مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (8)

ناصر أبو عون

 

الجزء 30 - سورة  النازعات – الآيات من (17 -24)
{ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ﴿١٧﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ﴿١٩﴾{فَأَرَىٰهُ ٱلْءَايَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿٢٠﴾ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ﴿٢١﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ﴿٢٢﴾ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ﴿٢٣﴾ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿٢٤﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
بدأ موسى – عليه السلام مخاطبة فرعون: بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله: (فقولا له قولا لينا) [طه: 44]. "وقال له: هل ترغب أن تتطهر من الشرك، وأُرشدك إلى معرفة الله" (فتخشى) لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فَأَرَىٰهُ ٱلْءَايَةَ ٱلْكُبْرَىٰ (العصا واليد البيضاء) "فكذب بموسى والآية الكبرى، وسماهما ساحرا وسحرا وعصى الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر، وأن الطاعة قد وجبت عليه ثم أدبر يسعى أي: لما رأى الثعبان أدبر مرعوبا، يسعى: يسرع في مشيته، أو تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته، فحشر فجمع السحرة، كقوله: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين [الشعراء: 53]. فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه. أو أمر مناديا في الناس بذلك. وقيل: قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة. وعن ابن عباس: كلمته الأولى: ما علمت لكم من إله غيري [القصص: 38]. والآخرة: أنا ربكم". (1)
(المشهد التصويريّ):
في الآية مشهدان: الأول هو مشهد النداء والتكليف. وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ. والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ. اكتفاء بعرضه هناك وذكره. فيطوي ما كان بعد مشهد النداء، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ. ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة "لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه. بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه. ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه. فأراه موسى الآية الكبرى. آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى: فكذب وعصى.. وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال! ثم يعرض مشهدا آخر. مشهد فرعون يتولى عن موسى، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق. حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى: (ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال: أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ))، ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة، مجملا مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها. فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة، فحشر السحرة والجماهير; ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة، المليئة بالغرور والجهالة: (أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ) " (2)
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
"أمر الله تعالى" موسى عليه السلام بأن يفسر له التزكي الذي دعاه إليه بقوله: "وأهديك إلى ربك فتخشى"، والعلم تابع للهدى، والخشية تابعة للعلم، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)" و"أدبر" كناية عن إعراضه عن الإيمان، و"يسعى" معناه: يجتهد على أمر موسى عليه السلام والرد في وجه شرعه". (3)
"وعطف "أدبر يسعى" بـ (ثم) للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، فأفادت (ثم) أن مضمون الجملة المعطوف بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإدبار والسعي وادعاء الإلهية لنفسه، أي: بعد أن فكر مليا لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذير الناس منها . والإدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين، فإن حقيقة الإدبار هو المشي إلى الجهة التي هي خلف الماشي بأن يكون متوجها إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها، وهو هنا مستعار للإعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لمسيلمة لما أبى الإيمان: ولئن أدبرت ليعقرنك الله. وأما السعي فحقيقته: شدة المشي ، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناس بعدم الإصغاء لكلام موسى، وجمع السحرة لمعارضة معجزته؛ إذ حسبها سحرا، كما قال تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده). (4)
.....................
المصادر:
(1)    الزمخشري – الكشاف - الجزء 6 [ص: 307/308]).
(2)    سيد قطب - في ظلال القرآن - الجزء 6  [ص: 3816]).
(3)    ابن عطية - الجزء 8 [ص: 531 ].
(4)    الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير – الجزء 31 [ص: 79 ]).

تعليق عبر الفيس بوك