مقامات التجلي.. تأملات فى الإسراء والمعراج (2)

 


ونحط من سماء التحليق مرة أخرى إلى عالم الواقع المشهود لنرى موقف المعاندين، وما اعتادت عليه نفوسهم من مجابهة الحق ومعاندة الحقائق، ولددهم فى الخصومة حتى مع أعظم المعجزات، ويعلم الله منهم ذلك قبل ما يعلموا عن أنفسهم، فيسرِّي عن نبيه، ويقطع عليه طريق العنت فى مجابهتهم " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) ". الأنعام "، ويقول " وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) " .. الآيات ـ الأنعام " .
ونتوقف مع المشهد القرآني فى الإسراء وكيف يعبر عنه، إنه تعالى ليعلم ما تموج به نفوس المعرضين من شك مريب، فيقف لهم فى طريق الجدل، ويكفي رسوله المواجهة، ويتولى بنفسه تقرير الأمر بالصورة التى لا تقبل الجدال ولا تحتمل التفسير العقلي، حيث كما قلنا تتخطى حدود الطاقات البشرية فيبدأ بـ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ)، ليلقم عقولهم ونفوسهم النزَّاعة إلى العناد والمكابرة حجرا تظل به شاخصة فى حالٍ من الذهول والوجوم، إنه مقام لا يتأتى له الجدل ولايتطرق إليه الاستدلال لأنه خارج عن طاقة تكوينه (صلى الله عليه وسلم) البشرية ولذا يبدأه بتسبيح نفسه وتنزيهها والإقرار لنفسه بكمال القدرة التى تحيط بخلقه ولا يحيطون بها، ومقام العبودية هنا لا يباريه مقام، ولاتدانيه رفعة ولا يساميه شرف، فقد جعل ضمير العبودية له وحده، وشرَّفه بأن نسب نبيه إليه فلم يقل (برسوله أو نبيه)، إنما قال (بعبده)، ولذا فهو فى رفعة ومنعة وعزة، حيث استخلصه لنفسه واختصه بهذا الشرف الذى حق له أن يقوم به فقال"أفلا أكون عبدا شكورا".
فإذا كان الحدث قد اجتمعت له تجليات الألوهية بـ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ)، وتشريف العبودية بـ(بعبده)، وخصوصية الزمان بـ(ليلا) حيث يطيب لقاء الأحبة، وبركة المكان (مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، والإنعام عليه برؤية مالم ير لأحد من قبل (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ)، فلا يحق أن يكون مقام البشر أمام كل هذا إلا مقام (التسليم) والأدب فى التناول، والإذعان لطلاقة القدرة، والإقرار بمقام النبوة والرسالة.. ولا ينبغي لهم غير ذلك؟!!
العناد أصل فى الطبع البشرى:
ومع كل هذا التقديم فإن النفوس لا تتخلى عن كبرها، ولا تترك نمط المكابرين من أسلافها  "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" النمل .. وعلى نمط "سيقول السفهاء" لا يتخلى السفهاء عما مكِّنوا فيه فيهرعون هذه المرة إلى هذه النفس التى استلهمت من قبسات النبوة، كما يخزِّنُ القمر ضوء الشمس، فتفيض عليها نورا وهداية وإلهاما، يأتون إلى أبي بكر رضي الله عنه فيقولون "أتدري ما قال صاحبك الليلة، ثم يقصّون عليه الخبر، وكأن الجواب حاضر فى قلبه من قبل، لم يبق إلا أن ينطق به لسانه، فيقول "إن كان قال فقد صدق" ، إن الله حين اصطفى نبيه بالرسالة لا يعزب عنه أن يصطفي له الصحبة، تلك الثلة المرضي عنها والراضية عن ربها ـ رغم أنف المرجفين والحاقدين والحاسدين ـ هذا الجواب الملهم ممن "لم يبلغه الخبر "ولا يؤجل التصديق على قول صاحبه فيظنوا فيه الريبة، ولا يقطع بالتصديق إلا أن يكون القول قد حق من صاحبه، فيعلق التصديق على صحة القول بشرط حدوثه، وقد صحَّ القول وصحَّ التصديق ،
" وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) " الزمر.
ثم يتحولون إلى طريق أخرى من جهل العناد فيطلبوا منه صلى الله عليه وسلم الدليل على قوله، من وصف بيت المقدس مفصَّلا والذي لم يدخله إلا مرة واحدة، وعن خبر العير التي فى الطريق، ويُرفع إليه بيت المقدس بهيئته، فيصفه لهم ركنا ركنا، وشرفةً شرفة، وبابا بابا، ويقصُّ عليهم أحداث الطريق، وخبر العير التى تقبل مع شروق الشمس، ولكن ذلك الخبر اليقين منه، والقصص المؤكد براويته، لا يغير من عناد النفوس شيئا، إذ هي لا تطلب التحقّق، ولا التثبيت، إنما تنزاح عن الحق انزياحا وتصدُّ عنه صدودا بما استحوذ عليها شيطان الجن وشيطان النفس، وبما أشربت فى قلوبها من إلف الكِبر فصارت تتزين به وتفتخر " إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4). النمل "  إنها نكست على رؤسها، واستبد بها الكبر واستحوذ عليها الشيطان .. فأنى تهتدي ؟!  
رحلة المعراج:
ثم يعرج (صلى الله عليه وسلم) من سماء إلى سماء، يصحبه جبريل، يلقى بكل منها بعض إخوانه من الأنبياء ويسلم عليهم سلاما، ويرحبون به أيما ترحيب (الأخ الصالح والنبي الصالح) ثم يبقى كل منهم فى منزلته، ليرقى هو (صلى الله عليه وسلم)، إلى السماء السابعة ومعه جبريل (عليه السلام)، حتى مقامٍ تتمايز فيه الدرجات وتُقدَّم فيه الرتبُ وتؤخر، (وما منا إلا له مقام معلوم)، ويتأخر جبريل عليه السلام رغم قوته العظيمة التى رآه عليها - صلى الله عليه وسلم عليها - سابقا، فخرَّ مغشيا عليه من هول المطلع وقوة الخلق، ولكن الرتبة هنا لا يعلمها إلا خالقها، ويعطي لكلٍ بقدر، وتسموالطبيعة البشرية فوق الطبيعة الملائكية لتقول: إن مقامات الاصطفاء مخصوصة معلومة (الله يصطفى)، فلا يقدم ملك ولا يؤخربشر إلا بعلم العليم وقدرة الخبير (ألا يعلم من خلق)، ليصل إلى سدرة المنتهى ويرى من آيات ربه الكبرى، ويفيض عليه من أنوار الجمال والكمال ويفتح له من أستار الغيب مالم يفتح لمخلوق قبله (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26). الجن)، فيرى الجنة والعرش، وتطوى أمامه صفحات الزمان (حيث لا زمان) فيرى من أمر الآخرة والجنة والنار ما يظهره الله عليه، وتتكشف حُجب القلب ليغرق القلب فى بحار النور، وفيوضات العلم، فإن كانت الرؤية لم تثبت بالعين، فإنما ثبتت بما فتح على القلب من الفيض، وما حظي به من أنوار الحمد، وإذا كانت حدود البصر قد حجبت من فيض الرحمة، فإن حدود القلب قد أطلقت بتجلي القدرة، فالبشرية التى أهلت لخوض غمار رحلة الملكوت، وجاوزت بحدها ـ الذى أنعم بها عليه ـ قدر أمين الملائكة، لن تعدم بعد ذلك رؤية القلب ونعيم القرب.
وبت ترتقى إلى أن نلت منزلة        
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
//
وقدمتك جميع الأنبياء بها والر           
ســل تقديم مخدوم على خدم
//
وأنت تخترق السبع الطباق بهم         
فى موكب كنت فيه صاحب العلم
//
حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق
من الدنو ولا مرقا لمستهم
//
خفضت كل مقام بإلإضافة إذ
نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
//
كيما تفوز بوصل أيّ مستتر
عن العيون وسرّ أيّ مكتتم
//
فخرت كل فخار غير مشترك
وحزت كل مقام غير مزدحم
//
وجل مقدار ما أوليت من رتب
وعز مقدار ما أوليت من نعم
دروس وعبر :
إذا كان صلى الله عليه وسلم قد حظى بهذا التكريم، وأكرم بهذه الدعوة الربانية، وشرف بهذه الصحبة (الملائكة والأنبياء)، وأراه الله من أمر الغيب ما أقر به عينه ، وأعطاه فضيلة لأمته (الصلاة)، تغتسل بها فى اليوم والليلة خمس مرات فلا يبقى من درنها شيء، فإن لهذا عبر وعلل:
إن علم الله لم يكن لتسرى عليه الحوادث، أو ينتظر أفعال العباد، إنما الأمر قد قضى والعمل قد استفرغ وكل ميسر فى ذلك لما خلق له .
أن أمر الآخرة والدنيا فى علم الله سواء، لا تسرى عليه تقلبات الزمان والمكان، إنما يستوى فى علم الحق ما كان وما سيكون وما هو كائن، وما لم يكن لوكان كيف كان يكون.
أن إيمان المؤمنين وكفرالكافرين لا يزيد ولا ينقص فى ملك الله شيئا، إنما هو اختبار وابتلاء للخلق ، يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيئ بإساءته ، وأنه لوشاء لم يمهل الكافرين كما قال (أمهلهم رويدا)، إنما ذلك من إقامة الحجة، وعدل الرحمة حتى يلقى كل ما قدم .
إن شرف النبى محمد صلى الله عليه وسلم لا يدانيه شرف، وأن قدره الذى رفعه الله إليه لم يصل إليه لا نبى مرسل ولا ملك مقرب، حيث سمع صريف الأقلام فى اللوح المحفوظ ورأى حملة العرش ، ولذا وجب علينا توقيره وتعزيره، والصلاة عليه والانتصار لدينه وسنته..
دع ما ادعته النصارى فى نبيهم
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
//
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
وانسب إلى قدره ماشئت من عظم
//
فإن فضل رسول الله ليس له     
حد فيعرب عنه ناطق بفم
إن هذه الأمة المحمدية قد حظيت بشرف هذه النبوة، ومنة هذه الرسالة (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) "، ودانت لهم العرب والعجم بهذا الشرف وأنه لا عز إلا فيه، ومن ابتغى العزة فى غير هذا المنهج أذله الله ، ولم يرجع من ذلك إلا بسلب هذه العزة، وخسران هذا الشرف  وهو فى الآخرة من الخاسرين .
اللهم أظهر لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، وما ذلك على الله بعزيز.

 

تعليق عبر الفيس بوك