هو بين الأرض من جهة وزوجها البعل الإلهي من جهة أخرى، فمن الطبيعي، إذن، أن يكون النسل الجديد من "الرجال الآلهة"، وهي إشارة إلى تميز صفات الجيل الذي سيتحقق على يديه للأمة انبعاثها ونهوضها.

الخاتمة:
بعد هذا التطواف مع "الانبعاث" في شعر خليل حاوي، كما تبدى في ديوانيه الأولين "نهر الرماد" و "الناي والريح"، خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج، أبرزها:
-    يشكل الانبعاث موضوعًا أساسيًا قامت عليه رؤية الشاعر في الديوانين، بل ليس من المبالغة أن يقال إنه يمثّل الركيزة الأولى للبنية الدلالية فيهما.
-    سعى شاعرنا إلى أن يكون الانبعاث في نظره ذا صبغة واقعية غير مثالية؛ لذا وجدنا بريق الفكرة يقوى ويخفت تبعًا للحالة التي عليها الأمة في وقت الكتابة.
-    الواقع العربي المتخلف يمكن اختصاره في صورة الموت التي ظلت تتردد في مواضع مختلفة من الديوانين.
-    كانت لهذا الموت مجموعة من التجليات أهمها: موت الإرادة والإحساس، وسقوط الكرامة، وبيع الضمائر، والزيف والتمويه.
-    يرى حاوي أنّ نضارة الحاضر، إن تحققت، هي التي ستحفظ للماضي شأنه ورفعته، فمن ليس قادرًا على بناء حاضره لا يستحق أن يظل له ماضٍ أيضًا.
-    المهم من الماضي والحاضر أن نبحث عما هو فطري وأصيل يستحق البقاء.
-    مع كل صنوف الموت المسيطرة، فإنّ الأمل بالانبعاث يظل موجودًا، وسيأتي يوم نهزم فيه الزمان شر هزيمة.
-    أهم ركائز الانبعاث في وجدان الشاعر تتمثل في الجيل الصاعد من الشبّان والأطفال، فهم أمل المستقبل، وكذلك قيام الشعر والشعراء بما هو مطلوب في مقام استشراف المستقبل وصياغة ملامحه.
-    يتطلب الانبعاث أن يكون من داخل هذه الأمة واعتمادًا على إمكاناتها الذاتية، كما يتطلب أن يكون مترافقًا مع الشدة والعنف.
-    الدين لا ينبغي اتخاذه بديلًا عن العمل وتحمّل المسؤوليات، اعتمادًا على الجانب الغيبي.
-    وظّف الشاعر الأساطير والرموز توظيفًا مناسبًا ساعده على إبراز ما يحمله من تطلعات ورؤى في صور فنية وجمالية بديعة.
مراجع المقالة الثالثة:
المراجع:
1)    الديوان، ص 69- 70.
2)    الديوان، ص 101.
3)    الديوان، ص 124.
4)      الديوان، ص 246. ولعل "عابرين" هنا خطأ طباعي، فالصحيح نحويًا: عابرون.
5)      الديوان، ص 252.
6)      الديوان، ص 133- 134.
7)      الديوان، ص 165.
8)      الديوان، ص 168- 169.
9)      مي المغايرة: "الزمن في شعر خليل حاوي"، رسالة ماجستير، ص 38.
10)      الديوان، ص 171.
11)      الديوان، ص 166.
12)      الديوان، ص 154- 155.
13)      الديوان، ص 208.
14)      أمطانيوس ميخائيل: دراسات في الشعر العربي الحديث، ص 43.
15)      يوسف نور عوض: رواد الشعر العربي الحديث، ص 221.
16)      إيليا حاوي: "المضمون الوجودي في الناي والريح"، ص 77.
17)      ريتا عوض: خليل حاوي، ص 49.
18)      إيليا حاوي: "خليل حاوي، ملامح وثوابت في سيرته وشعره"، الآداب، العدد 6 للعام 1992، ص 43.
19)      الديوان، ص 210- 211.
20)      الديوان، ص 167.
21)      جورج طرابيشي: "خليل حاوي بين نهر الرماد والناي والريح"، ص 15.
22)      الديوان، ص 265- 266.
23)      الديوان، ص 135.
24)      الديوان، ص 126.
25)      الديوان، ص 149- 150.
26)      انظر مثلًا ما ذكره يوسف حلاوي: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 152- 153.
27)      يوسف نور عوض: رواد الشعر العربي الحديث، ص 221.
28)      أمطانيوس ميخائيل: دراسات في الشعر العربي الحديث، ص 43.
29)      عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 219.
30)      الديوان، ص 213- 214.
31)      الديوان، ص 259.
32)      الديوان، ص 120.
33)      الديوان، ص 158- 159. ويبدو غريبًا ما ذكره بعض الدارسين من أن الشاعر أراد هنا أن يشير إلى ما ورثه الغرب عن الشرق من تراث إنساني. انظر: الميداني بن صالح: "السقوط والانبعاث من خلال نهر الرماد"، الحياة الثقافية، العدد 30 للعام 1984، ص 66.
34)      الديوان، ص 160.
35)      إيليا حاوي: "خليل حاوي، ملامح وثوابت في سيرته وشعره"، ص 42.
36)      إيليا حاوي: مع خليل حاوي في مسيرة حياته وشعره، ص 188.
37)      ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، ص 21.
38)      الديوان، ص 119- 120.
39)      الديوان، ص 153.
قائمة المصادر والمراجع:
أ‌-    الكتب والرسائل الجامعية:
1-    إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر، دار الثقافة، بيروت، د.ت.
2-    حاوي، إيليا: مع خليل حاوي في مسيرة حياته وشعره، مؤسسة خليفة للطباعة، بيروت 1986.
3-    حاوي، خليل: الديوان، دار العودة، بيروت 1993.
4-    حلاوي، يوسف: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، دار الآداب، بيروت 1994.
5-    الشيخ، خليل: الانتحار في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1997.
6-    صبحي، محيي الدين: مطارحات في فن القول، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1978.
7-    عباس، إحسان: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ط2، دار الشروق، عمّان 1992.
8-    علي، عبد الرضا: دراسات في الشعر العربي المعاصر، القناع – التوليف – الأصول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1995.
9-    عوض، ريتا: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
10-    عوض، ريتا: أدبنا الحديث بين الرؤيا والتعبير، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979.
11-    عوض، ريتا: خليل حاوي، ط2، المكتبة العالمية، بغداد 1984.
12-    عوض، يوسف نور: رواد الشعر العربي الحديث، مكتبة الأمل، الكويت، د.ت.
13-    المغايرة، مي نايف أحمد: "الزمن في شعر خليل حاوي"، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، إربد، الأردن 1996.
14-    ميخائيل، أمطانيوس: دراسات في الشعر العربي الحديث، د.ن، د.م، 1968.
ب‌-     الدوريات:
1-     بن صالح، الميداني: "السقوط والانبعاث من خلال نهر الرماد"، الحياة الثقافية، العدد 30 للعام 1984.
2-    بيضون، عفاف: "نهر الرماد، رائد الاتجاه الوجودي"، الآداب، العدد الخامس للعام 1958.
3-    حاوي، إيليا: "المضمون الوجودي في الناي والريح"، الآداب، العدد الرابع للعام 1961.
4-    حاوي، إيليا: "قراءة في شعر خليل حاوي"، الفكر العربي المعاصر، العدد 26 للعام 1983.
5-    حاوي، إيليا: "خليل حاوي: ملامح وثوابت في سيرته وشعره"، الآداب، العدد 6 للعام 1992.
6-    دندي، محمد إسماعيل: "من أبعاد الثورة في شعر خليل حاوي"، الموقف الأدبي، العددان 155 و156 للعام 1984.
7-    شريح، محمود: "تجربة المدينة في شعر خليل حاوي"، الفكر العربي المعاصر، العدد العاشر للعام 1981.
8-    صفدي، مطاع: "الشعر: الكون والفساد"، الفكر العربي المعاصر، العدد 26 للعام 1983.
9-    طرابيشي، جورج: "خليل حاوي بين نهر الرماد والناي والريح، من المأساة إلى الملحمة"، الآداب، العدد التاسع للعام 1961.
10-    عساف، ساسين: "السيرة الناقصة كما أملاها خليل حاوي على د. ساسين عساف حين كان طالبًا لديه"، الآداب، العدد 6 للعام 1992.
11-    عوض، ريتا: "خليل حاوي: الشاعر، الناقد، الفيلسوف"، الآداب، العدد 6 للعام 1992.
12-    الموسى، خليل: "الوحدة العضوية الكلية في قصيدة خليل حاوي"، الموقف الأدبي، العددان 149 و150 للعام 1983.

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك