نظــــرية المَعْـــرِفَـــــة (5)

محمد رضا اللواتي – سلطنة عمان

 

الجزء الثاني:
كيف نفكر وهل المعرفة مجردة؟!


6: من يدير غرفة التحكم؟

-    قال السيد ماهر: مضى ثلثا النهار، وبقي الثلث الأخير وموضوعنا أيضاً قرب من النهاية. قلَّ نشاطك يايقظان.
-    يقظان: نعم فعلا. أعذرني. سأصب شيئا من الشاي الأحمر فلعله ينشطني.
-    وأنت يا إيمان.
-    إيمان: أفضل القهوة العمانية.
-    السيِّد ماهر: إذن سأفعل الشيء ذاته ياإيمان. فكري في هذا السؤال وأنت تصبين القهوة: ما هي أدوات المعرفة التي مرت علينا لحد الآن؟.
-    إيمان: الحس والعقل.
-    يقظان: والوجدان.
-    السيِّد ماهر: الحواس من أدوات المعرفة. إنها الجواسيس التي تجلب لنا العالم الخارجي في أذهاننا. والعقل طاقة إبداعية هائلة يبتكر الكليات، وينتزع من حركة الكائنات أحوالها الخاصة، ويكتشف ارتباطاتها ببعضها البعض. أما الوجدان فهو أداة أيضاً به نتصل بذاتنا عبر العلم فنكتشفها ونعرف أوضاعها الداخلية. تذكران إنني كنت أرى أن للعقل الدور الأضخم في بناء صرح المعرفة؟.
-    إيمان: نعم. نتذكر.
-    السيِّد ماهر: سوف تتيقنان من ذلك الآن أكثر. جلب البصر صورة الشجرة في الذهن، ولم يفعل غير هذا أبداً لأن مهمته هي هذه فقط. إنه يتجسس لصالح النفس فيعطيها صور الكائنات، كما أن المصور يلتقط صور الأشياء. ولكن من الذي أكد للمشاهدين أن هذه الصور التي التقطتها عدسة المصور موجودة فعلا؟ من الذي قال للنفس بأن الصور التي نقلتها عدسة العين عن العالم الخارجي موجودة حتما؟ وما ينقل السمعُ من أخبار متحققة فعلاً؟.
-    يقظان: سؤال وجيه.
-    السيِّد ماهر: إنه العقل فحسب. هناك قوة تشرف على الصورة القادمة وتشرف على تطابق مضمونها بما تحقق في الذهن عنها. إنها القدرة الهائلة المبدعة. وبعبارة أخرى إنه العقل.
-    يقظان: عجيب حقاً.
-    السيِّد ماهر: أزيدكما من الشعر بيتاً؛ هل تؤمن يايقظان بأن آينشتاين كان موجوداً؟.
-    يقظان: نعم. حتماً وبلا ريب.
-    السيِّد ماهر: لكنك لم تره أبداً.
-    إيمان: صحيح نحن لم نره، ولكن ليس بوسعنا أن نكذب العالم بأسره، ونكذب العلماء الذين عاصروه، وكتبوا عن إنجازاته.
-    السيِّد ماهر: رائع. ولكن من الذي ألهمكما هذا الموقف؟ من الذي قال لكما أن تواطؤ الجميع على افتعال الكذب أمر غير معقول؟ إنه العقل. إذ لا يوجد مبرر آخر لانبعاث هذه الفكرة في الذهن. الحواس لا تولد الأفكار. استحالة اجتماع أناس عديدين من مختلف الأماكن على الكذب وافتعال شخصيات لا وجود لها، أمر غير مقبول عند قدرة ما. هذه القدرة لها سيطرة على سائر القدرات الأخرى الفكرية، بحيث أن كل القدرات الثانية، تخضع لقرار هذه القدرة. تلك القدرة التي لا تقبل هذا النوع من الأمر وتراه محالاً. هذه القدرة هي العقل؛ غير العقل من حواس ووجدان لا يمتلكان هذه الخصوصية.
-    يقظان: بدأت أفهم الآن.
-    السيِّد ماهر: اجتماع الناس بمختلف مشاربهم على وقوع أمر ما أو عدم وقوعه يسمى بـالتواتر. التواتر يمنح له العقل قيمة كبيرة، ويرى أن صدور الكذب لا يتوافق مع التواتر. لنفترض أن زملاء ثلاثة جلسوا في غرفة التحكم. الأول دوره رفع تقرير عما يجري داخل المبنى بأكمله، باستثناء نفس تلك الغرفة التي يجلس هؤلاء الثلاثة فيها، والثاني دوره رفع تقرير عما يجري في غرفة التحكم والقيادة هذه. أما الثالث، فدوره الإطلاع على هذه التقارير وإصدار الأحكام المناسبة. لو جاء الثالث تقرير عن تعاقب ظاهرة النار وظاهرة ارتفاع الحرارة، يحكم بأن النار علة وسبب لارتفاع الحرارة. ولو جاءه تقرير عن اتفاق عدة من أفراد البشر من مناطق متعددة من العالم على وجود رجل كان يدعى ابن سينا، فسوف يقبل منهم لأنه لا يصدق أن يجتمع هؤلاء بمختلف جنسياتهم على الكذب، إذ لا يرى المصلحة الداعية لهم على ذلك. غرفة التحكم هي النفس، ورافع التقارير عن المبنى هو الحواس، ورافع التقارير عن غرفة التحكم هو الوجدان، أما مصدر الأحكام فهو العقل.
-    إيمان: ما أعجب ذلك؟.
-    السيِّد ماهر: لولا العقل لاستحالت المعرفة. في الواقع هي القوة المفكرة فينا. يقوم العلماء بالبحث والتنقيب عن الأدوية لعلاج مختلف الأمراض. وعندما يكتشفون دواءاً ما يجربونه على عدد من أفراد البشر، إذ ليس متاحاً لهم تجربته على عدد لانهائيٍّ من البشر، لكنهم مع ذلك، يصدرون الدواء لكي يتناوله سائر البشر ويعتقدون بأنه سيعالج المرض حتى في أولئك الذين لم تتم التجربة على أبدانهم. فعلى أي أساس استندوا في ذلك؟ القدرة العقلية ترى بأن حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.
-    يقظان: مذا تعني بقولك "حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد".
-    السيِّد ماهر: حكم الأمثال يعني الحكم على الأشياء المشابهة لبعضها من جميع النواحي. حكم حديد في مسقط ونفس الحديد في بيروت يجب أن يكون واحداً. العقل يقول بأن حكمهما يجب أن يكون نفسه لأنهما أمثال بعض. فلو تمدد الحديد في مسقط بفعل الحرارة، فإن الحديد في بيروت يجب أن يتمدد كذلك بفعل الحرارة. القدرة التي جعلت هذا الحكم في الأول سارياً في الثاني أيضاً، وفقا للتماثل، هي العقل، لأنه لا قابلية للحواس ولا الوجدان لإصدار الأحكام.
-    يقظان: لقد فهمت جيداً ياسيد ماهر. العقل يلعب دوراً ضخما في بناء صرح المعرفة.
-    ينقلون أن رجلا يدعى أباشاكر الديصاني، كان منكراً للألوهية، حاور الإمام جعفر بن محمد الصادق –ع- ذات يوم حول المعرفة، وإنها تتحقق عبر الحواس، فقال: "إنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا أو سمعناه بآذاننا، أو شممناه بمناخرنا، أو ذقناه بأفواهنا، أو لمسناه بأكفنا، أو تصور في القلوب بياناً، أو استنبطه الرويات إيقاناً(1)". أي أن الديصاني لا يستند إلا على الحواس في المعرفة. فرد الإمام الصادق –ع- عليه قائلاً: "ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع شيئا بغير دليل كما لا يقطع الظلمة غير مصباح"(2). الإمام الصادق –ع- يشير إلى قوة أخرى لولاها لما أفادت الحواس في المعرفة شيئاً.
-    إيمان: يا إلهي. مثل هذه المحاورات كانت موجودة في ذلك الزمان؟.
-    السيِّد ماهر: بلى يا إيمان. المنكرون للألوهية أنكروها لإنكرانهم وجوداً خارج إطار المادة. أولئك كانوا يستندون على الحواس في المعرفة. وكان الأولياء الهادون إلى الله –تعالى- يناقشونهم ويفندون أفكارهم.
-    يقظان: هذا الذي يمارسه العقل من اصدار الأحكام، لم يكن مقدورا له ذلك لولا وجدانه بالعلم الحضوري هذه الأحوال من خلال النفس. هل هذا صحيح يا سيد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: بلى يا يقظان. إن ما قلته الآن هو عين الحقيقة والصواب. في الواقع، بعد الإطلاع الوجداني على حقيقة النفس وكيف تتعلق أحوالها بها وتنستند عليها، يتحرك العقل وهو يحفظ عن ظهر قلب هذا النموذج، فإذا شاهد في الواقع الخارجي مثيلا للواقع النفسي، أصدر ذات الحكم الذي أصدره عند مشاهدة واقعية النفس بالوجدان. لنرجع إلى ما كنا فيه، أدوات المعرفة إذن هي الحواس والوجدان والعقل.
-    إيمان: عفواً ياسيِّد ماهر، لماذا لا نقول أن أداة المعرفة هي العقل فقط وله مساعدان هما الحواس والوجدان؟.
-    سكت السيد ماهر متأملاً ثم قال: قد تكونين مصيبة يا إيمان، ولكنني أحتاج إلى مزيد من التأمل.
         سجلت إيمان ملاحظة حول ذلك في دفترها. لاحظ السيد ماهر ذلك فقال لها:
-    سجلي يا إيمان أمراً أريدكِ أن تذكريني به إذا نسيتُ. أن أتحدث عن أداة القلب في المعرفة وصلتها
         بالعرفان.
-    إيمان: أليس من المناسب أن نطرحه الان في موضوع المعرفة؟.
-    السيِّد ماهر: كلا. لأن بعض مقدماته الهامة ستأتي لاحقاً.
-    إيمان: كما تشاء ياسيِّد ماهر. لقد سجلت ذلك.
-    السيِّد ماهر: أشكركِ.
-    إيمان ويقظان: بل الشكر موجه لك أنت ياسيد ماهر.


        7: من المعلوم إلى المجهول

-    السيِّد ماهر: لنرجع إلى حيث كنا. عرفتما جيداً أن منضدة الأفكار هي قاعدة استحالة اجتماع النقيضين.
-    يقظان: نعم.
-    السيِّد ماهر: وعرفتما أيضاً مصدر هذا اليقين كذلك.
-    إيمان: نعم. سبب شدة اليقين في هذه القاعدة راجع إلى أننا عرفناها عبر الوجدان والعلم الحضوري.
-    يقظان: وتأكدنا من صدق مفهومها عندنا لأننا أشرفنا على تطابق مفهومها بمنشأ انتزاعها.
-    السيِّد ماهر: رائع حقاً. وعرفتما كذلك شدة اليقين في المعقولات الأولى والمعقولات الثانية. طيب ياإيمان ... ما تفسير هذا اليقين القوي في المعقولات الأولى؟.
-    إيمان: بعدما انتقلت صور الأشياء في الذهن عبر الحواس، انتزع العقل منها الكليات. إن هذا الانتزاع يكون بالعلم الحضوري لأن صور الأشياء حاضرة فينا.
-    أكمل يقظان: أما يقيننا بـالمعقولات الثانية فعائد إلى اكتشاف العقل وانتزاعه لها من أوضاع النفس الداخلية بالعلم الحضوري أيضا لأن هذه الأوضاع أوضاع النفس.
-    السيِّد ماهر: جيد جداً أيها البطلان. والآن، لو جعلنا المعقولات الأولية والثانية مقياساً، بحيث نقيس صحة كل معرفة بهذا المقياس، هل نكون قد ضمنا السلامة لأفكارنا؟.
-    يقظان: هل يمكنك التوضيح أكثر؟.
-    السيِّد ماهر: لقد علمنا أن الوجود لا يأتي من عدم، فلو قال لنا قائل، "راسل" مثلاً،: إذا كان الله موجودا فمن أوجده؟ يجب أن يكون له أيضا بداية. فماذا نفعل؟.
-    يقظان: لا نقبل ذلك أبداً.
-    السيِّد ماهر: ولِمَ؟.
-    يقظان: لأن الوجود لا يأتي من عدم. هذا تناقض صارخ.
-    السيِّج ماهر: أحسنت.
-    هل قلت "راسل" ياسيِّد ماهر؟، قال يقظان.
-    السيِّد ماهر: نعم. "برتراند راسل" الفيلسوف البريطاني الشهير.
        كان قد ألقى محاضرة محاضرة بعنوان (لماذا لست مسيحيا؟) عام 1927 في أحد مؤتمرات المنظمة
        العلمانية البريطانية في لندن قال فيها:

        هنا..

        أخرج السيد "ماهر" كراسا وبدأ يقرأ منه..

"أعترف أنه خلال وقت شبابي عندما كنت أعطي هذه الأسئلة الكثير من الجدية و الأهمية كنت أعتقد بصحة حجة المسبب الأول إلى أن قرأت ، في عمر ال 18 سنة، سيرة حياة جون ستيوارت ميل حيث وردت الجملة التالية: "علمني والدي أنه لا توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟" هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة. إذا كان لكل شيء مسبب يجب أن يكون للرب مسبب أيضا. إذا وجب وجود شيء بدون مسبب، يستطيع هذا الشيء أن يكون العالم (الكون) كما الرب في هذه الحجة التي بدون معنى. تتشابه هذه الحجة مع حجة الهندوسي الذي يقول أن العالم موجود على ظهر فيل و هذا الفيل يقف على ظهر سلحفاة و عندما سُئل هذا الهندوسي عن السلحفاة، أجاب: لنتحدث عن شيء آخر. حجة المسبب الأول ليست أفضل من ذلك. لا يوجد سبب يمنع الكون من أن يكون وجوده بدون سبب و لا يوجد سبب يجعلنا نقول أن الكون له بداية. الفكرة أن لكل شي بداية هي نتيجة فقر قوة خيالنا".

-    إيمان: سبحان الله. بينما تجيب عنه الفلسفة الإسلامية بمنتهى الدقة.
-    السيِّد ماهر: بالفعل. لنرجعْ إلى ما كنا فيه. إذن اعتمدنا في رد الشبهة على معارفنا اليقينية. وهكذا فلو ثبت لدينا أن هذا العالم حادث، وقال قائل بأنه أزلي وغير مسبوق بالعدم، فهل نقبل؟.
-    إيمان: كلا، لأن في ذلك تناقضاً صريحاً؛ كيف يكون حادثاً وفي نفس الوقت غير مسبوق بالعدم؟.
-    السيِّد ماهر: علينا إذن الاعتماد على معارفنا اليقينية لكسب معارف جديدة. بذلك نضمن صدقها أيضا. يُدرس ذلك في علم المنطق مفصلاً. والفلسفة الإسلامية تعتمد على هذا الأسلوب في تحقيقاتها.
-    يقظان: هل قلت "علم المنطق"؟ ذاك الذي وضعه الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطو؟.
-    السيِّد ماهر: نعم. إن النظرية التي يؤمن بها الفلاسفة المسلمون حول معيار الحقيقة، هي ذاتها التي كان أرسطو يعتقد بها. المعيار هي المعارف البدهية أو التي تنتهي إلى البدهيات. مثلا: لو أعتقدنا أن الزاوية أ = الزاوية ب، والزاوية ب = الزاوية ج، ونجهل ما إذا كانت الزاوية ج = الزاوية أ، فماذا سنفعل؟ لن نتردد للحظة في أن نقرر بتساوي الزاوية أ والزاوية ج، وذلك لأن قانون المساواة من القوانين البدهية التي يدركها العقل في الأمور الكمية.
-    يقظان: لا يبدو أن الفكر الغربي الحديث مرتاح من هذا الأسلوب في المعرفة.
-    السيِّد ماهر: فعلاً. فقد زعم فرانسيس بيكون أن المنطق الأرسطي عديم الجدوى، ودعا إلى المنهج التجريبي كبديل عنه. وهكذا نشأت الفلسفة الغربية الحديثة على عدم الاعتراف بـالبدهيات العقلية وإنكار قيمتها اليقينية كلياً. في الواقع أن التجربة نفسها مستندة على البدهيات العقلية. لولا إدراك العقل لقاعدة "حكم الأمثال واحد" لما أمكن تعميم التجربة العلمية على الإطلاق.
-    كيف لا يلتفت علماء الغرب إلى مثل هذه القضية الواضحة؟، تساءلت إيمان بتعجب كبير.
-    السيِّد ماهر: الحديث ذو شجون يا إيمان، والأولى تركه.

8: الأفكار...هل أستطيع لمسها؟ لنكتشفْ عالم التجرد

-    السيِّد ماهر: وصلنا إلى آخر نقطة في الموضوع. لا شك أنكما سمعتما أن الإنسان كائن يتكون من بعدين؛ بعد مادي، وآخر روحي.
-    يقظان: نعم سمعنا بذلك وأنا شخصياً أعتقد به.
-    إيمان: إن المضامين الدينية تؤكد على ذلك بشدة.
-    السيِّد ماهر: الفلسفة الإسلامية أيضا وتقيم أدلة عليه.
-    إيمان: هلا أطلعتنا عليها؟.
-    السيِّد ماهر: بالتأكيد. ولكن، ونظراً لأننا نتحدث حالياً عن العلم والمعرفة، فليكن إثباتنا لوجود البعد الروحي فينا يمر عبر العلم والمعرفة.
-    يقظان (مندهشاً): كيف؟.
-    إذا كنا أرواحاً في أجساد، فلا شك أن وعينا بالعالم سيكون متصلاً بكياننا الروحي.
-    يقظان: فعلاً.
-    السيِّد ماهر: وهذا يعني أن علومنا وأفكارنا، ومعارفنا ووعينا، ظاهرة غير مادية. إنها ظاهرة متعالية عن أفق المادة. العلم مجرد من المادة.
-    هذا غير معقول، قال يقظان باندهاش.
-    السيِّد ماهر: وما وجه عدم معقوليته يايقظان؟.
-    يقظان: العلم أثبت أن المعارف تكمن في خلايا الدماغ في شكل شحنات كهربائية.
-    إنك تعرض رأي بعض العلماء يايقظان وليس كلهم. هناك من العلماء من وصل، بعد بحث دام سنوات، إلى خلو الدماغ من العلوم والمعارف كلياً.
-    يقظان: هل لك أن تشير إلى بعض من أولئك العلماء؟.
-    ظهر في الآونة الأخيرة "كارل بريبرام" الذي تخصص بشكل عميق في علم وجراحة الأعصاب. كان منهمكاً في مختبر له في "ستانفورد" يريد فهم العمليات الدماغية في الثدييات العليا على نحو عام. قضى ردحا من الزمن في جراحة الدماغ، وأشرف على تجاربه الدكتور "كارل آشلي" الذي أنفق 30 عاماً في البحث الجاد الرصين في دراسة الأثر المخلف في الدماغ. كان يدرب حيواناته التي أرادها أن تكون موضع تجربته. كان يخرب أقساماً من أدمغتها ينتقيها بنفسه، لأجل معرفة موضع التعليم والتفكير من الدماغ. وكم كانت دهشته عظيمة عندما توصل وبعد تجارب عديدة، وبعد انقضاء وقت قصير من تدمير خلايا الدماغ، أن ما تعلمته هذه الحيوانات ظل باقياً كما هو. يعني أن اجتثاث المعرفة من أدمغتهم مستحيلة.
-    إيمان: مذهل.
-    يقظان: معنى هذا أن المعرفة ...
-    لم تكن تقطن الدماغ يايقظان، وإلا لتأثرت واضطربت على أقل التقادير، قال السيِّد ماهر.
-    يقظان (مذهولاً): حقاً أستاذ ماهر.
-    السيِّد ماهر: كنت أتكلم عن "بريبرام" ...
-    إيمان: فعلاً لقد نسيناه.
-    السيِّد ماهر: لقد كان منزعجاً جدا لعجزه عن سبر غور المعرفة وعلاقتها بالدماغ. وبعد تفكير وجهد مضنٍ، توصل إلى أن ثمة وعياً يسكن الدماغ يترجم الإشارات ويفهمها فهما جيداً. وكان يتساءل: هل فعلا ما قاله الأقدمون صحيح؟.
-    يقظان: وما قال الأقدمون؟.
-    السيِّد ماهر: الأقدمون كانوا يقولون بوجود روح مع الجسد. طيف في الآلة. أو "الأنا" التي تستعمل الدماغ دون أن تكون في أي موقع فيه. كان بريبرام يقول: هل فعلا ما قاله القديس فرانسيس الأسيزي ذات يوم صحيح؟ كان يقول: إن ما نبحث عنه هو ما ينظر إلينا.
-    إيمان: وهل أعتنق فكرة ذلك القديس؟.
-    السيِّد ماهر: كتب في إحدى مقالاته بعد أن أعيته البحوث "أن كل ما يبدو لنا في هذا العالم من ملموس ومسموع لا يعدو أن يكون غير وهم! إن الذي نراه نحن من هذا العالم منبسط على نظام تحتي وضمني يشتمل على الكل وهو جوهر هذا العالم. ذلك النظام الضمني منطو ومغلق، وهو يحوي واقعنا ويخفيه في آن واحد. الخلاصة التي أعتنقها هذا الباحث الكبير هو أن العالَم ينبثق من نظام آخر عميق لهذا الكون. ولا تفسير لموضوع المعرفة وعلاقتها بالدماغ إلا عبر هذا الطريق فحسب. كان يقول إن على العلماء أن يهيؤوا الناس للدفاع عن الروح بوصفها مجموعة من قضايا وحقائق مسلمة.
-    إيمان: يا إلهي ... من المختبر إلى الروحانيات. قفزة مذهلة.
-    السيِّد ماهر: ليس بريبرام هو وحده الذي قفز هذه القفزة يا إيمان. هناك العديد غيره، أذكر الآن منهم العالم "كيث فلويد"، أحد اشهر علماء النفس، الذي قال "قد لا يكون الدماغ مصدر الوعي أبداً".
-    يقظان: الحصيلة ياسيِّد ماهر هي أن العلماء تجاه هذه المسألة انقسموا إلى قسمين: قسم يصر على مادية المعرفة، وقسم يذهب إلى روحانيتها. ما موقفنا وعلى أساس ماذا يجب أن نبنيه؟.
-    السيِّد ماهر: سنطرق باب الفلسفة لنرى وجهة نظرها. وعلينا اعتناق نظرتها إذا كانت مستندة على البدهيات. الحكمة المتعالية تقيم عدة أدلة على تجرد الإدراك.
-    ما الذي تعنيه بتجرد الإدراك؟ سأله يقظان.
-    أعني بالتجرد، التجرد عن المادة. المجرد عن المادة هو الفاقد للمادة، وبالتالي فإن شروط المادة لا تنطبق عليه. أي الروح بلفظ آخر.
-    أعرض علينا بعض تلك الأدلة يا سيد ماهر. طلبت إيمان منه ذلك.
-    بالتأكيد سأفعل. تأكدا أولاً، أن القول بوجود المعرفة في الخلايا الدماغية لا يمكن قبوله.
-    ولماذا؟ رد يقظان.
-    لأن خلايا الدماغ، كغيرها من الخلايا، والكون بأسره، ليس إلا حركة هائلة. عالم المادة يساوي الحركة. لا يوجد في العالم ثبات أبداً. كل شيء يتبدل ويتغير. وهذا يعني أن خلايا الدماغ أيضاً في تبدل وزوال، وإن بعد فترة. فلو كانت المعارف كامنة في الخلايا، لتبدلت وزالت. لكن الأمر ليس كذلك.
-    إنها تتبدل كما تفضلت ياسيد ماهر. ولكنها، تنقل مضمونها المعرفي إلى الخلايا في طور الولادة. علق يقظان.
-    ها أنت مجدداً يا يقظان تحاول صبغ الثبات على المادة. إنك تعني أن الخلايا تتناقل المعرفة لذلك تبقى صامدة. فإذن لقد أثبت الثبات للمعرفة، في الوقت الذي أثبتت ماديتها. أليس هذا تناقضا واضحا؟ الثبات لا يجتمع بالمادة.
-    المعرفة تتغير وتضمحل تدريجياً ياسيد ماهر، غاية ما في الأمر أننا لا نحس بذلك. ألا تلحظ أن التذكر يكون صعباً لدى كبار السن؟ علقت إيمان.
-    ليس كلهم. إذا كان هذا هو الوضع في الواقع فيجب أن ينتاب الجميع. إن العديد من كبار السن يتذكرون سائر تفاصيل حياتهم. إنهم يتذكرون من هم، وما اعتقاداتهم. ثم أن النسيان عجز في التذكر وليس تبدل في المعرفة. لا يقع التغير ولا التبدل في معرفتنا بذاتنا. ثم، هل نسيتما تجارب بريبرام بهذه السرعة. لقد أتلف الدماغ لكن لم يتمكن من اتلاف المعرفة.
-    أه. صحيح! إيمان.
-    يمكننا النظر إلى الموضوع بعمق أكثر. نحن نستطيع معرفة الأحجام الحقيقية للأشياء. ويمكننا استحضارها بحجمها الحقيقي. كيف يحدث ذلك؟ إذا كانت المعرفة كامنة في شحنة كهربائية فيجب أن تكون بحجمها، ولكننا نستذكر أحجاماً لا تتناسب وحجم ذرات خلايا الدماغ.
-    في الواقع، نحن نرى صوراً صغيرة جداً تتناسب مع حجم الخلايا، ولكننا نتخيل بأننا ندركها وفق أحجامها الحقيقية. علقت إيمان.
-    إذن المعرفة غدت تخيلا محضا. ورغم ذلك، كيف أمكننا تخيل الصور الكبيرة؟ أعني: كيف أمكن للقدرة التخيلية أن تنجب صورة أكبر من حجم مخيلتها؟ سكتا ولم يجيبا بشيء. أستمر السيد ماهر قائلاً:
-    تأكدا قبل كل شيء بأنه لا سبيل إلى الاقتناع بمادية المعرفة وثباتها في آن واحد. لأن ذلك تناقض صريح. فإذا كانت المعرفة مادية فيجب أن تكون ثابتة. وبما أن الثبات مستحيل في عالم المادة فالمعرفة يجب أن لا تكون مادية بتاتاً. أما الاقتراح الذي قدمه يقظان حول تبدل الخلايا وبقاء المعرفة وانتقالها إلى خلايا جدد فليس بمقبول نظراً لأنه عاد وألبس المعرفة لباس الثبات وهكذا فقد أخرجها عن ماديتها. وكذلك محاولة إيمان لانقاذ مادية المعرفة عبر القول بتبدلها مع عدم شعورنا بهذا التبدل والاضمحلال إلا بعد مرور سنين طويلة، أيضاً غير مجدية، ذلك لأن ثمة من لا تصيبهم آفة النسيان مهما تقدم بهم العمر.
-    والحل؟ تساءل يقظان مندهشاً.
-    الحل في قبول تجرد المادة. رد السيد ماهر واستطرد يقول:
-    سأحاول مساعدتكما. تأملا جيداً: سأخرج شيئا من محفظتي، ها هو. إنه في قبضة يدي. هل يمكنك رؤيته يا إيمان؟
-    كلا. إنه في كفك. ردت إيمان.
-    هاهو.
-    رأيته. إنها بطاقة ائتمان.
-    لقد رأيته؟. يعني إنك قد أدركته. كيف حصل ذلك؟
-    برؤيتي له.
-    كلا. وإنما بانتقاله فيك. أعني عندما أبصرته، تكون له وجود في ذهنك. وبذلك فقد وعيت بوجوده. إنك يا إيمان، برؤيتك له، أوجدت له صورة في كيانك. هذه الصورة تجردت عن الزمان والمكان وتكونت في أعماق وجودك.
-    تجردت عن الزمان والمكان؟ سأله يقظان مندهشاً.
-    بلى. أين هو الزمان في تصورك لبطاقة الائتمان؟ وأين مكانه؟ يمكنك أن تتذكره وتحضره في أي زمان وأي مكان. مع العلم بأن الزمان والمكان من أبعاد الماديات. من المستحيل للكائن المادي أن يتجرد عن الزمان والمكان يا يقظان. صورتك الذهنية تفتقد هذا البعد بالمرة.
-    إنه موضوع عسير على الفهم حقاً. علق يقظان.
-    هو كذلك لأننا نستصعب تصوره. العلم يتحقق بحضور المعلوم لدى العالم. والحضور له ثلاثة أشكال متصورة:-
1.    الشكل الأول: أن يحضر شيء لشيء، مع احتفاظ كل منهما بحقيقته الخاصة به. إننا إذا تأملنا هذا الشكل من الحضور، في الواقع لن نجد حضور أحدهما لدى الآخر. وإنما سنلحظ القرب والالتصاق فحسب. ها أنا ذا، أقف بجانبك يايقظان. كل منا محتفظ بكيانه الخاص به. أين هو حضورك عندي؟ نحن نقف متلاصقين فحسب.
2.    الشكل الثاني: أن يحضر شيء لشيء آخر، بحيث يتنازل كل منهما عن كيانه الخاص، فينتج من ذلك موجود ثالث، لا هو هذا ولا هو ذاك. وهنا أيضا لم يحقق الحضور، لأن كيان كل منهما قد زال. إلتفتا:  ما الذي سيحدث عندما أسكب شيئا من الشاي الأحمر في كوب ماء. تكون كيان جديد، لا يمت إلى الماء أو إلى الشاي بصلة. هاهنا لا يوجد علم، لأنه لا يوجد من حضر لدى الآخر.
3.    الشكل الأخير: أن ينتقل شيء في كيان شيء آخر، فيكون حاضرا لديه. عندما أبصرت إيمان بطاقة الائتمان، تكون في كيانها صورة عنها. هذه الصورة تسكن في إيمان. وهذا هو معنى حضورها عندها. إن الأبعاد الزمانية والمكانية لا تسمح للحضور بأن يتحقق. في الواقع البعد الزماني والمكاني تسببان الغيبوبة وتمنعان الحضور، وبالتالي يقفان حائلاً دون تحقيق العلم.
-    كيف يا سيد ماهر؟ سألته إيمان مندهشة.
-    الزمان يشتت الشيء إلى ماض، وحاضر، ومستقبل. الزمان يعني تدرج وجود الشيء. إن لنا وجوداً مادياً متدرج التحقق. هذا التدرج يسبب في إنبثاق الماضي والحاضر والمستقبل.
-    مذهل. علق يقظان.
-    والمكان يحجب الشيء ويمنع العلم. ألستما عاجزين عن معرفة ما هو بعيد عنكما مكاناً؟
-    نعم.
-    وإذن؟ المعرفة تتحقق فقط عندما يتحقق الحضور. البعدان المكاني والزماني يجب أن يزولا حتى يتحقق العلم. ومن هنا، فصورنا الذهنية فاقدة لشرائط المادة من زمان ومكان، لأنها تمكنت من الحضور في أعماق كياننا، الأمر الذي حقق لنا علماً بوجودها. عندما أريد أن أعرف شيئاً، علي أن أجده في ذاتي، فأعرفه. لأنه ليس لدي إلا ذاتي. هي الوحيدة التي تحظى بحضور دائم لدي. لأنني وذاتي أمر واحد. وإذا أردت أن أعرف شيئا خارجاً عن ذاتي، على ذلك الشئ أن يصبح جزءا مني، من كينونتي وذاتي. حينئذ فقط، يمكنني أن اعرفه.
-    يا إلهي ... ياله من موضوع مذهل. يعني إننا لا نعرف سوى ذاتنا؟ سأله يقظان مذهولاً.
-    وما وقع في ذاتنا فقط يا يقظان.
-    ولكن.. كل يوم نشاهد نحن مئات الأشياء في الخارج يا سيد ماهر. علقت إيمان مندهشة.
-    ما معنى نشاهد؟ معناه أن صور الوقائع الخارجية تنتقل فور وقوع بصرنا عليها، إلى أعماقنا.
-    وهكذا يتم الإدراك. يا للعجب. لقد فهمتك يا سيد ماهر. علقت إيمان.
-    بهذا الطريق، نثبت وجود البعد الروحي فينا. عبر طريق العلم والمعرفة. لقد أثبتنا بأن العلم ظاهرة مجردة من المادة، ويجب أن يكون الوعي بالعلم مجرداً كذلك، إذن في الإنسان بعد مجرد عن المادة، وهو البعد الواعي والمدرك منا. المادة تزول وتفنى. بالموت، يزول البعد المادي، ونقوم بوضعه في تراب القبر. بينما ينتقل الإنسان إلى عالم جديد، يحمل معه قدرته على الوعي به، فلو كان الوعي والعلم من شؤون المادة لكنا قد وسدناه التراب، وأضحى الإنسان في عالمه الجديد بلا وعي ولا قدرة على الوعي.
-    هل هذا يعني أن ظاهرة العلم والمعرفة من مختصات الإنسان والحيوان فقط؟ سأل يقظان.
-    كلا. حتى الجماد لديه شيء من الوعي.
-    كيف؟ الآن أثبتنا أن الوعي أمر مجرد من المادة؟ سأل يقظان مندهشاً.
-    نعم أثبتنا ذلك. وهذا يعني أن الكائنات طراً، بما فيها الجماد، لديها بعد روحي، وهو المسؤول عن تحقق العلم والوعي لديها. لقد أثبت صدر المتألهين في حكمته المتعالية كيف أن الوجود لا يخلو في أي درجة من درجاته عن العلم والإدراك. أينما كان ثمة وجود، يكون معه شيء من العلم. وعليه لا يخلو موجود من الإدراك والمعرفة. في القرآن يوجد ما يدل على ذلك.
-    أين؟ سألت إيمان مذهولة.
-    الآية الكريمة "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم"(3) . وفقاً لهذه الآية، الكون بما فيه من الكائنات قاطبة، لديها معرفة بوجود خالقها، وهي تؤدي تجاهه طقوس التسبيح.
-    يا له من أمر عجيب حقاً. علقت إيمان.
-    اسمحا لي أن أ‘رض عليكما برهانا آخر على تجرد العلم
-    تفضل بكل سرور. يقظان
-    ضعا في ذهنيكما "أ"
-    لقد فعلنا...
-    وألان قوما بإزالته نهائيا وضعا مكانه "ب"
-    لا يمكنني ذلك! إيمان
-    لكني فعت! يقظان

          ابتسم السيد ماهر وقال:
-    هل حقا أزلته يا يقظان ووضعت محله "ب"؟ طيب! هلا استذكرته؟
-    لقد فعلت!
-    كيف؟ المفترض أنك مسحته ووضعت مكانه "ب"! ألست ترى لو أنك قمت بهذا على ورقة بيضاء لكان احضار ما تم مسحه غير ممكنا؟
-    فعلا! يقظان مذهولا.
-    إذن، لا ثمة سبيل إلى مسح ما في الذهن من صورة. ليس فحسب مسحها، بل التلاعب بها محال. لا يمكننا تحويلها إلى أمر آخر. وهذا يعني أنها تفتقد إلى "الامكانات" أو "القوة" لأجل التغيير.
-    إذن جوابي كان هو الصحيح؟ إيمان وهي تنظر إلى يقظان مبتسمة.
-    توضح الأمر بشكل جيد. لقد بذلت جهداً كبيراً ياسيد ماهر لتعليمنا. تقبل جزيل شكرنا. علق يقظان.
-    لا شكر على واجب. أرجو أن تكونا قد افدتما. عندما يحين وقت فهم ودراسة الحركة، ستغدو النتائج التي تدارسناها عن تجرد المادة أقوى رسوخا في ذهنيكما. لقد كنت أريد أن أنهي الموضوع إلى هذه النقطة، ولكن خطر الآن لي أمر لا بد من تبيينه لكما، طالما أن الموضوع بلغ إلى حدود تجرد العلم عن المادة. ولكن لنقفْ قليلا ونصلِ الظهر، ثم نعدْ لتكملة الموضوع.
-    موافق.
-    وأنا كذلك.
صلى كل من السيد ماهر ويقظان في الغرفة نفسها، بينما ذهبت إيمان إلى غرفتها للصلاة. وبعد قرابة 15 دقيقة، اجتمع الجميع مجدداً.

9: الكيان البشري..وحدة اتصال علمي بحت

-    كانت الفلسفة الإسلامية، متمثلة في رئيس فلاسفتها الشيخ ابن سينا، تعتقد بأن علاقة النفس بعلمها تشبه علاقة الكتابة بالسبورة.
-    وما الخطأ في ذلك؟ تساءل يقظان مستغربا.
-    هذا التصور غير دقيق يا يقظان.
-    وكيف تكون العلاقة بينهما إذن؟ سألته إيمان متعجبة.
-    سأشرح هذا وعليكما الالتفات جيداً لأن الموضوع شيق جداً ومذهل فعلاً. لقد قدم الفلاسفة تصورهم عن علاقة المعرفة بالنفس تماماً كعلاقة الكتابة والنقوش بالصفحة البيضاء، أوعلاقة اللون الأبيض بالجدار. فحقيقة الجدار شيء، وحقيقة اللون الأبيض شيء آخر، وهناك رابطة بينهما لا غير. هكذا الوعي والإدراك، فهما يعرضان على النفس، التي تصطبغ بهما كما تصطبغ الجدران بالأصباغ. وعليه، فإن سائر النفوس البشرية، في جوهرها، واحدة، ومتشابه، وعلومها ليست إلا أعراضا طارئة عليها. وتظل النفس تحتفظ لها بحقيقتها المستقلة عن علومها وإدراكاتها.
-    يعني أن نفس النبي مثلا كنفس الطفل تماما من جهة علاقتهما بالعلوم؟ سألته إيمان.
-    تماماً يا إيمان. ولكن صدر الدين لم يقبل هذا التصور وأثبت خطأه بعد تأمل عميق في نوع وجود العلم، وصلته بالنفس، فقد أعرض عن قبول التصور المشار إليه، وأكد في حكمته المتعالية أن الأمر ليس كما طرحه الفلاسفة من قبله سيما الشيخ الرئيس. لقد حار صدر الدين في سر ديمومة العذاب الأخروي وأبديته للأشقياء، رغم أن المعارف والإدراكات السيئة يجب أن تزول عاجلاً أم آجلاً، لأنها ليست حقيقة النفس وشأناً من شؤونها، إذ هي عوارض على النفس ونقوش مرتسمة فيها، ولا بد لها من الزوال كما تزول الكتابة عن اللوحة بقوة العامل الخارجي. إن ديمومة الشقاء الأبدي وعدم زواله معناه أن الصلة التي تربطه بالنفس صلة ليست بعرضية على الإطلاق. ومن هنا، تعمق في اكتشاف حقيقة العلم وصلته بالنفس البشرية. وانتهى به التحقيق أن قدم نظريته المعروفة بـاتحاد العالم والمعلوم كإنتاج خالص بـالحكمة المتعالية.
-    اتحاد العاقل بالمعقول؟ تساءل يقظان مندهشاً.
-    رغم إنني ذكرت إتحاد العالم بالمعلوم، لكن ما تذكره أنت أيضا من عنوان للنظرية يا يقظان، فصحيح أيضاً.
-    ما معنى ذلك يا سيد ماهر؟ إيمان.
-    معناه، أن سائر علوم النفس ومدركاتها ليست إلا النفس حقيقة. وبعبارة أخرى: المعلومات، تغدو بالوعي بها، عين ذات النفس. ليست هنالك ذات يعرض عليها العلم. كلا، وإنما هنالك ذات، تتحول إلى عين معلومها.
-    ماذا؟ أتعني إنني وعندما عرفت بوجود تلك الشجرة خارج منزلنا، تحولت إلى الشجرة تلك؟ سألته إيمان متعجبة.
-    كلا. ليس معنى ذلك، أن نفسي عندما تعلم بوجود الشجرة، تصبح عين ذات الشجرة الخارجية، وإنما معناه، أن نفسي عندما تعلم بوجود الشجرة، فإن علمها ذاك، يغدو عين ذاتها، لا ثمة فارق بين النفس وبين علومها، على الإطلاق. وعليه، فعندما نقول: صار الجسم أبيض، فإن الصيرورة هنا ليست حقيقية، لأن الجسم يظل محتفظاً بكيانه واستقلاله عن البياض، وهكذا البياض أيضاً. ولكن، عندما نقول: صارت النطفة إنساناً، هنا، الصيرورة حقيقية، لأنها أفقدت النطفة كيانها، وسلبته إياها تماماً، إذ غدت النطفة عبر الصيرورة، إنساناً. هكذا، فالنفس عندما تعلم أمراً ما، هذا العلم يقوم بصيرورة النفس عين معلومها.
-    مذهل فعلا. وهل من أدلة على هذا المدعى الغريب؟ سأله يقظان.
-    نعم. بالإضافة إلى العديد من الآيات والروايات التي ساقها الشيرازي، قدم عدة براهين محكمة على نظريته، منها: أن الصورة المعلومة، ليست لها حقيقة مستقلة عن كونها صورة معلومة. وبعبارة أخرى، ليس للصورة المعلومة وجود مستقل، تصبح بعده وجوداً معلوماً بعد أن لم تكن كذلك. إن تمام حقيقة المعلوم، أنه معلوم فحسب، وليس له كيان خارج المعلومية على الإطلاق. الإدراك لم يكن في البداية أمراً ما، ثم تعرض للإدراك، وإنما هو وجود إدراكي، لا غير. وما حقيقته كذلك تحتم إنطواؤه في "الوجود العالم" حتى يغدو ذا حقيقة معلومة.
-    لم أفهم. علق يقظان.
-    كما أن الغذاء المهضوم لا يوجد إلا في معدتك وليست له حقيقة قبل الهضم، لا يكون المعلوم وجودا إلا إذا كان في ذهن أحدهم. أعني: إذا أردنا أن نبحث عن معلوم، فلن نجده إلا منطوياً في حقيقة العالم. حقيقة المعلوم تساوي حقيقة العالم بلا أدنى فارق. فلو كانت الصلة التي تربط المعلوم بالعالم صلة غير حقيقية، لكان بالإمكان تصور المعلوم خارج المعلومية، وهذا أمر يستحيل تحققه قطعاً.
-    نعم فهمت جيداً يا سيد ماهر. علق يقظان بينما كانت إيمان مستغرقة في تأمل عميق.
-    بموجب اتحاد العالم والمعلوم، لا بد من قبول النتائج التالية:
1.    حقيقة النفس هي كونها إدراكا محضا. النفس وجود واعٍ بحت، وجود علمي. إذا ما ارتبط بشيء ما وعاه وأدركه. أدركه يعني أن النفس تصير ذلك المعلوم في الواقع. لا توجد أدنى فاصلة بين النفس العالمة وبين معلومها على الإطلاق. النفس تشبه الثقب الأسود الذي يبتلع كل ما يقترب منه ويتصدر ضوء ضحيته بؤرة الثقب.
- ما هو الثقب الأسود؟ إيمان.
- عندما تموت النجوم تتحول إلى ثقب أسود ما يلبث هذا الثقب أن يتحول إلى بؤرة تلتهم كل نجم يقترب منه. كتب فيه كثرا هوكنج العالم الفلكي الشهير.
- يا إلهي، تشبيه النفس بالثقب الأسود مرعب فعلا. علق يقظان.
2.    عندما تعلم النفس، تتسع، ويمتد وجودها. العلم غذاء النفس يمدها وجوداً ويوسعها حقيقة. فكما أن الفضاء الخارجي في توسع وتمدد، النفس في توسع وتمدد. فهي فضاء علمي، يتمدد بلا توقف. كل معلومة تجعل النفس تتصف بسعة المعلومة وبحسب أفقها.
-    ماذا؟ النفس تتمدد؟ سألته إيمان مندهشة.
-    نعم يا إيمان. ثمة فضاءان: فضاء كوني، يمتد بسبب الانفجار العظيم، وفضاء علمي يمتد بسبب الوعي والإدراك. الصلة بين الفضاءان أن الثاني يحيط بالأول علماً ويصير مثاله وعياً، بينما الأول يحيط بالثاني زماناً ومكاناً.
-    أوافقك القول في أن الموضوع مذهل فعلاً يا سيد ماهر. علقت إيمان.
3.    العلم والوعي والإدراك والتعقل ليست من أفعال النفس، بل عين وجود النفس.
-    هلا أوضحت ذلك يا سيد ماهر؟ سأله يقظان.
-    بما أن النفس وعلمها أمر واحد بوحدة حقيقية يايقظان، لم يعد العلم والمعرفة من أفعال النفس. لأن الفعل لا يغدو عين ذات الفاعل. ولكن العلم يصبح عين ذات النفس، فهو إذن ليس فعلا من أفعالنا، بل نفسُ وجودنا.
4.    العلم ظاهرة مجردة من المادة، وهذا قد مر عليكما قبل حين، وعليه فالنفس المتصفة بالعلم اتصافاً حقيقياً يغدو فيه العلم والنفس أمراً واحداً، لا بد أن تكون في أفق مجرد من المادة. مر ذلك أيضا قبل حين.
- نعم أذكر. علقت إيمان.
5.    ليست صلة النفس بمعلومها، واحدة، بالرغم من أنها كلها عين ذات النفس.
-    كيف؟ هذا مستحيل. علق يقظان.
-    عذرا يا يقظان. عنيت الصلة الحبية.
-    وما الصلة الحبية هذه ياسيد ماهر؟ سألته إيمان.
-    أعني أن عامل الحب والممارسة – العمل- يجعلان بعض العلوم تغدو أشد وطأة في النفس، وتتخذ النفس شكلها منها. العلوم والإدراكات ليست على درجة واحدة في النفس. إنك مجمع هائل من المعارف، لكن بعضها لا توليها أدنى أهمية، وبعضها تعتنقها وتصبح عندك بمثابة أصول واعتقادات. صلة النفس بالمعارف والتصورات المحبوبة، والتي يصدر عملها عنها وفقهن، يكون أشد، فالنفس بهذين العاملين –الحب والممارسة أو العمل - تتحدد هويتها النهائية.
-    ما الذي تعنيه بالهوية النهائية؟ سألته إيمان بشغف.
-    أعني جوهرها النهائي. الإدراكات السيئة والتي أنتجت أعمالا سيئة مثلها، تصبح شكل النفس النهائي، وهكذا الإدراكات الحسنة وتوابعها من الأعمال.
-    يا لها من نتيجة خطيرة جداً. علق يقظان.
6.    إذا كانت حقيقة النفس تتمثل في كونها صرف وحدة اتصال معلوماتية، فإن حياتها الحقيقية تتمثل في الإزدياد والاتساع من هذه الجهة. ولا يمكن تصور وجود وواقعية لا يمكن للنفس الاتصال الواعي بها.
- فعلا. علق يقظان.
7.    رقي النفس وتكاملها وسعادتها ستتمحور وفق معلوماتها. كما وأن انحدارها وشقائها سيرجعان إلى العامل ذاته. فكلما كانت النفس واعية للمعارف الحقيقية، ومتعلقة بها حباً، وتتصرف وفق معارفها الحقيقية المحبوبة، فإنها تكون قد ضمنت سعادتها.
-    هذا شبيه جدا بما مر قبل قليل في النقطة الخامسة. علقت إيمان.
-    نعم. ستغدو معرفة الله –تعالى- أعظم تلك المعارف على الإطلاق، هذا العلم سيمنح النفس صبغة إلهية، واتساعا اشتداديا كبيرا لكيانها، وحبه سبحانه والعمل طبق تعليماته تعالى سيمنح النفس هويتها النهائية، وهي الهوية الإلهية.
-    وهذا معناه أن قيمة العلم تكمن في موضوعه. هل هذا صحيح؟ سألته إيمان.
-    بلى. قيمة العلم وقدسيته تنبع من متعلق العلم. وهذه القيمة تصبح جزأ لا يتجزأ من كيان النفس.
-    هل يمكنني أن أقول ياسيد ماهر، أن عظمة وأهمية العلم والمعرفة في الدين تنبع وتكمن في أنهما يصيران ويحولان ويمنحان النفس صبغتها النهائية؟ يقظان.
-    لعل ملاحظتك تكون في محلها يا يقظان.


10: مراتب المعرفة

-    إن من ضمن الاختلافات الأساسية بين الحكمة المتعالية والفلسفة الإسلامية البدائية موضوع مراتب المعرفة. لقد كانت الفلسفة الإسلامية، متمثلة في رئيس فلاسفتها ابن سينا، ترى المعرفة الحسية والمعرفة العقلية من أعمال النفس. فالنفس فاعل إلهي يصنع المعرفة العقلية بعد أن ينتهي من صنع المعرفة الحسية.
-    كيف؟ لم أفهم. يقظان.
-    يعني أن كلا من المعرفة التي تتم عبر المعطيات الحسية، والمعرفة التي تتم عبر العقل لوحده، هما من أعمال النفس الإنسانية التي تبدأ أولا بالمرحلة الأولى، ثم تأتي إلى المرحلة الثانية. فكما أن عامل البناء يصنع البناء أولا من الطوب، وبعد أن يفرغ منه، يبدأ بتلطيف البناء عبر صنع الطبقة النهائية، فيصبغها ليصبح شكله جميلا. المعرفة فعل إبداعي، والنفس لها القدرة على ذلك. ولكن صدر الدين الشيرازي لم يرق له هذا الحل، إذ وجده يخالف أسسه التي أعتمدها في منظومته الفلسفية.
-    وما تلك الأسس؟ إيمان.
-    كان صدر الدين قد فرغ من البرهنة على نظرية مراتب الوجود ودرجاته، وأنها بالرغم من كثرتها الهائلة، يمكن صياغتها في مراتب كلية ثلاث، وهي مرتبة عالم الدنيا أوعالم المادة، ومرتبة التجرد غير التام، وفوقه المرتبة التجريدية التامة.
-    على أية أساس صاغ هذه المراتب وحصرها في ثلاث فحسب؟ يقظان.
-    على أساس القرآن والأخبار المأثورة عن أولياء الدين والبرهان الفلسفي.
-    كيف؟ يقظان.
-    في القرآن آية تقول "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"(4)، ومعنى ذلك أن للإنسان نقلتين إلى عالمين مختلفين ينتقل إليهما عبر موتتين. ينتقل من عالم الدنيا إلى عالم آخر أرحب وأوسع من الدنيا، ومن ذلك العالم بموتة ثانية ينتقل إلى عالم أكبر وأوسع من الثاني.
-    هذا عجيب حقا. يقظان.
-    عالم ما بعد الموت أرحب من العالم المادي بدرجات لا يمكننا أن نتصورها. لكن رغم ذلك فإنه - عالم ما بعد الموت- ليس مختلفاً جذرياً عن العالم المادي. كما في العالم المادي يوجد صباح ومساء، يوجد صباح ومساء في العالم الذي وراءه الذي ننتقل إليه مباشرة. لكن في العالم الذي يلي العالم الثاني، أعني ما وراء عالم ما بعد الموت، سعة وجودية لا يمكن بلوغها حتى في مخيلتنا. هناك تضيع الحدود؛ لا صباح ولا مساء. القرآن يتحدث عن العالم ما وراء الدنيا فيقول أن الصباح والمساء موجودان فيه، ولكن لا أثرلهما في العالم الذي يقع وراء عالم ما بعد الموت.
-    أين في القرآن؟ سألته إيمان مذهولة.
-    تأملي قوله تعالى: "ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا"(5) الآية تتحدث عن مصير السعداء بعد الموت، أما العالم الذي هو وراء عالم ما بعد الموت، فالقرآن ينفي وجود الأوقات فيه. قال تعالى: "لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا"(6)
-    إشارات قرآنية مذهلة حقاً. وماذا عن الأدلة العقلية؟ سأله يقظان.
-    وفقا لقاعدة التناسب بين العلة والمعلول، هذا العالم المادي، يقع أسفل عوالم الوجود وأقلها درجة.
-    كيف تم التوصل إلى ذلك؟ إيمان.
-    ألا ترين أن الكائن في هذا العالم ينتقل من رحم العدم ليحبو على ساحة الوجود يا إيمان لأول مرة؟ يطلق على هذا العالم: عالم الصيرورة. عالم الصيرورة يعني العالم الذي يتكون فيه الموجود لأول مرة. لا يمكن تصور عالم أقل عنه درجة.
-    فعلا. يقظان.
-    وهذة الضآلة الوجودية لا تتناسب وسعة وجود ذات الحق الإطلاقية. وعلى هذا الأساس، يجب أن يتوسط بين السعة الإطلاقية وبين العالم المادي هذا مراتب وجودية هائلة عديدة. ولكن مع كثرتها، لا مانع من صياغتها في شكلين إجماليين ذكرتهما لكما قبل حين.
-    تعني عالم ما بعد الموت وعالم ما بعد عالم الموت. أليس كذلك؟ يقظان.
-    بلى. في عالم الدنيا، تتحقق الصيرورة وهو تواجد الموجود لأول مرة بعد أن لم يكن. وفيه درجة الوجود الجمادي، ودرجة الوجود النباتي التي هي أعلى من سابقتها، ودرجة الوجود الحيواني أعلى من النباتي، وهكذا نصل إلى درجة الوجود المتمثلة في الوجود الإنساني.
-    واضح جداً. يقظان.
-    وحتى الوجود الإنساني له مقامات ومراتب. وجود العالم أشد من وجود الجاهل. ووجود الأنبياء أعظم من جهة القدرات الروحية من وجود العلماء. لقد مر عليكما أن النفس تتسع بعلومها وإدراكاتها. ولأن علوم الأنبياء تنبع من الوحي الإلهي، فهي أعظم وجودا عن غيرها.
- &nb

تعليق عبر الفيس بوك