مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (6)


ناصر أبو عون


سورة  النازعات – الآيات من (6 -9)
{يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ ﴿٦﴾ تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ ﴿٧﴾ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍۢ وَاجِفَةٌ ﴿٨﴾ أَبْصَٰرُهَا خَٰشِعَةٌ ﴿٩﴾
(قصة الآية/ المَثَل):
جاء في الحديث"حدثنا هناد حدثنا قبيصة عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال كان - رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه قال أُبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت. (1)
(المشهد التصويريّ):
المشهد الأول: (يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ) (تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ) "أي تضطرب اضطرابا كبيرا مزعجا الراجفة أي الصيحة، وهي النفخة الأولى التي هي بحيث يبلغ - من شدة إرجافها للقلوب وجميع الأشياء الساكنة من الأرض والجبال إلى نزع النفوس من جميع أهل الأرض - مبلغا تستحق به أن توصف بالعراقة في الرجف، قال البغوي: وأصل الرجفة الصوت والحركة. ولما ذكر الصيحة الأولى، أتبعها الثانية حالا منها دلالة على قربها قربا معنويا لتحقق الوقوع، ولأن ذلك كله في [حكم] يوم واحد، فصح مجيء الحال وإن بعد زمنه من زمن صاحبه فقال: تتبعها الرادفة أي الصيحة التابعة لها التي يقوم بها جميع الأموات وتجتمع الرفات، وتضطرب من هولها الأرض والسماوات، وتدك الجبال ويعظم الزلزال، ويكون عنها التسيير بعد المصير إلى الكثيب المهيل، و[ نحو - ] ذلك من الأمر الشديد الطويل، قال حمزة الكرماني: روى [ السدي - ] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فبينما هم في قبورهم نفخ في الصور ثانية فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم". (2)
المشهد الثاني: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍۢ وَاجِفَةٌ)"هي شديدة الاضطراب، بادية الذل، يجتمع عليها الخوف والانكسار، والرجفة، والانهيار. وهذا هو الذي يقع يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة; وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات غرقا والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، والسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا. وهو مشهد يتفق في ظله وإيقاعه مع ذلك المطلع. ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول: يقولون: أإنا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاما نخرة؟. فهم يتساءلون: أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى.. يقال: رجع في حافرته: أي في طريقه التي جاء منها. فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون: إن كانوا راجعين في طريقهم إلى حياتهم؟ ويدهشون: كيف يكون هذا بعد إذ كانوا عظاما نخرة. منخوبة يصوت فيها الهواء؟!" (3)

ولعلهم يفيقون، أو يبصرون، فيعلمون أنها كرة إلى الحياة، ولكنها الحياة الأخرى، فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة، فتند منهم تلك الكلمة: قالوا: تلك إذا كرة خاسرة!
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
في هذا المقام مجموعة من اللطائف:
أولا - يجوز أن يكون إسناد (ترجف) إلى (الراجفة) حقيقيا، فالمراد بـ (الراجفة): الأرض; لأنها تضطرب وتهتز بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي، قال تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال) وقال: (إذا رجت الأرض رجا). وتأنيث (الراجفة) لأنها الأرض، وحينئذ فمعنى تتبعها الرادفة أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة; لأن صفة الراجفة تقتضي وقوع رجفة، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى.
ثانيا - يجوز أن يكون إسناد (ترجف) إلى (الراجفة) مجازا عقليا، أطلق الراجفة على سبب الرجف. فالمراد بـ (الراجفة): الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة، كقولهم: عيشة راضية، وهذا هو المناسب لقوله: (تتبعها الرادفة) أي: تتبع تلك الراجفة، أي: مسببة الرجف رادفة، أي: واقعة بعدها.
ثالثا - ويجوز أن يكون الرجف مستعارا لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل. وتأنيث (الراجفة) على هذا لتأويلها بالواقعة أو الحادثة. وجملة (تتبعها الرادفة) حال من الراجفة.
رابعا - تنكير (قلوب) للتكثير، أي: قلوب كثيرة ولذلك وقع مبتدأ وهو نكرة لإرادة النوعية.
خامسا – (الواجفة: المضطربة من الخوف، يقال : وجف كضرب وجفا ووجيفا ووجوفا ، إذا اضطرب . و (واجفة) خبر (قلوب). وجملة (أَبْصَٰرُهَا خَٰشِعَةٌ) خبر ثان عن (قلوب)، والمراد: قلوب المشركين الذين كانوا يجحدون البعث، فإنهم إذا قاموا فعلموا أن ما وعدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - به حق توقعوا ما كان يحذرهم منه من عقاب إنكار البعث والشرك وغير ذلك من أحوالهم.
سادسا - الخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي من شدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المعاملة، قال تعالى: (خشعا أبصارهم) في سورة (اقتربت الساعة) . ومثله قوله تعالى: (ووجوه يومئذ باسرة). (4)
................
المصادر:
(1)    سنن الترمذي (2457).
(2)    (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) [ص: 222/ 223]
(3)    سيد قطب - في ظلال القرآن - الجزء 6 [ص: 3813].
(4)    الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير - الجزء 31 [ص: 67/ 68].

 

تعليق عبر الفيس بوك