أدب الحرب بين الرؤية الطللية للوجود ودراما الموت والحياة

دراسة في شعر أحمد ظاهر (2)


د. السيد العيسوي عبد العزيز – مصر
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي- مصر

.

وإذا كانت الرؤية الطللية للوجود تسيطر على شعر أحمد ظاهر في هذا الديوان، فكذلك مفردة النهر وعالمه، كما أشرنا، حتى أنه وقف أمام النهر في نصين كاملين، أحدهما بعنوان "رحيل نهر جميل" والثاني يحمل عنوان الديوان "غزالة الماء"، نود أن نقف أمام أولهما، ونختم بالثاني.
أما قصيدته "رحيل نهر جميل"، فيقول تحتها:  
                                         

ياضائعَ المجرى  
جفاكَ الموجُ في ليلِ الحِمَامْ
أوقَدْتَ قنديلَ النوى
ومضيتَ تستجلي الظلامْ  
يحدوكَ من نغمِ الحجازِ أنينهُ
فتَقدَسَ الحُزنُ الجليلُ بذا المقامْ                                 
ما أبعد َ المثوى
وقد تم اقتلاعكَ
من عيون المنهكينْ
ياسيِّدَ الأنهارِ  
لادربٌ  سيوصلُ للشآمْ  
مولاي  سربٌ  النخل  
غنّى للفراقِ اختار وعثاءَ الرحيلِ على المقامْ         
قال : النواطير استباحوا  هيبتي
حينَ استبدَّ الصمتُ
في صوت اليمام ْ
يا أيها المنسوج
من وجع النخيل على الفرات
حدّثْ :
عن الإسراء ِ في ليل ِ المطايا      
رتلِ القُدسيَّ
من  وحي ِ الكلامْ      
أوقد ْ نجومَ الشوقِ
في هذا المسا
أدري  بشوقك  لاينامْ
قبل ارتداء ِ
الفجر  إشراقَ  المدى
أوْلمْ سكون الـليلِ مائدةَ  الختامْ  
هذي َالرواحلُ
آمنتْ بالشوقِ يحرس ُ ضعنها
قلت َ اتركوها غصتي
وعلى هوادِجِكمْ سلامْ
العنوان مراوغ "رحيل نهر جميل"، كعادة أحمد ظاهر في بعض قصائده، حيث يعيطك عنوانًا مباشرًا لنص غير مباشر، تتوه فيه.. وهنا نحن أمام تطور وميل إلى التوظيف الرمزي بشكل أخاذ، هل يستدعي "النهر" هذه الطاقة الرمزية عند  أحمد ظاهر؟
قليل من التجارب الشعرية تتحول إلى طاقة رمزية، والسر أنها تحوي كثيرا من التجارب والعلائق الروحية التي تستقطب كثيرا من دقائق الزمان والمكان، ومن ثم تتكثف حولها اللغة ذات الزخم الانفعالي، وهذا ما نجده مع شاعر له عديد التجارب مع هذه المفردة "النهر"، ومن سيرته الذاتية نفهم أنه نهر الفرات الذي يشق الأراضي السورية حيث يقيم، وحيث نشأ على ضفافه في مدنية الرقة، وهو مفتاح مهم أشرنا إليه من قبل.
ولذا واكب ذلك عمق العبارة الشعرية كنوع من التطور أيضًا، كأنما النهر يدفع بموجات انفعالية أعمق.. النهر هنا رمز ينفتح على دلالات عدة بداية من القلب ومرورًا بالأوجاع وانتهاء بالوطن.. الرمز متفجر، ولكنه يجف قبل أن يتفجر :
(ياضائعَ المجرى
جفاكَ الموج في ليل الحِمامْ)
 فما أعمق التعبير الشعري في هذا النص، على سبيل المثال:
(أوقدتَ قنديل النوى
ومضيتَ تستجلي الظلامْ)
وهو تعبير عميق عمقَ ما في الروح من كآبة، يوحي بالرحيل المستمر، ترى هل قضت الحرب على كل شيء، ولم تستطيع اقتلاع النهر من جذوره أو تغيير مجراه، ومن ثم كان كل هذا التشبث؟؟ احتمال كبير، وكأن اللاوعي هنا يتشبث برموز الثبات في مواجهة عواصف الفناء..
وهو نهر يأخذ نوعًا من الجلال:
(يحدوك من نغمِ الحجازِ أنينه
فتَقدَسَ الحُزنُ الجليلُ بذا المقامْ)
وإن كان الجلال هنا جلال الحزن، ما يوحي بأن النهر مشلول، ومن الطبيعي أن يتصل الرمز بالأسطورة تعبيرًا أو رمزًا أسطوريا ، وهو ما نجده بعد ذلك بداية من:
(ماأبعد المثوى
وقد تم اقتلاعكَ
من عيون المنهكينْ)
 إنه تعبير أسطوري يربط بين عيون الماء التي تمثل النهر وعيون المنهكين بشكل أو بآخر.. ثم مرورًا بقوله :
(ياسيد.َالأنهارِ
لادرب سيوصلُ للشآمْ)
إن النداء على هذا النحو (سيد الأنهار) يعني أنه رمز أسطوري لكنه فاقد لأسطوريته، إنه مقطوع الدابر، ما يعني التمزق العربي، ومن ثم تمزق الأسطورة العربية التي تغنينا بها كثيرًا في الخمسينات وما بعدها.
 ومن ثم يجف الواقع، فحتى الخصب العربي يفتقد معناه:
(مولاي سربٌ النخل
غنّى للفراقِ اختار وعثاء الرحيلِ على المقامْ)
فالنخيل لا ينادي أهله ولا يحن إليهم، ولا يتمسك بنهر حنينهم، بل يلوح للفراق، راحلا كسرب غريب يغني الضياع.. إنه نخيل يعتز بأجوائه الشامخة والمتفاعلة حوله في روح حميمة مع أهله المحيطين الذين يشعر بصمتهم:
(قال : النواطير استباحوا هيبتي
حينَ استبدَّ الصمتُ
في صوت اليمامْ )..
الناطور حارس الزرع، وإذا نام الناطور عاث الثعلب في العنب.. هنا ضياع للقيمة وهتكها من أقرب المحيطين.
وحتى النخيل يبكي بكاء أسطوريا في أكثر من كان، وكأن كل الرقع تبكي:
(ياأيها المنسوج
من وجع النخيل على الفرات)
الأمواج تنسج من البكاء والوجع، وهو نسيج واهٍ من ثم.. ويستحثه الشاعر ويحفزه ليفعل شيئًا، ليستعيد قداسته وقداسة وارديه:
(حدّثْ :
عن الإسراءِ في ليل المطايا
رتلِ القُدسيَّ
من وحي الكلامْ)
 إنه يحاول أن يعيد له شيئًا من بهائه ورونقه.. ولذا يأتي المعجم الديني خاصًا ومفجرًا لمعاني القداسة المختزنة في أعماق هذا النهر/الوطن.. وكعادة الشعر يربط بين المتباعدات والأشياء الغريبة في الواقع عبر نوع من الدمج يكثف علاقتنا بالواقع، ويعيد اكتشاف الأشياء.. فالنهر هنا حضارة ودين وأصل.
 وهو يبحث عن العلاقة الحميمة معه:
(أوقدْ نجوم الشوقِ
في هذا المسا
أدري بشوقك لاينامْ)
حالة من الأرق المتبادل، فهناك سهر مستمر وحوار لا ينتهي، يريد الشاعر من النهر استعادة لياقته ليستمتعا بحكايات خاصة بينهما تنوء بها الروح والكلمات، فكثيرا ما يفضي كل منهما بما لديه.... وهو يستحثه مرة أخرى كي يترك حالته الرمادية الحزينة ويعود للإشراق والعنفوان: (قبل ارتداءِ الفجر إشراقَ المدى
أوْلمْ سكون الـليلِ مائدةَ الختامْ)
 ويأتي التعبير الختامي مبهمًا إلى حد ما وكأنه يعبر عن صدمة الفراق والرغبة في الانتظار مع نوع من فقدان الحيلة والإحساس بتجمد الزمن، ولكن ليتجمد الزمن كما شاء ونتجمد معه جوار النهر/الوطن، ولتفعل غصة الفقد بالمحبين ما تشاء قرب من يريد الليل وليمة سهر أخيرة.
وهنا –في الختام- يعتمد الشاعر على مفردات عربية مفعمة بالحنين كالرواحل والهوادج، معبرًا عن الرحيل العربي عن النهر الأسطوري الكامن في الذات العربية الذي يضخ فيها الأشواق والحياة والتراث وكل شيء، ويبقى وحده - سهرانَ- حارسًا لهذا النهر/ الوطن/ التراث مهما فارقه الجميع:
(هذي الرواحل
آمنتْ بالشوقِ يحرسُ ضعنها
قلت اتركوها غصتي
وعلى هوادجكمْ سلام)
نص جميل موفق مغاير للأسباب السابقة.
***
والأجمل أن ننتقل منه إلى النص الأيقونة في هذا الديوان "غزالة الماء"، فالنهر ما زال مستمرا في أعماق الشاعر:

في سِفْرِ
تاريخِ الرمالِ
على الضفافِ
الحالماتِ
ملاحمٌ
لاتقبلُ التلخيص  َ
أو ترضى الكتابة َ
باختصار..
هذي التي شبهتُها
بمدينتي
كم تشتهي
إغواءَ هذا النهر
في وضَحِ النهارْ
ألقت بعمقِ
الإزرقاق  
حرائق
الجسدِ السعير  
وحولَ نهديها
عقودُ الياسمين  
كأنها الأقمار
في ذاكَ
المدارْ                                                        
جحافلُ
الأمواهِ كانتْ
كالسكارى  
حينما اشتمَّت
عبيرَ الياسمينِ
وعطرَ صفصافٍ
وحرملَ
في حرائقِ  نهدِها
المبلول
في ذا الإسمرارْ     
فحوصرتْ
بالموج  
من كنّيتُها   بمدينتي
والماء
عربدَ كالتتارْ ..                          
هذي الصبيةُ
في  غرامِ النهر
غارقةٌ
تمارسُ
خلوةَ العشَّاقِ
تنتظرُ
اصفرارَ الياسمين
وكيفَ عُتِّقَ
في سعيرِ العشق
حدَّ الاختمارْ   
الماءُ يعرف
كيفَ يستدعي
العذارى.. كيف يُنهي
في طقوسِ
الدفء
توق العشق
في جسدِ
يودُّ الإنشطارْ  
وتغادرُ الأمواه
يتبعها هدير
الفيض
في  رفضٍ
ويضربُ كاحلاً
قد ادمن الخلخال
فاستمرا الحصارْ
والياسمينُ
تعتقتْ أوراقُه
البيضاءَ
من نارِ الغضا
في تلكمُ
الأفلاك
والنهرُ الحزين
يُعِدُّ بعد الهجرِ
طقسَ
الإنتحارْ
 يأتي عنوان الديوان "غزالة الماء" من نفس عنوان هذه القصيدة المهمة لدى الشاعر (غزالة الماء)، ويمكن تناول هذا العنوان الرامز بأكثر من تأويل، لكن يبدو لي من خلال قراءة سيرة الشاعر في نصوصه ثم في سيرته هو أنها قد ترمز بشقيها إلى عنصرين مهمين في شخصه حيث نهر الفرات الذي يعبر من العراق مخترقًا بعض قرى سوريا القريبة، ومنها بلدة الشاعر (الرقة) وفي هذا ما يبين مدى عشق الشاعر للنهر وللتراث الفراتي الذي يشتغل باحثًا فيه.. فكأن الماء هنا مكون أساسي في تكوين الشاعر ونشأته وتراثه يشي بشتى المعاني الرمزية في حد ذاته حتى ليترقرق في سماء كثير من نصوصه، وبالفعل لديه نص أثير تحدث فيه عن النهر ذاك الذي وقفنا أمامه بالتحليل (رحيل نهر جميل). كما تبدو الغزالة هنا رمزًا للذات الشاعرة في مرحها وانطلاقها وحيويتها الدافقة وافتنانها بالكون وفتنتها للناظرين أيضًا. على أن هذه الرموز خادعة ومتقلبة ومتلونة، فنحن إذا قرأنا النص فنجد هذا الرمز يزداد ويتكاثر.
بدايةً نجد أنفسنا أمام نص دافق بالجمال كالنهر، فالنص متدفق تدفق النهر بالماء والخصب والنماء، ينحدر بين ضفاف الروح، متخذًا نفس خصائص الماء والنهر، ولذا لا يمكن مقاومة هذا الجمال أو اختصاره:
في سِفْرِ
تاريخِ الرمالِ
على الضفافِ
الحالماتِ
ملاحمٌ
لاتقبلُ التلخيص
أو ترضى الكتابة
باختصار..
الشاعر يجعل لرمال الضفاف تاريخًا خاصًا لا يمكن اختزاله يحتوي تاريخ الرجال والعصور والحقب والأجيال، حيث تبزغ (الملاحم) باستمرار، يقرأها سفر الضفاف على  الأجيال. هذا تضخم في محله في ضوء نبرة التلاشي من الوجود والمحو التي تتعرض له بعض القرى والمدن جراء الحرب، تلك الحرب الملغزة التي تختلف عن حروب الاستعمار، لأنها يشترك فيها أطراف عدة من الداخل والخارج، بحيث لا نستطيع أن نقول إنها حرب أهلية ، ولا أنها استعمار، كما أشرنا في البداية، ولكنها الهمجية الحديثة المسلحة.
القصيدة مليئة بالتأنق الفني والفتنة الجمالية الطاغية التي تمنحها خصوصية ما:
ألقت بعمقِ
الإزرقاق  
حرائق
الجسدِ السعير  
وحولَ نهديها
عقودُ الياسمين  
كأنها الأقمار
في ذاكَ
المدار
لنلاحظ أننا أمام نوع خاص من الشعر، هناك نوع من الشعر يفرض عليك فهمه وتتبع نسقه الفكري والفلسفي، وهناك نوع على النقيض تماما، ونحن أمام النقيض، لا نود أن نفهم المعنى، لأن جمال الصياغة وعذوبة الروح تلهينا عن التتبع، نود أن نستمتع فحسب، وسوف تفهم الروح وحدها مع الوقت بعد أن تسكر، ثم تفيق.
وتبلغ الفتنة قمتها حين يقول:
فحوصرتْ
بالموج
من كنّيتُها   بمدينتي
والماء
عربدَ كالتتارْ ..                         
إنها رعشة الجمال حين تسري في جسد الماء
والحق أن غزالة الماء هنا ربما تكون مدينته أو بلدته التي تُحاصَر بكل هذه الفتنة، وربما تكون المرأة المدينة؛ في الرمز نوع من التداخل، وكل هذا يتماهى مع ذاته، وهذه بداية من بداية التشعب الرمزي، تحت تأثير أخذة الشاعر وسكرته بالجمال المزدوج، نلاحظها هنا :
هذي الصبيةُ
في  غرامِ النهر
غارقةٌ
تمارسُ خلوةَ العشَّاقِ
تنتظرُ اصفرارَ الياسمين
وكيفَ عُتِّقَ  في سعيرِ العشق
حدَّ الاختمارْ   
ومن خصائص البلاد الواقعة على الأنهار والبحار أنها تحتفظ بشبابها الدائم (هذي الصبية) لأنها ترتوي من جمال الطبيعة باستمرار ومن ينابيعها العليا. والنهر هنا يصبج العاشق.. الأشياء تتحول وتتحور إلى رموز باستمرار، وهي رموز متبادلة ليست ثابتة، نحن أمام فتنة كونية تتبادل فيها الرموز مواقعها، وتتلاشى الحدود لتتلبس الأشياء أرواح بعضها  بعضًا.
ولا يبعد هذا عن رمزية الماء في هذا المشهد الأثير:
الماءُ يعرف
كيفَ يستدعي
العذارى.. كيف يُنهي
في طقوسِ الدفء
توق العشق  في جسدِ
يودُّ الإنشطارْ  
توق أبدي للجمال، الشاعر في حالة عشق دائم للطبيعة، للبيئة، للضفاف، لموضع النشأة، ثم للمحبوبة وسط كل ذلك بالضرورة. ولا يبعد كل هذا عن "غزالة الماء" الخاصة به أيضا، حيث يصبح للماء هنا معنى خاص أيضا، وخصوصية عليا، غير رمزيتها السابقة، وكذلك تتحور "غزالة الماء" هنا في دائرة أخص. وإلا فكيف تخرج الغزالة متخلقة بجسد آخر:
وتغادرُ الأمواه
يتبعها هدير
الفيض
في  رفضٍ
ويضربُ كاحلاً
قد أدمن الخلخال
فاستمرا الحصارْ
المدهش أن كل الرموز تتداخل حين نأتي للمقطع الأخير، تحتشد كل الغزلان في هذه الغزالة، وكل الأنهار في هذا النهر، ويصبح الوضع مأساويا بعد كل هذه البهجة والانتصار للجمال والحب والطبيعة والعراقة:
والياسمينُ تعتقتْ أوراقُه البيضاءَ
من نارِ الغضا
في تلكمُ الأفلاكِ والنهرُ الحزين
يُعِدُّ بعد الهجرِ
طقسَ
الإنتحارْ
هل يعاني الشاعر من الفقد، فَقْدِ كل الأنهار وكل الغزلان، بعد هذا التشبع والفتنة الطاغية، ومن ثم يكون الانتحار هو هاجسه؟ التحور هنا هو في النهر الداخلي الذي يجف بعد افتقاد التواصل مع الأنهار الأولى وغزلانها، كل الأنهار والغزلان تتحول هنا إلى ذكرى... كل الأنهار تتلاشى، وكل الغزلان تفر، وتجفل، وتتفرق، فيمر النهر (نهر الذات) حزينا في موسم الجفاف الطويل مودعا كل الملاحم والأساطير موتى على الشاطئ العريق.
حقًا إنه نص بديع للشاعر، وقد ترك مساحات شاسعة من التأويل والفتنة والجمال ينتجها المتلقي، لأنه نص تعالى نحو المطلق ولم يتقيد بمفردات المعجم ، ولا بحدودها الوضعية الضيقة، إنما وسع من حدود المفردة الشعرية وجعلها كما لو كانت نهرًا، وجعل روحه كما لو كانت غزالة تسبح في ماء هذا النهر في أمن ثم فزع، لينشر موجات من الجمال والرعشة والحيوية في عمق هذا النهر نلحظها مع كل قراءة للنص.
***
كنا نود أن نختم الدراسة بوقوفنا أمام هذا النص البديع، ولكن الروح العلمية تستدعي منا وقفة قصيرة ختامية أمام فن آخر لاحظناه في ديوان الشاعر، ألا وهو فن الومضة.
فكما يبرع الشاعر في قصائده يبرع في فن الومضة، حيث نجد ومضات كثيرة في الديوان، ويمكن أن نقف أمام واحدة أو أكثر بالتذوق والتحليل، فمن ذلك قوله في بيتين تحت عنوان "فلا أهلا بوصلك"
فـلا  أهـلاً بوصلكَ حين أغدو
رفـاتاً  خـلفَ أسـوار الـفناءِ
ولستُ أخافُ من موتي ولكنْ
يـعذبني وقـوفُكَ في عزائي
إن الشاعر ينفذ ببراعة شديدة لعمق المعنى، ويعبر عن شعور عميق ينتابنا تجاه بعض الأشخاص ثقيلي الظل أو المكروهين، أو غير المرغوب فيهم، لسبب أو لآخر، والحق أننا نجد أحيانا نوعًا من البشر أثقل من جبل بل سلسلة جبال مجتمعة، اختصر الشاعر الوجود الإنساني ثقلا وخفة في هذين البيتين الرائعين، والجميل فيهما هو التعويل على الروح، وكونها المفردة المركزية البطل في البيتين رغم عدم ذكرها، ولكنها تتخلق في أحشاء المعجم غير المرئي، معجم ما بين السطور، فبعض النصوص العميقة تمنحك معجمًا غير مرئي متخلقًا من أحشاء المعجم الرئيس، كما لو كان النص تتناسل منه معاجم فرعية، وهذا يتناسب مع فكرة ثقل الظل والروح. وقد جاء الاختصار هنا مناسبًا لهذه الحالة، كأنما الشاعر يفر من هذه الروح بأقل الكلام، معتمدًا على حديث النفس الداخلي الذي يشبه الأمواج المتباعدة، ولا يريد أن يرى لهذه الروح وجودا قط.
ولا غرو أن نجد ومضة أخرى تحت عنوان "الروح"
إنـمـا  الــروحُ يـقينٌ ...عاشَ في وهمِ الحنايا
تسكنُ الجِّسمَ المُعَنّى ...ثـمَّ تـحيا فـي المنايا
حيث يؤكد الشاعر على قوة الروح وخلودها وأزليتها عبر هذا اليقين، ومن ثم فهو يعني –ضمنًا- أنه ينتصر للقيم والجمال والتحضر والرقي.
أما الومضة المذهلة حقًا والتي نختم بها في سياق الظواهر العامة في هذا الديوان بتحليل أوسع نسبيا، فهي ما أسماه "مسرح العبث" خاصة أنها تردنا إلى الوحدة المركزية المسيطرة على الديوان والتي تنتمي إلى الظاهرة التي أسميناها "أدب الحرب" بما تثيره قضايا تطرقنا لبعضها، وفيها يقول:

هل كانَ وجهيَ في الذهولِ كوجههِ
بـلدي  الـذي فـي الـعاصفاتِ يتوهُ
يـا مـسرحاً  لـلـحزنِ يـعـدو فـوقهُ
عـبـثُ  الـنـصوصِ ومـخرجٌ مـعتوهُ
فنحن هنا أمام بيتين رائعين يمسرحان الواقع في كثافة نادرة، وينفذان إلى صميم القضية بكلمات محترقة متفحمة وببصيرة نافذة ، وفيهما تناص مع مسرح العبث، بما يعني تحول الواقع إلى نوع من العبث، وهما ينحصران بين تساؤل يعكس الدهشة، ونداء يعكس الحسرة، وهما بيتان يغنيان عن كثير من الدواوين حقيقة، وفيهما كثير من سمات شعر الومضة، رغم أنهما ينطويان على براكين لا ومضات..
 والبيتان يعكسان ما هو أكثر، فعلى المستوى البنائي نجد اضطرابًا يحاكي تحطم الوطن واضطرابه من حيث رجوع الضمير على متأخر، فالحرب لا تبقي على شيء في مكانه، كما  نلحظ – من ناحية أخرى – أن تأخر المتحدَّث عنه المركزي في النص "بلدي" يوحي بالبعد عن مركزه القديم من ناحية، وببعد الشاعر/ أبنائه المغتربين عنه من ناحية ثانية..فالبعد غربة وهامشية وهذا ينعكس على التوزيع المعجمي للمعجم، وهذا كما ينعكس على البلد ينعكس على أبنائه أو العكس...ونفس الأمر يحدث في البيت الثاني فـ  (عبث النصوص) تتأخر في الموقع، ربما للإيحاء بأن العبث صار مالوفًا ومن ثم صار البدء والخاتمة... بالإضافة إلى إضافة ياء المتكلم (بلدي) كمحاولة للالتصاق وتعويض مسافات الهجر... ثم الاستعارة الجميلة: (بـلدي الـذي فـي الـعاصفاتِ يتوهُ) بجمع العاصفات التي توحي بتوالي نكبات الزمن.. ناهيك عن إحكام الصياغة الذي يوحي بإحكام قبضة الألم على القلب.. هكذا يلخص الشاعر حكاية الوطن في تلافيف مسرح العبث عبر هذين البيتين.. ويستطيع البيتان أن يدلانا على كثير من المسكوت عنه مما لم يقله الشاعر، فالممثلون يختفون من البيتين، ولكنهم موجودون في الواقع، يخفيهم الشاعر لكثرتهم واختلاطهم، فكم من "ممثل" في "مسرح" العبث الوطني، يؤدي "الدور"، وهكذا.
هذه لمحات نقدية تضيء الطريق أمام قارئ أحمد ظاهر، ولا تستوعب كل ما لديه، حتى لا نطيل، فالتراث والتضمين وغيرهما أمور أخرى تشغل حيزًا فنيا من الديوان، وهناك من الظواهر والنصوص ما يستحق وقفة خاصة، وكذا بعض السلبيات التي تنحدر من نثرية بعض المعالجات – وهي قليلة- ولكنا نكتفي بما قدمناه من تحليل فني بما يساعد المتلقي على استجلاء أفق مصابيح الروح الإبداعية عند هذا الشاعر.

 

تعليق عبر الفيس بوك