سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (32)


أ.د/ سعيد الزبيدي – جامعة نزوى


كان سؤال تلميذي النجيب هذه المرة عن قوله تعالى: ﴿وَلا تطع كلّ حلاف مهين، هماز مشّاء بنميم، منّاع للخير معتدٍ أثيم، عُتلّ بعد ذلك زنيم﴾ الآيات 13،12،11،10 من سورة القلم.
وسألني فقال: ذكر جلّ ثناؤه تسع صفات للمكذبين، في سورة القلم، ولم يدخل (واو العطف) بينها، فهل وراء ذلك من سرّ؟
فقلت:
لننظر في البدء هل تكررت هذه الصفات في القرآن الكريم ؟ فوجدنا الآتي:
(1)    (حلّاف): جاءت مرة واحدة في قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين)، سورة القلم: 10
(2)    (مهين): تكررت هذه المفردة 4 مرات في الآيات من السور القرآنية الآتية:
-    الآية 8 (ثم جعلنا نسله من سلالة من ماء مهين) – سورة السجدة
-    الآية 52 (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) – سورة الزخرف
-    الآية 10 (ولا تطع كل حلّاف مهين) – سورة القلم
-    الآية 20 (ألم نخلقكم من ماء مهين) – سورة المرسلات
(3)    (همّاز): جاءت مرة واحدة في قوله: (همّاز مشّاء بنميم)، سورة القلم: 11
(4)     (مشّاء): جاءت مرة واحدة في قول: (مشّاء بنميم)، سورة القلم: 11
(5)     (منّاع): هذه الكلمة تكررت مرتين:
-    (منّاع للخير معتدٍ مريب)، سورة ق: 25
-    (منّاع للخير معتدٍ أثيم)، سورة القلم: 12

(6)    (معتدٍ): تكررت هذه المفردة 3 مرات في الآيات من السور القرآنية الآتية:
-    (مناعٍ للخير معتدٍ مريب)، سورة ق: 25
-    (مناع للخير معتدٍ أثيم)، سورة القلم: 12
-    (وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم)، سورة المطففين: 12

(7)    (أثيم): تكررت هذه المفردة 6 مرات في الآيات من السور القرآنية الآتية:
-    الآية: 276 (يمحق الله الربا ويُربي الصدقات والله لا يحب كلّ كفّار أثيم)، سورة البقرة
-    الآية: 222 (تنزّل على كلّ أفّاك أثيم)، سورة الشعراء
-    الآية: 44(طعام الأثيم)، سورة: الدخان.
-    الآية: 7 (ويل لكلّ أفّاك أثيم) سورة: الجاثية.
-    الآية: 12(منّاع للخير معتدٍ أثيم) سورة: القلم.
-    الآية: 12(وما يكذب به إلا كلّ معتدٍ أثيم) سورة: المطففين.
..................

ووردت (أثيماً) في سورة النساء منصوبة:

الآية: 107(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إنّ الله لا يحب من كان خوّاناً أثيما) سورة النساء.

(8)    (عتلّ) جاءت مرة واحدة في الآية: 13 (عتلّ بعد ذلك زنيم) من سورة القلم.
(9)    (زنيم) جاءت مرة واحدة في الآية: 13(عتلّ بعد ذلك زنيم) من سورة القلم.
تعليق:
ظهر في ضوء الاستقراء أنّ ورود هذه الصفات التسع:
-    مفردة (أثيم – الأثيم – أثيما) سبع مرات، اقترنت بصيغة فعّال 4 مرات (كفّار- أفّاك (مرتين) و(خوّان) وجاءت مقترنة بـ (أل) مرة واحدة، ونكرة منصوبة مرة واحدة .
-    تلتها مفردة (مهين) أربع مرات، اقترنت بالماء مرتين، وبوصف المخلوق مرتين
-    أما مفردة (معتدٍ) فوردت ثلاث مرات نكرة مجرورة منونة حذفت ياؤها لأنها اسم منقوص.
-    ووردت مفردة (منّاع) مرتين.
-    ووردت مفردات: (حلّاف – همّاز – مشّاء – عتلّ – زنيم) مرة واحدة.
وعلّق أبو حيان الأندلسي (ت745ه) على أن تتابع الصفات بهذه الصورة "إنّما هو قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف" (1) ونقف ثانية على الصيغ الصرفية ودلالاتها في هذه المفردات:
أولاً: صيغة (فعّال):
فـ (حلّاف– همّاز – مشّاء – منّاع) وهي صيغة من أكثر صيغ المبالغة (مبالغة اسم الفاعل) استعمالاً وتدلّ على:
تكرار الفعل: "إذا فُعِل الفعل وقتاً بعد وقت قيل: فعّال مثل: علّام وصبّار"(2) "أو يبنى كرر الفعل فعّال مثل قتّال وفتّاك" (3) معنى الصناعة، جاء في المقتضب: "هذا باب ما يُبنى عليه الاسم لمعنى الصناعة لتدل من النسب على ما تدلّ عليه الياء" (5) وإلى هذا ذهب أبو بكر بن محمد طلحة (6) (ت618ه) فقصّر دلالة (فعّال) على "من صار له صناعة"(6) معاني الأبنية في العربية، ص96 . وأجمل أستاذنا فاضل صالح السامرائي – مدّ الله في عمره – دلالة (فعّال) فقال: "صيغة فعّال تدل على الحرفة والصناعة، وتقتضي الاستمرار، والتكرار، والإعادة، والتجدد، والمعاناة، والملازمة" وربط إبراهيم أنيس الدلالة بالصيغة فقال: "هناك نوع من الدلالة يستمد عن طريق الصيغ وبنيتها... فكلمة (كذّاب) تزيد دلالتها على كلمة (كاذب) وقد استمدت هذه الزيادة من تلك الصيغة المعينة" وهكذا سائر المفردات على هذه الزنة.
أمّا الصيغ الأخرى فجاء منها على زنة (فعيل) وهي:
-    مهين: صفة مشبهة بمعنى (فاعل)، ووردت هذه الزنة في كتاب العين في"باب الهاء والنون والميم معهما... مَهُن..."(7). وكررها في المادة نفسها أحمد بن فارس (ت395ه) في مقاييسه(8)، والزمخشري (ت538ه) في أساس البلاغة(9)، وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم(10)، وابن عاشور (ت1393ه) في التحرير والتنوير(11).
وقال فيها الزجاج (ت311ه) إنها "فعيل من المهانة"(12)، وكرر هذا الرماني (ت384ه) ونقله عنه أبو حيان الأندلسي (ت745ه) في البحر المحيط (13)، والبيضاوي (ت791ه) في تفسيره(14).
-    أثيم: "في كثرة ركوب الإثم"(15)، فـ "فعيل من أمثلة المبالغة"(16).
-    زنيم: مأخوذة من الزنمة "اللحمة المتدلية في الحلق"(17)، ثمّ استعيرت لـ "الملصق بالقوم وليس منهم وهو الدعي"(18).
-    معتدٍ: اسم فاعل من (اعتدى): "قيل: هو في أصل وضعه: تجاوز الحدّ في كلّ شيء، وعرّفه: في الظلم والمعاصي"(19).
-    عتلّ: أصله من (العتل) لغة وهو "الأخذ بمجامع الشيء وجرّه بقهر"(20). وفُسّر أنه "الشديد الخصومة بالباطل" وهو "الجافي الشديد في كفره"(21). أو هو "الفاحش اللئيم"(22).
هذا ما قيل في هذه الصفات التسع صرفاً ومعجماً وتفسيراً، ويتضح لنا أنها "جاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها"(23). ولنا ملاحظة أخيرة على هذه الصفات التي ذهب في تفسيرها كثيرون إلى أنّ المقصود بها رجل معيّن، واختلفوا في تحديده فمرة هو: الأخنس بن شريق(24)، وثانية الأسود بن عبد يغوث(25)، وثالثة الوليد بن المغيرة المخزومي! (26)، وفاتهم لفظة (كلّ) التي تفيد العموم والشمول، مما ينتفي أنّ المراد شخص معين، نعم قد تكون صفة من هذه الصفات أو أكثر تنطبق على واحد منهم، وهذا ما نطمئن إليه.
ومما يتطلبه الجواب على سؤالك في عدم توسط (الواو) بين الصفات التسع نقول: لم نجد في استقرائنا ما قاله المفسرون من التفت إلى عدم توسط (واو العطف) بين الصفات التسع إلّا محمود بن حمزة الكرماني (ت نحو 505ه) في كتابه: البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان(27)، إذ قال: "قوله تعالى: (حلاف مهين) إلى قوله: (زنيم) أوصاف تسعة، ولم يدخل بينها واو العطف، ولا بعد السابع، فدلّ على ضعف القول بواو الثمانية"(28).
فما حقيقة (واو الثمانية) عند القدامى (نحاة ومفسرين) ؟
قال الحسن بن قاسم المرادي (ت745ه): من معاني الواو "السادس: واو الثمانية:
ذهب قوم إلى إثبات هذه الواو منهم: ابن خالويه، والحريري، وجماعة من ضعفة النحويين..."(29)، وأضاف ابن هشام (ت761ه) فقال: "والتاسع: واو الثمانية، ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن النحويين الضعفاء كابن خالويه، ومن المفسرين كالثعلبي"(30). ولم يثبت لدى الجميع على أن واو الثمانية من خصائص كلام العرب، فلم يذكر من زعم "أن العرب إذا عدّوا قالوا: ستة، سبعة، وثمانية، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأنّ ما بعدها عدد مستأنف"(31)، ولم يدللوا على ذلك بشواهد من كلام العرب!.
ومن خلال ما تقدّم يتبين لنا أن لا ضرورة لتوسط (واو العطف) بين الصفات التسع للأسباب الآتية:
أولاً. أن الصفات التسع المسبوقة بـ (كلّ) لا تنطبق على رجل بعينه، وقد تكون ليعمّ النهي كلّ ما تحققت فيه صفة واحدة، أو الصفات مجتمعة.
ثانياً: وللزركشي (محمد بن عبدالله، ت794ه) توجيه جميل حين تتكرر الصفات مفاده: إذا تقارب معنى الصفات لا يعطف بينها (32).
ثالثاً: ولأستاذنا فاضل السامرائي – مد الله في عمره – توجيه في (واو العطف) قال: "إنّ العطف بالواو قد يؤتى به لتحقيق اجتماع الصفات في الموصوف"(33). وهي لم تثبت في أنها نزلت في واحد.
رابعاً: بطلان القول بـ (واو الثمانية) عند الأغلبية وتابعهم الكرماني(34)، وإن كانت الصفات تسعاً.
خامساً: الإيقاع المؤثر الذي يحدثه توالى هذه الصيغ من غير الواو.
سادساً: اشتراك هذه الصفات في دلالة المبالغة، وتكرار الحدث فيها.
وبهذا يتضح ما قدّمناه، والله أعلم بمراده .
المصادر:
(1)    البحر المحيط في التفسير، تحقيق الشيخ عرفان العشّا حسونة، دار الفكر/بيروت، طبعة جديدة، 2005م، 10/238 .
(2)    أبو هلال العسكري (ت395ه): الفروق اللغوية، تحقيق محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة/القاهرة، د.ط، د.ت، ص24
(3)    خليل أيبك الصفدي: تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، تحقيق السيد الشرقاوي، مكتبة الخانجي/القاهرة، ط1، 1987م، ص108 . وينظر: محمود شكري الآلوسي (ت1270ه): كشف الطرّة عن الغرّة، المطبعة الحنفية/دمشق، 1301ه، ص303.
(4)     المبرد (ت285ه): المقتضب، تحقيق محمد عبدالخالق عضيمة، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي/القاهرة، 1399ه، 3/161. وينظر: رضي الدين الاستراباذي (ت686ه): شرح شافية ابن الحاجب، تحقيق محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحيي الدين عبدالحميد، بيروت، 1975م، 2/84-85 .
(5)    بغية الأمل في شرح الجمل، نقلا عن: فاضل السامرائي: معاني الأبنية في العربية، دار عمّار/الأردن، ط2، 2007م، ص96.
(6)    دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية/القاهرة، د.ط، 2004م، ص36 .
(7)    كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، منشورات الأعلمي للمطبوعات/بيروت، ط1، 1988م، 4/61.
(8)    معجم مقاييس اللغة، تحقيق إبراهيم شمس الدين، شركة الأعلمي للمطبوعات/بيروت، ط1، 2012م، ص812 .
(9)    ينظر أساس البلاغة، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1، 1998م، 2/235، وينظر له: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد عوض، مكتبة العبيكان/الرياض، ط1، 1998م، 6/182 .
(10)    ينظر: مجمع اللغة العربية: معجم ألفاظ القرآن الكريم، طبعة منقحة، 1990م،
        2/1063 .
(11)    ينظر: تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ/بيروت، طبعة جديدة منقحة
         ومصححة، ط1، 29/68 .
(12)    ينظر: معاني القرآن وإعرابه، تحقيق عبدالجليل عبده شلبي، دار
         الحديث/القاهرة، ط1، 1994م، 5/205 .
(13)    ينظر: البحر المحيط في التفسير، 10/232 .
(14)    ينظر: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1،
         1999م، 2/515 .
(15)    ينظر: كتاب العين، باب الثاء والميم و(وايء) معهما، 8/250 .
(16)    تفسير التحرير والتنوير، 29/69 .
(17)    ينظر: كتاب العين، باب الزاي والنون والميم معهما، 7/375 .
(18)    الفراء: معاني القرآن، تحقيق عبدالفتاح إسماعيل شلبي وعلي النجدي
          ناصف، الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة، د.ط، 2001م، 3/173 .
(19)    أبو البقاء الكفوي (ت1094ه): الكليات، تحقيق عدنان درويش ومحمد
         المصري، مؤسسة الرسالة/دمشق-بيروت، ط2، 2012م، ص125. وينظر:
          معجم ألفاظ القرآن الكريم، ص748 .
(20)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد خليل عيتاني،
          دار المعرفة/بيروت، ط3، 2002م، ص325 .
(21)    الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن، 12/184 .
(22)    الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، 10/77 .
(23)    أبو حيان الأندلسي: تفسير البحر المحيط، 10/238 .
(24)    ينظر: السيوطي (ت911ه): أسباب النزول، الهيئة المصرية العامة
         للكتاب/مكتبة الأسرة/القاهرة، د.ط، 2012م، ص199.
(25)    نفسه، ص200 .
(26)    ينظر: الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، 5/205 .
(27)    لا أدري لِمَ غيّر المحقق هذا العنوان إلى: أسرار التكرار في القرآن الكريم .
(28)    أسرار التكرار في القرآن الكريم، تحقيق عبدالقادر أحمد عطا، دار
         الفضيلة/القاهرة، د.ط، 1977م، ص239 .
(29)    الجنى الداني في حروف المعاني، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل،
         دار الآفاق الجديدة/بيروت، ط2، 1983م، ص167. وينظر: الحريري (القاسم
         بن علي ت516ه): درة الغواص في أوهام الخواص، تحقيق الشريف عبدالله
         الحسيني البركاتي، المكتبة الفيصلية/مكة المكرمة، ط1، 1996م، ص65 .
(30)    مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمدالله،
         مؤسسة الصادق/طهران، ط1، 1378ه، 1/474 .
(31)    نفسه، 1/474. وينظر الموقع الإلكتروني: omari-174@hotmail.com
        عمر بن عبدالله العمري: واو الثمانية، ص17-18 .
(32)    البرهان في علوم القرآن، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الفكر/بيروت،
         د.ط، 1988م، 2/459. وينظر: فاضل السامرائي: معاني النحو، دار
         الفكر/الأردن، ط2، 2002م، 3/173 .
(33)    معاني النحو، 3/174 .
(34)    ينظر: أسرار التكرار في القرآن الكريم، ص239 .

 

تعليق عبر الفيس بوك