البعد الضائع في عالم صوفي .. العِلِّيَّة (6)


محمد رضا اللواتي


الجزء الأول: هل لكل شيء سبب؟ وماذا عن العلة الأولى؟!
 
1: الأسباب والمسبِّبات في الكون

أجواء مسقط ملبدة تماماً بالغيوم، يبدو أن البلد ينتظر، بعشق وبصبر فارغ، هطول أمطار غزيرة. اقترح يقظان على السيد ماهر أن يتجهوا إلى شاطئ القرم.

-    أين؟ شاطئ القرم؟ ضحكت إيمان وأردفت قائلة: لا شك إنك جننت يا يقظان.
-    ما المانع؟ الجو بديع جداً، وهذه أول زيارة للسيد ماهر لمسقط، لنقم بتعريف بعض جوانبها الجميلة له. سنجلس في ركن من الشاطئ ونستمع للسيد ماهر وهو يتكلم ويشرح. ما رأيك يا سيد ماهر؟
-    أرى الاقتراح جميلا. وبإمكاننا المشي قليلا ونحن نتحدث.
-    لكن، هل ستلقي الدروس ماشياً؟ قالت إيمان ضاحكة.
-    حدث ذلك في العهد الفلسفيّ من تاريخ اليونان. كان أرسطو يدرس طلبته أثناء المشي، ولذلك عرفوا بالمشائين.
-    المشائين؟ رددتها إيمان وهي تضحك وتقول: درس فلسفي على شاطئ القرم! مشاؤوا هذا العصر.
انطلق الجميع في سيارة يقظان باتجاه الشاطئ الجميل الذي لم يكن يبتعد عن منزل إيمان أكثر من ثماني دقائق فقط. أقترح يقظان أن يتوجه بسيارته صوب مدينة مطرح، حتى يتسنى للسيد ماهر فرصة إلقاء نظرة على كورنشيها الجميل. شد انتباه السيد ماهر نظافة وسعة شوارع مسقط، وعندما بلغت سيارة يقظان الكورنيش، اندهش السيد ماهر لجمال الشارع والمنازل الواقعة على الطرف المقابل للشارع، التي كانت قد اصطفت ملاصقة بعضها ببعض في طرازها المعماري القديم، وقد صبغت كلها بلون واحد وهو الأبيض. كان الأبيض قد أضفى عليها وقارا عجيبا. مدت إيمان إصبعها تجاه قلعتين عظيمتين تقفان بشموخ مذهل على جبل مطل على الكورنيش، وقالت:
-    أنظر يا سيد ماهر إلى هاتين القلعتين. أنهما موجودتان منذ الغزو البرتغالي للسلطنة. هذه التي باتجاه الغرب، تسمى: قلعة الميراني، أكمل بناؤها العام 1588م، بينما الشرقية تعرف بقلعة الجلالي أكمل بناؤها س1587م.
-    لعل الغزاة أرادوا حراسة مسقط من جانب البحر، لذلك بنوها في هذا الموقع. قال السيد ماهر.
-    ربما. ولكن هناك من الدراسات ما تشير إلى وجود القلعتين قبل الغزو البرتغالي. كانت تستخدم كمنازل للحكام، وكمدارس صغيرة أيضاً. علق يقظان.
-    لقد أصبحتا الآن رافداً تراثياً، بعد أن كانتا حاميتين عسكريتين. علقت إيمان.
أكمل يقظان طريقه إلى قصر العلم العامر، وأدار سيارته عائداً إلى الكورنيش. أشارت إيمان بإصبعها صوب ميناء السلطان قابوس وهي تقول:
-    أنظر ياسيد ماهر: هذا ميناء السلطان قابوس. لقد كان في عام 1970م ميناء صغيراً جداً، أما الآن فهو من أهم الموانئ في المنطقة. بمقدور هذا الميناء استقبال أضخم الحاويات في العالم.
-    إنه يستقبلها فعلاً. قبل 10 أعوام، كان الميناء يستقبل لا أقل من 1500 سفينة وقرابة 2000000 طن. قال يقظان وهو ينطلق بسيارته باتجاه شاطئ القرم الجميل، الذي أدهش جماله السيد ماهراً.
-    لقد زرت الشاطئ الذهبي في منتج غولد كوست باستراليا. أؤكد لكما أنني لا أجد فرقاً بينه وبين شاطئ القرم هذا. ما يفتقر إليه هذا الشاطئ الجميل، هو بعض المرفقات ومواقع الخدمات. قال السيد ماهر.
-    إنها موجودة ياسيد ماهر. أدار يقظان سيارته وتوجه بها جهة مركز جوهرة الشاطئ، شاهد السيد ماهر محلات ومقاهي ومطاعم وفنادق.
-    فعلاً. مكان جميل جداً يا يقظان. يظهر أن الاهتمام بنظافة البيئة بلغ أقصاه عندكم.
-    حكومتنا تمنح سنوياً "جائزة السلطان قابوس للبيئة" للمشاريع التي تعمل للحفاظ على البيئة.
-    أعتقد أنه يلزمني تذكير السيد ماهر بضرورة البدء بالدرس. علقت إيمان.
-    نعم لنفعل. علق يقظان.
ركن يقظان سيارته في جانب من الطريق، وخرج الجميع يتمشون. وهنا بدأ السيد ماهر حديثه فقال:
-    السماء تنذر بالمطر. فلو سقطت الأمطار لكانت السحب هي السبب. هذه العلاقة بين هطول الأمطار والغيوم نسميها علاقة السببية. والكون تحكمه هذه العلاقة. أعني أنه من المستحيل تواجد وتحقق شيء بلا سبب ولا منتج أو موجد له. يستحسن أن نعرف العلة أولاً. يطلق مصطلح "العلة" على موجود يسبب بوجوده وجود موجود آخر. أعني أن ذات الموجود العلة تقتضي وجود معلول لها. انتبها جيداً لما أقول. لقد قلت إن طبيعة العلة تنتج المعلول. يعني أننا إن أردنا أن نفهم السر في تحقق المعلول لكان علينا أن نغور في عمق وطبيعة موجِده. طبيعة الموجِد تقتضي تواجد المعلول. وفي هذه الحالة، أعني إذا كانت طبيعة الموجد وحدها هي المسؤولة عن وجود المعلول، فالموجد يكون علة تامة لوجود معلولها.
-    وماذا عن المعلول؟ هل أن ذاته كذلك تقتضي أن يكون لاحقاً في الوجود لعلته؟ سأله يقظان.
-    أحسنت يا يقظان. الأمر هكذا فعلاً. المعلول هو الموجود الذي لا يوجد بنفس ذاته، وإنما يسبب وجودَه عاملٌ آخر. طبيعة المعلول تقتضي ذلك. فهو كائن يفتقر إلى الوجود بذاته، ولا يتحقق إلا إذا مد موجِده يد المعونة له فأوجده. بالطبع لا يعني ذلك أن المعلول كان في مكان ما وقام موجده بسحبه إلى جهة أخرى. كلا. أعني أن المعلول بحاجة إلى منحة الوجود من خارج ذاته. هذا هو تعريف المعلول.
-    لكن، الغيوم ليست العلة الوحيدة لوجود الأمطار. علقت إيمان.  
-    بالطبع يا إيمان. رد السيد ماهر واسترسل: العلل أنواع، فهنالك العلة التامة التي تقتضي بذاتها ولوحدها وجود المعلول، وهنالك العلل الناقصة التي تساهم بدور في إيجاد المعلول. السحب علة ناقصة لهطول الأمطار. فالرياح الباردة، البحار، أشعة الشمس، كل هذه الكائنات تلعب دورا لتحقق الأمطار.
-    إذن العلل تنقسم إلى قسمين: علل تامة وعلل ناقصة. قال يقظان.
-    نعم صحيح يا يقظان. العلل الناقصة علل معدة، بينما العلة التامة هي العلة الموجدة. قال السيد ماهر.
-    سبق وأن ذكرنا أن البعض أنكر العلية. قال يقظان.
-    نعم فعلا، لقد ذكرنا منهم "هيوم". وذكرنا سبب عدم اعترافه بنظام العلة والمعلول في الكون. ولكننا برهنا على وجود هذه العلاقة. قلنا حينها أن عقل الإنسان انتزع السببية من خلال إطلاعه على النفس وأحوالها وكيفية توقفها عليها وتوقف قواها الإدراكية عليها. هل تذكران ذلك؟
-    نعم بالطبع. قالت إيمان.
-    لكن ياسيد ماهر، افترض أن أحدهم سألك قائلا: ما دليلكم على وجود نظام العلية في الكون؟ سأله يقظان.
-    نجيبه بمنتهى السهولة. بما أن العلية رابطة بين الموجود الحادث وبين موجده، وبما أن الموجود الحادث من المستحيل أن يتحقق دون علته، فإذا وجدنا في الكون موجوداً حادثاً، تحتم القول بوجود علته. والآن، لنلق نظرة على أرجاء الكون من حولنا، هل سنرى غير الكائنات التي تحدث بصورة مستمرة وبلا توقف؟ يذكر أن فيلسوفاً يونانياَ قديماً قال ذات يوم: لا يمكن لأحد أن يضع قدمه في نهر مرتين. لماذا؟ لأن النهر الذي غمس قدمه فيه أول مرة قد تغير ماؤه، كما أن القدم وصاحبه أيضاً لم يعودا كما كانا. كل شيء يتغير. رياح الحدوث تعصف الكون باستمرار كما بدأت أمواج هذا البحر تعصف الشاطئ رويدا رويدا بفعل التيار الهوائي القوي. وهنا بدأت زخات الأمطار بالهطول فسكت السيد ماهر، وبدأ يجيل بصره في أرجاء السماء، حيث الغيوم السوداء قد غطت الشمس كلياً، ثم قال: الجو مذهل حقاً، أشكرك على فكرتك الطيبة بالخروج إلى هنا يا يقظان.
-    عمان جميلة جداً ياسيد ماهر. مع الأسف إنك مرتبط وإلا كان بالإمكان أن نرتب لك رحلات سياحية ممتعة. قالت إيمان.
-    لكما الشكر على كرم الضيافة العمانية الأصيلة يا إيمان ويقظان.
-    لا شكر على واجب ياسيد ماهر. قال يقظان.
-    ولكننا لا نرى العلل ياسيد ماهر، سيما علة العلل والسبب الأعظم. فهل يجوز الاعتقاد بوجودها دون التحقق من ذلك؟ سألته إيمان.
-    عدم الرؤية لا يضر ياإيمان. صحيح أن رؤية السبب هو المصدر الأقوى للعلم، لكن رؤية المعلول كاف جداً لإثبات وجود العلة. هل رأيت العمال عندما كانوا يقومون ببناء هذا الفندق الجميل أمامنا؟ سألها السيد ماهر وهو يشير إلى فندق "كروان بلازا" الرابض على تل كبير فوق البحر.
-    لا. لم أرهم. أجابت إيمان.
-    لكن ليس في وسعك إنكار وجودهم وبنائهم للفندق. لا يمكننا إنكار مصدر الدخان وإن لم نجده بأعيننا. يكفي في ذلك رؤيتنا للأثر. وهكذا قيل أن الأثر يدل على المؤثر.
-    يا إلهي إن في هذه النقطة يكمن برهان إثبات وجود الخالق الصانع للكون. صاحت إيمان.
-    بلى يا إيمان. إن من ضمن البراهين برهان العلية، وهو توأم لبرهان آخر يسمى ببرهان الحدوث. ولقد مر عليك أن لكل حادث موجدا. قال السيد ماهر.

2: من أين جاءت العلة الأولى؟
أكذوبة أنَّ لكل شيء بداية

-    يعني أن قاعدة العلية ليست مطردة ولا تنطبق على كل شيء. قال يقظان.
-    بالطبع. لقد مر علينا أن الكائن الحادث هو المعلول. والعلية تدور مدار الحدوث. الواقع أنها تدور مدار الاحتياج، والحدوث علامة الاحتياج.
-    كيف؟ سألت إيمان.
-    سنتكلم عن ذلك بعد قليل. دعاني أشرح لكما بدقة موضوع العلة الأولى وخروجها على قانون السببية. لقد كان بعض من الفلاسفة، ومنهم راسل، الذي ذكرت شبهته سابقاً، يظن أن قانون العلية مطرد وينطبق على كل شيء. يعني أن الموجود يجب أن يقع داخل نظام العلية حتى وإن لم يكن حادثاً. هذا الأمر جعله يتساءل عن سبب انشقاق القانون والاستثناء الذي وقع لـلعلة الأولى دون سائر العلل. ولما لم يعثر على جواب واضح قام بنفي العلة الأولى وقال: إذا كان هنالك من يقبل الاستثناء والخروج عن القاعدة فلماذا لا يكون الكون؟ هذا الرجل لم يفهم مدار القاعدة. إنها تتحدث عن الموجود الحادث فحسب وليس كل موجود. ظاهرة الوجود بحد ذاتها لا تحتاج إلى موجد لأنها لا تنبثق من العدم كما مر علينا. الموجود الحادث فحسب هو الذي يخضع لـلعلية.
-    إذن، جوابنا عن التساؤل حول استثناء العلة الأولى من قانون العلية هو أن العلة الأولى لا تحتاج إلى علة لأنها مرتفعة على الاحتياج إلى الوجود. الحادث هو وحده المحتاج إلى علة توجده. قالت إيمان.
-    وإذن أين الاستثناء في القاعدة؟ لا يوجد. رد يقظان.
-    كلامك سليم يا يقظان.
-    يا إلهي. لماذا لم يفهم أولئك الفلاسفة هذا الموضوع كما ينبغي؟ قالت إيمان.
-    ألف مرتضى المطهري كتابا قيما عن الدوافع نحو المادية، ذكر فيه أن من ضمن الأسباب إلى جنوح الغرب صوب المادية هو قصور المفاهيم الفلسفية هناك. دعاني أعرض عليكما هذا البرهان الدال على أن العلل لا تتسلسل إلى ما لانهاية، وان لا بد لها أن تتوقف عند علة تامة بالذات. هذا البرهان من مبتكرات الفلسفة الإسلامية.
-    ومن هو مرتضى المطهري؟ يقظان.
-    فيلسوف ومفكر إسلامي، صاحب كتابات عديدة في شتى أبعاد الفكر الإسلامي. ومن أشهر أعماله التي تنم عن عمقه الفلسفي، تعليقاته وشرحه لكتاب أصول الفلسفة والمذهب الواقعي للطباطبائي. لنرجع إلى البرهان.
-    أتله علينا بكل سرور ياسيد ماهر. قال يقظان.
-    لو تسلسلت العلل إلى ما لا نهاية لما وجد الكون، ولكن الكون وجد، إذ العلل توقفت عند علة أولى هي الموجدة للعالم.
-    مهلاً ياسيد ماهر. أشرح ذلك لنا قليلا. قالت إيمان.
-    لقد بدأت ملابسي تبتل يا إيمان وأفكر أن أدخل هذا الكوخ من سعف النخيل. لكنني لن أتمكن من دخوله إن لم تأذني لي. ولنفترض أنك في حاجة إلى إذن وإجازة من يقظان حتى تأذني لي. ولنفترض أن يقظان نفسه بحاجة إلى إجازة شخص آخر، لنقل هو مسؤول هذا الشاطئ. وذاك المسؤول لا يأذن إلا بإجازة من رئيسه. ورئيسه أيضاً محتاج إلى إجازة من جهة أعلى. ولنفترض أن سلسلة المسؤولين تتصاعد بلا نهاية، فهل سيحصل يقظان على إذن ليمنحك إياها فتمنحيه لي يا إيمان؟.
-    كلا بالطبع. لقد قلت بأن سلسلة المسؤولين في تصاعد لانهائي. ردت إيمان.
-    ولكن، إذا دخلت الكوخ فعلا، فماذا يعني ذلك؟
-    يعني أنك قد حصلت على الإذن. أجاب يقظان.
-    ومعناه إذن، أن السلسلة لم تكن لانهائية، وإلا لما أمكنني أبداً دخول الكوخ. وبما أن العالم موجود، فإذن لا توجد علل لانهائية وإلا لما تواجد ولا تحقق العالم.
-    كم هو واضح وسهل هذا البرهان. قالت إيمان.
-    الواقع أن هذا البرهان قد أثبت وجود صانع العالم، الغني عن الحاجة.
-    نعم فعلا. علقت إيمان وأضافت: كنت أظن أن تقديم برهان قويم على وجود الله –تعالى- أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً.
-    الواقع أن بعضهم حاول إسقاط هذا البرهان من قيمته قائلا "لا يجب أن نثق في هذه النتيجة أبداً، لأن العقل من طبيعته أن يؤسس من عند ذاته، ولطبيعة خلقته، كائناً أعلى وعلة كبرى لوجود العالم. لا يجب الإنصات إلى مثل هذه الحجج لأن طبيعتنا العقلية هي التي ترى الأشياء بهذا النحو. لقد خلق العقل هكذا وليس له إلا أن يتصور الأمر بهذا الشكل. العلة الأولى مسألة عقلية جداً تفرضها طبيعته". ولكن هذا المدعى غير دقيق وفقاً لما مر علينا من أن العقل ليست له طبيعة أتت معه. المفاهيم العقلية انتزاعات من الخارج.
-    يا إلهي. الآن فهمت جيداً أهمية موضوع قيمة المعرفة الذي درسناه ياسيد ماهر. قالت إيمان.
-    نعم. تبين لي الآن أهميته بمنتهى الوضوح. ما كان بالإمكان الرد على هذا الإشكال لو لم نكن نعرف أن المعقولات الثإيمان أوصاف للكائنات، قد قام العقل بانتزاعها منها ولم يأت بها معه. قال يقظان.
-    أحسنتما كثيراً. لندخل في الكوخ الآن. صاح السيد ماهر وقد بدأت الأمطار بالانهمار.  

3: أنا موجود ... فإذن أنا واجب

من داخل الكوخ، كان الأصدقاء الثلاثة يتأملون منظر انهمار المطر على تراب الشاطئ، وعلى أمواج البحر. منظر رائع جداً. مرتادو الشاطئ في ذلك الوقت كانوا قلة. بعضهم استمر في مشيه وبعضهم فضل الاختباء، والبعض اتجه صوب البحر وغطس! ولكن، لم تمضي إلا دقائق، وإذا بالمطر ينهمر بشكل غزير بحيث تعذر المشي أو الغطس كلياً. سأل السيد ماهر:
-    ما هي علاقة حبات المطر بانهمارها؟
-    ما هذا السؤال يا سيد ماهر؟ سأله يقظان ضاحكاً.
-    لست أمزح. لا زلت أسأل. حبات المطر قبل انهمارها لا تكون موجودة. فإذن سؤالي المار معناه: ما علاقة حبة المطر بتواجدها وتحققها؟
-    السؤال كأنه لغز. قالت إيمان.
-    إن علاقة الكائنات بوجودها يمكن أن تتصور بأحد شكلين:
الأول: علاقة الصدفة والاتفاق.
والثاني: علاقة الوجوب والضرورة.
علاقة الصدفة والاتفاق تعني أن المطر انهمر دون أن يكون انهماره هذا مفروضاً ومحتوماً. لو تساقطت شرارات النيران عوضا عن حبات الماء لكان الأمر سيان. بمعنى أن أياً منهما يمكنه الهطول، وغير ذلك أيضاَ من الأشياء، يمكنها الهطول، طالما أن الذي يفرض ذلك هو الاتفاق المحض والصدفة العمياء. أما علاقة الضرورة والوجوب فلا تقر بذلك. إنها ترى أن الكائن لكي يتحقق، يجب أن يصبح تحققه واجباً أولاً. وهذا يعني أن يصل إلى حافة الحتمية والضرورة حتى يتسنى تحققه. والآن، ما العلاقة السائدة بين حبات المطر وبين وجودها؟ أهي علاقة الضرورة والوجوب، أم هي علاقة الاتفاق والصدفة؟
-    إذا كان الكائن له علل توجده فلن تكون المسألة مسألة اتفاق. قال يقظان.
-    أحسنت يا يقظان. عندما يكون للشيء علة توجده، فإن وجوده سيصبح ضرورياً بالنظر إلى أسباب وجوده التي تفرضه فرضاً. لنتأمل هذا المطر المنهمر، لقد غدا سقوطه ضرورياً لذلك سقط وانهمر. وهذه الضرورة فرضته علله الموجدة له. فالغيوم المحملة بالماء، والأجواء المحتمة للانهمار، تفرض المطر فرضاً. وتعبر الفلسفة الإسلامية عن ذلك بقاعدة: إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
-    يعني أن الشيء يصبح واجباً أولاً قبل أن يوجد، ثم يوجد؟ أليس في ذلك تناقض ياسيد ماهر؟ سألته إيمان.
-    كان بالإمكان أن يتحقق التناقض لو قلنا "أن الكائن قبل وجوده يكون موجودا بوجود ما، ويصبح واجبا بوجود ثان". لكننا لم نقل ذلك إطلاقاً. إن سبق وجوب الشيء وجوده يعني أن علله فرضت وجوده. الشيء يصل إلى مرحلة الوجوب والضرورة بعلته يا إيمان. عندما تصبح الأم على وشك الولادة، هل تغدو ولادة الطفل ضرورية أم لا؟.
-    بالطبع نعم. ردت إيمان.
-    فلو قال قائل بأن الولادة ليست ضرورية على الإطلاق. هل يمكن تصديقه؟ بالطبع كلا. ذلك لأن الضرورة تفرضها الأسباب التي أضحت لا تقبل التخلف.
-    هل ذلك معناه، أن ما يجري في الكون حتمي وضروري؟ صاح يقظان.
-    كل ما يقع في الكون من الحوادث يكون قد بلغ الضرورة وأصبح واجب الوقوع، ولذلك فقد وقع. إن العلاقة بين الشيء وبين وجوده علاقة الضرورة كما تبين. بالطبع إن ذلك لا يلغي اختيار الإنسان. هذا الموضوع سنبحث فيه أثناء الحديث عن القضاء والقدر.
-    بقي عندي سؤال ياسيد ماهر. إن كل ما مر من كلامك يثبت أن الأشياء تنال الوجوب، وعلى ضوء ذلك تتحقق. وهذا يعني أننا جميعا كائنات واجبة الوجود؟ سأله يقظان.
-    سؤال وجيه. صحيح، الكائنات واجبة الوجود. ولكن وجوب الوجود تارة تفرضه الذات، وأخرى تفرضه عوامل خارجة عن الذات. الحال مع الحوادث أن وجوبها بالغير بحسب التعبير الفلسفي، أعني بعوامل خارجة عنها. إنها تستمد وجوبها من عللها كما تعلم. بينما الذي يستمد وجوبه من ذاته فهو العلة المطلقة أي واجب الوجود بالذات وليس بالغير. وهو الله –تعالى-. هدأت الأمطار وفي غضون ثوان توقفت كلياً. عندها خرجت إيمان من الكوخ، تبعها السيد ماهر فيقظان. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة. توجه الجميع باتجاه السيارة.

 

تعليق عبر الفيس بوك