مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (7)


ناصر أبو عون

الجزء: 30 - سورة  النازعات – الآيات من (10 -14)
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَافِرَةِ ﴿١٠﴾ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمًا نَّخِرَةً ﴿١١﴾ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴿١٢﴾ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَٰحِدَةٌ ﴿١٣﴾ فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ ﴿١٤﴾}.
(قصة الآية/ المَثَل):
"يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون من بعد الموت: (يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَافِرَةِ)، أي: أئنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا قبل هلاكنا، وقبل مماتنا، وهو من قولهم: رجع فلان على حافرته : إذا رجع من حيث جاء". (1)
(المشهد التصويريّ):
يعنون الحياة بعد الموت من قولهم: رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء فيها، فحفرها أي أثر فيها بمشيه على النسبة وقرئ: «في الحفرة» بمعنى المحفورة يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا وهي حفرة.
والمشهد هنا يصوّر أناسا يقومون من قبورهم ويتساءلون: أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى، ثم يفيقون، أو يبصرون، فيعلمون أنها كرة إلى الحياة، ولكنها الحياة الأخرى، فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة، فتند منهم تلك الكلمة: قالوا: تلك إذا كرة خاسرة! (2)
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
 (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) قوله تعالى: (قالوا) حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق، ولعل توسيط (قالوا) بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع؛ أي: قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع: (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) أي: ذات خُسر أو خاسر أصحابها؛ أي: إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء، وقال الحسن: خاسرة كاذبة؛ أي: بكائنة، فكان المعنى: تلك إذا كنا عظاما نخرة كرة ليست بكائنة. (3)
(فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَٰحِدَةٌ) بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها، فإنما هي زجرة واحدة; يعني: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله - عز وجل ، فإنها سهلة هينة في قدرته، ما هي إلا صيحة واحدة، يريد النفخة الثانية (فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ) فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في جوفها، من قولهم: زجر البعير، إذا صاح عليه. والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية الماء.(4)
 (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَٰحِدَةٌ  فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ) والإتيان بـ(إِذَا) الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث. وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته (إِذَا) لأن الجمع بين المفاجأة والتفريع أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ. والفاء فصيحة للتفريع على ما يفيده قولهم: (أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَافِرَةِ  أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمًا نَّخِرَةً) من إحالتهم الحياة بعد البلى والفناء. فتقدير الكلام: (فلا عجب في ذلك فما هي إلا زجرة واحدة فإذا أنتم حاضرون في الحشر). وضمير (هي) ضمير القصة وهو ضمير الشأن، واختير الضمير المؤنث ليحسن عوده إلى (زَجْرَةٌ)، وهذا من أحسن استعمالات ضمير الشأن. والقصر حقيقي مراد منه تأكيد الخبر بتنزيل السامع منزلة من يعتقد أن (زَجْرَةٌ وَٰحِدَةٌ) غير كافية في إحيائهم". و(فاء) (فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ) للتفريع على جملة إنما هي (زَجْرَةٌ وَٰحِدَةٌ)، و (إِذَا) للمفاجأة، أي  الحصول دون تأخير، فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة". (5)
 (ِٱلسَّاهِرَةِ) "يعني: وجه الأرض، أي صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض: (سَاهِرَةِ)، وقال بعض أهل اللغة تراهم سموها (سَاهِرَةِ)  لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم". (6)
وقوله : (أئذا كنا عظاما نخرة) اختلفت القراء قي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة (نخرة) بمعنى: بالية. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة (ناخرة) بألف، بمعنى: أنها مجوفة تنخر الرياح في جوفها إذا مرت بها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول: الناخرة والنخرة سواء في المعنى، بمنزلة الطامع والطمع، والباخل والبخل; وأفصح اللغتين عندنا وأشهرهما عندنا (نخرة)، بغير ألف، بمعنى: بالية، غير أن رءوس الآي قبلها وبعدها جاءت بالألف، فأعجب إلي لذلك أن تلحق ناخرة بها ليتفق هو وسائر رءوس الآيات، لولا ذلك كان أعجب القراءتين إلي حذف الألف منها. (7)
..............
المصادر:
(1)    محمد بن جرير الطبري - الجزء 24 [ص: 194]
(2)    سيد قطب – في ظلال القرآن [ص: 3813 ]
(3)    تفسير شهاب الدين الألوسي
(4)    الزمخشري - - الكشاف - الجزء 6 [ص: 306]
(5)    الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير - الجزء 31 من [ص: 73]
(6)    تفسير البغوي
(7)    محمد بن جرير الطبري – [ص:194/ 195]

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك