الاستنساخ الشعري.. أدونيس في"ذاكرة البئر" (1)


عبد الجواد خفاجى – ناقد وروائي مصري


جمال عطا ـ ابن أسيوط / مصر ـ كتب ديوانه "من ذاكرة البئر" في ظل غياب النقد ـ بتوجيهاته ومتابعاته ـ عن الساحة الأدبية في صعيد مصر حتى أواخر التسعينيات من القرن المنصرم، أو ربما كتب ما كتب في ظل هيمنة مراكز الحداثة التي ظلت تمارس سطوتها من مركز الحداثة( العاصمة) على أطراف الخريطة حقباً متتالية، والتي كانت تطال بهيمنتها، وبصيغها المحددة للحداثة، وربما ببهرها ـ أيضاً ـ أعين شعراء كثيرين في الأطراف.
 هذا وقد نشر "جمال عطا" ما نشره عن "فرع ثقافة أسيوط بصعيد مصر" في ظل حركة الانفتاح النقدي الحثيثة على صعيد مصر، بعد انكسار حدة المركزية التي ظلت تفرض نفسها على أطراف الخريطة.. انكسرت حدة المركزية، منذ أواخر تسعينيات القرن المنصرم بفعل عوامل ومتغيرات قاهرة مفروضة، ونتيجة لتوجهات سياسية أخرى، الأمر الذي شهد تحركاً حثيثاً للمركز الثقافي نحو أطراف الخريطة، فكان أن شهدنا مثل هذه الهرولة النقدية نحو أرض بكر، وإن كانت هرولة غير محسوبة، حاملة غباراً كثيفاً من نفير الحداثة، ومن دون أن تتوخى الدقة في التعامل الحداثي مع تربة لها سمتها المخصوص، وربما لها حداثتها المخصوصة أيضاً.
والحقيقة أننا لسنا معنيين ها هنا بكل هذا، كما أننا لسنا معنيين بديوان جمال عطا نفسه إلا بالقدر الذي يعزز فكرة قيام بحثنا في الاستنساخ.
فرغم شيوع الاستنساخ بين شعراء الصف الثاني من أجيال الحداثيين العرب إلا أنني لم أعثر على تجربة فاقعة كهذه التي بين يدي، تتيح فرصة قيام البحث على الوجه الذي أبتغيه، إذ ليس بالإمكان دائماً العثور على تجربة منسوخة بشكل فاقع من أصداف تجربة رائدة ـ على نحو ما سنرى.. نعم لقد وفَّرت لي المادة التي أقبض عليها فرصة بحثية أرجو أن أقدم من خلالها فكرة البحث بالشكل الذي أطمح إليه من الوضوح. على أن مصطلح الاستنساخ رغم أنه مستعار من علوم أخرى، إلا أنه نادراً ما صادفني في الحقل الأدبي يتردد عرضاً في ثنايا البحوث النقدية بشكل عابر، وإن كان يرمي مستخدموه إلى نعت التجارب التي لا تتمتع باستقلالها عن تجارب أخرى رائدة، نعم .. أعترف أنني صادفت المصطلح بهذا المعنى المتضمن، لكنني لم أصادف أحداً أصَّل له، أو أفرد له بحثاً مستقلا، أو حاول أن يؤسس من خلاله منطلقاً بحثياً له خطواته الإجرائية على النحو الذي سنقدمه.

******

أما ونحن بصدد النظر في تجربة "جمال عطا" في ديوانه "من ذاكرة البئر" فلعل أسوأ ما في الأمر أن ندرس شعرًا ليس خالصًا لأصحابه رغم مباهاتهم به.. لكنما عزائي الوحيد أنني أقدم مادة نقدية من خلال التركيز على قضية أدبية تهمُّ الأدب من ناحية، ومن ناحية أخرى أزعم جدتها تمامًا ألا وهى قضية "استنساخ التجارب الشعرية".
هكذا يمكنني أن أبدأ مع تجربة "جمال عطا" في ديوانه "من ذاكرة البئر" وقد آثر أن يستنسخ لنفسه تجربة شعرية من بعض أصداف "أدونيس" .. وفي مقام كهذا سنضطر إلى توزيع اهتمامنا بين تجربتين، ومع اتساع تجربة أدونيس فسيكون الأمر مرهقًا جدًا للعثور على تلك الأصداف بعينها التي تم استنساخها.
والحقيقة أن تجربة أدونيس ظلت مغرية لكثير من الشعراء الشباب للسير في فلكها، أو استنساخ بعض أصدافها، لأنها توفر لهم إمكانية تنثير الشعر، حتى وإن لم يكونوا موهوبين، وتلك إشكالية أخرى .

*****
والاستنساخ ظاهرة  نحن نؤصل لها كقضية نقدية في دراستنا هذه، وعليه فإن ما سنقدمه يعد مبحثًا في الأدب الحديث يمكن أن يظهر للوجود، غير أنه مختلف تماماً من حيث المفهوم والإجراء عما كان قائمًا في الماضي تحت مسمى "السرقات الأدبية".
السرقات الأدبية يمكن أن تتم وفق جهد الاستيلاء على النسب، ومن دون أي جهد فني أو لغوي، وهو مبحث قديم في النقد الأدبي له أسبابه وآليات بحث مختلفة عما نحن بصدده.
الاستنساخ مختلف كلية عن السرقات الأدبية، كاختلاف السطو عن التقمص أو التقليد حد تناسي الذات وإمكانياتها، وغلقها على مجرد تقليد نمط معين تتقمصه، حتى تنجح في إعادة إنتاجه ولو بصورة باهتة، مكررَةً على أية حالة نفس النمط على مستوى الفن والرؤية معاً، ومن ثم نحن أمام تكرار تجربة وليس نصوصًا، وغير ذلك تختلف السرقة عن الاستنساخ في المظهر والدوافع والأسباب، ومن ناحية أخيرة تبدو قضية السرقات الأدبية قضية باهتة إذا ما قورنت بقضية الاستنساخ.
نحن هنا بإزاء رصد أصداف معينة في تجربة أدونيس المتسعة تم استنساخها.. هذه الأصداف ومهما يكن حجمها ضئيلاً ـ كميًّا ـ  إلا أنها يمكن أن تشكل كلية التجربة المستنسخة ( بكسر السين الثانية ) باعتبارها غير أصيلة، وامتدادها ـ مهما بلغ ـ  يعنى تكرار نمط يستهويها، ومن ثم تسعى إلى اقتناص أصداف (خلايا) شاردة في ذلك النمط؛ لتشكل منها لَحمة وسدى تجربة محدودة.. من ناحية أخرى كان النقد ولا يزال يعتبر قضية السرقات الأدبية قضية نصوصية يُكتفي فيها بالدراسة النصوصية المقارنة المدعومة ببعض الشواهد التاريخية والبيئية المؤيدة لوجهة النظر، وهذا الجانب من الدرس النصوصي في حد ذاته هو أحد المرتكزات الإجرائية التي سنتكىء عليها في بحثنا هذا، بيد أننا سنتجاوزها إلى جوانب أخرى ميثولوجية ورؤيوية؛ حيث أن المستنسخ ( بفتح السين الثانية ) تجربة وليس نصًا، أو نصوصًا، ومن المعروف أن النص هو الظاهر الفيزيقي للتجربة؛ لذلك يبدأ مبحث الاستنساخ من المستوى النصوصي بالضرورة، لكنما تبقى أبعاد التجربة الأخرى ـ على مستوياتها الرؤيوية والميثولوجية (موجهات الرؤية كالمعتقدات والأساطير وغيرهما) ـ كجوانب أخرى للبحث.
 والاستنساخ على هذا يعني تكرار النمط الفني والرؤيوي لتجربة سابقة ـ على نحو ما سيتضح، وعلى ما سنؤكد فيما يلي.
وعملية الاستنساخ في النصوص التي نحن معنيون بالنظر فيها وإن كانت قد تمت  على المستويات الثلاث، إلا أن درجة الاستنساخ وحدَّته تتوقف على قدرة المستنسخ (بكسر السين الثانية) وموهبته في التقليد، ومدى معايشته ومدى اقترابه من التجربة التي يستنسخ منها، ونقول منها؛ لأن الاستنساخ يتم بالوقوع على أصداف معينة (خلايا) يتم استنباتها في تربة جديدة أخرى تخص المستنسخ ( بكسر السين الثانية )؛ لتنتج تجربة من نفس النمط (الأصل) بحيث لا يصعب على الدرس النقدي كشف أصولها هناك في التجربة الأصل، وبالشكل الذي يتأكد معه عدم أصالة التجربة المستنسخة (بكسر السين الثانية) ومحدوديتها أيضًا، لذلك ربما يتيح لنا نصًا مستنسِخًا ما لا يتيحه نصٌّ مستنسِخ آخر من الشواهد التي تؤكد عملية الاستنساخ على المستويات الثلاث.. بمعنى أن نصًا مستنسِخًا يمكن أن يوفر لنا مساحة واسعة من الشواهد النصوصية والميثولوجية والرؤيوية، بينما يأتي الآخر على درجة من الخبث الفني، أو التوعك الفني، بحيث تضيق مساحة الشواهد أو تتضاءل بدرجة أو بأخرى، لذلك ننوه على التفاوت في الدرجة من الاستنساخ، كما نؤكد على التفاوت في مساحة الشواهد،  لكنما ـ وفي كلٍ ـ يكون البحث ملزمًا ـ بإثبات ما من شأنه تأكيد عملية الاستنساخ على المستويات الثلاث.
كما أن الاستنساخ يختلف عن التضمين الذي يتم وفق إرادة واعية، لا تدَّعي ملكية ما تقتبسه، وتوظفه في سياق نصوصي جديد، له أبعاده الدلالية والرؤيوية الخاصة والمغاير.
وهو يختلف عن التناص الذي يتم وفق إرادة لا واعية ـ في الغالب ـ تتقاطع عفوياً مع نصوص سابقة، هي جزء من مخزون ثقافي تراثي أو معاصر يرقى إلى مستوى الشيوع أو الذيوع، فيما ينتج عنه توظيف نصوصي سابق في سياق جديد له دلالة جديدة ومغايرة، وإن كان يتكيء على دلالات سابقة، ومن ثم فالتضمين أو التناص كلاهما عمل خلاق، إذ يسعى إلى إنتاج دلالات جديدة.. التضمين أو التناص عمليتنا تسعيان إجرائياً إلى احتواء نصوص سابقة في سياق خاص.. بيد أن عملية الاستنساخ تتم في غياب السياق الخاص.
الاستنساخ يتم غالباً بإرادة واعية، ليست معنية بالتقاطع النصوصي العفوي الذي يتم وفق إرادة حرة، كما أنه لا يعطي أبعاداً دلالية أو رؤيوية جديدة، بقدر ما أنه معني بإعادة تجربة سابقة في التاريخ، وهو عملية تتم وفق إرادة مقيدة عند أطر ومحددات ثابتة تخص التجربة الأم / المستنسخة (بفتح السين الثانية)، ومن ثم فهو عملية نمطية غير خلاقة.

 

تعليق عبر الفيس بوك