الحب في زمن الحرب (4-4)

 

علي بن مسعود المعشني

 

صنعاء هي العاصمة السياسية والتاريخية لليمن وواحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، ولها تاريخ من القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل. تقع في وسط البلاد في منطقة جبلية عالية على جبال السروات، ترتفع عن سطح البحر 2300 متر.

مناخ صنعاء معتدل ولطيف طوال العام وإن كانت شمسها حارقة بعض الشيء وارتفاعها الشاهق عن سطح البحر يُتعب الزائر لها لأول مرة، حيث تنتابه بعض أو جميع أعراض نقص الأوكسيجين الناتج عن ذلك الارتفاع، ومن تلك الأعراض تتسارع دقات القلب نتيجة بذل أي مجهود حركي، وخاصة صعود السلالم مثلًا وجفاف الحلق وضيق التنفس أثناء النوم والدوار والرعاف. وكان من نصيبي حشرجة في الحلق وتسارع دقات القلب، خاصة وأنّي سكنت بالدور الثالث في الفندق وليس به مصعد كهربائي، الأمر الذي أجهدني وأرهقني في أيامي الأولى ثم زال تدريجيًا.

يذكر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه "زيارة جديدة للتاريخ" عن لقائه بالجنرال الإنجليزي مونتجمري قائد القوات البريطانية في معركة العلمين الشهيرة أنّ الجنرال وصفه في بداية لقائهما بعبارة جميلة ومعبرة وهي: "كم هو جميل وممتع قراءة التاريخ، وكم هو أجمل أن تجلس مع التاريخ وأشار بيده للأستاذ هيكل".

وهذه العبارة تنطبق بحذافيرها على صنعاء، فصنعاء مدينة تتقادم ولكنّها لا تشيخ والتاريخ فيها ناطق ومعبر وفي كل جانب من جنباتها، تجد التاريخ في الإنسان اليمني وقيمه وأخلاقه وسلوكه وفي جماليات المعمار اليمني ودقته وروحانيته وإتقانه وإبداعه وفي عمل وإبداع اليمني في زراعته وتجارته وحرفيته.

يُعرِّف المُتخصصون في المعمار الفرق بين البناء والمعمار بالقول بأنّ البناء هو شكل هندسي صامت، بينما المعمار هو شكل هندسي ناطق رغم جمود مكوناته من حجارة وطين وغيرها. فالمعمار يعبر عن ثقافة وقيم بينما البناء يعبر عن شكل هندسي مجرد. لهذا يقال المعمار العربي الإسلامي والمعمار الفارسي والمعمار الهندي والمعمار الصيني والروماني والقوطي وهكذا ولا يقال البناء، لأنّ في المعمار ثقافة وتاريخا وقيما متجسدة وناطقة لا نجدها في البناء.

حرصت كثيرًا على مباغتة صنعاء وهي نائمة؛ حيث أقوم مبكرًا وأقوم بجولة بسيارتي حول صنعاء لأستمتع بسكونها ثم دبيب الحياة في أوصالها تدريجيًا وتباعًا وسعي الناس لكسب عيشهم، وصنعاء رغم زحامها وفوضاها المرورية المنظمة لا يتوه بطرقاتها أحد، فكل شوارعها تتفرع من ثلاثة شوارع رئيسة بها وهي شارع تعز وشارع الزبيري وشارع الستين، وما عليك سوى معرفة شارع سكناك ومن أي شارع رئيس يتفرع ليدلك عليه أي عابر.

بقيت في صنعاء مدة (12) يومًا قبل أن أنتقل إلى عدن رفقة صديقي عبدالرزاق وهو من جنوب اليمن ويعمل بصنعاء منذ عام الوحدة. وصادف أثناء وجودي بصنعاء تدفق المحاصيل والفاكهة الموسمية والتي أبدع اليمنيون في زراعتها ورعايتها واحترام مواسمها فتجد بها اللذة والقيمة الغذائية الحقيقية والتي حرمتنا منها جشع الرأسمالية المتوحشة.

حرصت على مغادرة صنعاء باتجاه عدن في الصباح الباكر كي أودع صنعاء ن بما يليق بها، وأستمتع بالمناطق والناس والمناظر طوال الطريق، خاصة وأنّ الطريق جبلي بعض الشيء وبه منعطفات ومنعرجات خطيرة، فرغم عدم تجاوز طوله الـ(400) كلم إلا أنّ قطعه قد يتطلب منك عشر ساعات فأكثر ما بين تمهل وتوقف واستراحة ونقاط تفتيش، لهذا غادرنا صنعاء في السادسة صباحًا ووصلنا عدن في حدود الساعة السادسة قبل المغرب، حيث مررنا بيريم ومريس وقعطبة والضالع والحبيلين وردفان ولحج وصولًا إلى عدن.

أقمنا بفندق بمنطقة الشيخ عثمان وكنا نحرص يوميًا على برنامج جولة في عدن رغم صغر مساحتها لننتهي المساء بالجلوس بأحد المقاهي الشعبية بمنطقة الشيخ عثمان بالقرب من ساحة القاهرة؛ حيث الوجبات الشعبية المصحوبة بالصخب اليماني وضجيج الحركة التي لا تهدأ، مع أحاديث لا تمل مع أشخاص من أعمار مختلفة تجمعهم تلك المقاهي والشاي العدني، وتشعر بأنّك أحدهم لحفاوتهم وكرم أخلاقهم وتبسطهم.

عدن تشبه مسقط كثيرًا في جغرافيّتها وتضاريسها وبحرها وجبالها الصماء المحيطة بها ومناخهما متطابق في درجات الحرارة صيفًا وشتاًء، فعدن في تقديري ليست مدينة بل فكرة تطورت لتصبح مدينة بحكم الزمن، كصنعاء وأم درمان في السودان وبعض المدن العربية، والتي نشأت وتأسست كفكرة تعاظمت لتصبح مدينة، وتتجسد هذه الفكرة في فسيفساء الناس والأجناس والمهن والحرف في كل تلك المدن وسمات التعايش والتداخل والتآخي بين أطيافهم ومكوناتهم.

العدني - باستثناء أقوام بمنطقتي كريتر والتواهي وجوارهما ممن أتوا أجدادهم مع الإنجليز في بواكير تأسيس فكرة عدن كميناء وقاعدة تجارية وعسكرية – هم من تعز والضالع والحديدة وحضرموت والبيضاء واب ويافع وشبوة وأبين وغيرها من مدن اليمن جنوبه ووسطه ممن دعتهم المصلحة أو الحاجة إلى استيطان عدن والاستقرار بها، ورغم حديث بعض الطيف الجنوبي عن الانفصال الكلي أو في صيغة فيدرالية بعواطفهم نتيجة أخطاء في الوحدة إلا أنّ عقولهم وقلوبهم مع الوحدة المُحسنة وبعد المراجعة وتصحيح عثرات وأخطاء الوحدة والتي وقعت بفعل أشخاص صادروا الحلم لبناء أمجاد شخصية على حساب الشعب اليمني شماله وجنوبه.

فالجنوبي عاطفته في الجنوب وعقله وقلبه بصنعاء، خاصة وأنّ هناك جيلا يمنيا كاملا لم يعرف سوى الوحدة وتنقل في ربوع بلاده الموحدة، وعلم أنّ اليمن طيف متجانس ومتناغم ومكمل لبعضه بشريًا وماديًا وجغرافيًا، وتتداخل فيه الأنساب والأصول بشكل عضوي ومعقد يصعب الانفكاك منه أو تجاوزه.

في اليمن تجد كل شيء ولا تسمع كلمة (لا) على الإطلاق فكل شيء يمكن توفيره بأصله أو ببديله، ففي اليمن تجد ما يلبي الحاجة ويسد الرمق لتستمر الحياة.

في اليمن لا تشعر بالوحدة أو الخوف أو الغربة فالجميع صديق لك ومعين لك ويقف بجوارك، فاليمني صدى إيجابي للغريب طالما هذا الغريب إيجابي بطبعه ومشاعره فما بالكم إذا كان هذا الغريب عربي ومن سلطنة عمان بالتحديد!؟

ما أبهرني في اليمن هو العمالة الماهرة والصادقة والأمينة وتبسط الناس وتعاونهم وحبهم للخير وبشاشتهم وتبسمهم رغم المرارات والمحن، فأنت لا تخشى أن يكتشف أحد بأنك غريب عن البلد ليساومك بسعر سلعة أو يطمع بمقابل عال لخدمة أو يتحايل عليك، فالأمان والأمانة في كل مكان باليمن، وهما القاعدة وغيرهما استثناء في هذه الظروف أو غيرها.

اليمني بطبعه متسامح ويسمو فوق جراحه ولا يحقد لهذا يتجاوز المحن سريعًا ويلبي نداء الحياة والاعمار والتآخي، فاليمني إنسان قدري ومؤمن بالله ويخشاه ويرجوه؛ لهذا لم يخذله الله في محنته رغم خذلان العالم كله له، وسينهض كالعنقاء من تحت الرماد كما نهض في مفاصل تاريخية حادة وعبر كوارث ومصاعب وطواها خلفه ليكمل مسيرته ويعود ليمارس هوايته في تحدي الزوال وصنع الحياة.

وفي الختام يتساءل كل عاقل ومحب لليمن العزيز قائلًا: أما آن لهذا اليمن أن يستريح!؟

قبل اللقاء: من قصيدة الثواقب للشاعر اليمني العبقري مُعاذ الجنيد:

حشدتُم طغاة الأرض جمعاً لحربنا // عليكُم حشدنا الله والله غالبُ.

وبالشكر تدوم النعم..

Ali95312606@gmail.com