عبيدلي العبيدلي
"يحمل هذا الكتاب اسم شيء من التراث إذ ليس في إمكان باحث الإحاطة به وذلك لأسباب عديدة أهمها التحولات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية، ولا أعتقد أن أي باحث في التراث يستطيع الإلمام. وبالنسبة إلى تراثنا في البحرين نجد أمامنا شعبا ارتبط العمل بالغناء، وكذلك الحوادث التي رآها هامة في مجرى حياته أو كتعبير عن غضبه وكذلك عن أحزانه وللأسف فإنّ النهضة الأدبية والفكرية لم تشمل التراث أو ما يسمى بالأدب الشفوي، وظل ينظر إليه ربما كموضوع لا يستحق البحث عنه أو التطرق إليه وإلا ما سبب هذا الإهمال؟"
هكذا استهلت نورة الشيراوي مقدمة كتابها "شيء من التراث"، الذي صدر مؤخرا عن هيئة الثقافة والآثار البحرينية. وفي تلك الفقرة المقتضبة تختزل نورة هموم باحثين آخرين حاولوا، كما حاولت هي إلقاء المزيد من الأضواء على تراث يقاوم عوامل الحت والاندثار. وفي ذلك الكثير من صحيح القول. في تلك المقدمة أيضاً اعتراف صريح، وصحيح من نورة بأن التراث عملاق ضخم يصعب الإلمام به من جميع نواحيه. فالتراث، كما تعرفه الموسوعات والقواميس والمختصون في شؤونه، هو "ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل، وهو يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس".
رغم تلك الصعوبات والتحديات، نجحت نورة في كتاب لا تتجاوز صفحاته الـ 300 صفحة أن ترسم لوحة تراثية جميلة رصعتها جواهر الموروث الأدبي والفني البحريني، وربما يتسع نطاق تلك اللوحة، كي يشمل في بعض جوانبه الخليجي أيضًا، وتمكنت أيضاً من أن تمسك بيد قارئها، وتأخذه في رحلة جميلة تسبر خلالها معه أغوار ذلك التراث، بعد أن تنفض عنه أكوام ما راكمته عليه سنين الإهمال، وربما اللامبالاة التي مسها شيء من التعالي عليه، لدى بعض الباحثين ممن سبقوا نورة إليه.
وتورد المؤلفة نماذج من بعض مصادر التراث الذي أضاعه الإهمال، حين تقول:
"أذكر على سبيل المثال منها قصيدة كتبت عن البحرين
وأنا سألتك يا عظيم الشان
تسلم البحرين ومن فيها
فيها ريال ما تشد الضيم
والشيخ بو سلمان حاميها".
من تلك المقدمة تلج نورة بحر المورثات البحرينية، وتستهلها بما جمعته من أغان عن الزواج، دون أن تنسى وضع مقدمة رائعة تقتفي فيها مراسم الزواج والعادات، "فالزواج كما هو مألوف هو أن يتقدم رجل لخطبة امرأة، وأن تكون قرينته عن طريق شرعي وقد درجت العادة أن يتقدم أهل العريس إلى أهل العروس لخطبة الفتاة، وهنا يتم استقبالهم من قبل أهل الفتاة ولا تتم الموافقة في الحال بل جرت العادة بأن يرفع الأمر إلى والدها أو المسؤول عن الفتاة".
ثم تستتبع ذلك بمجموعة من التعريفات التي تعين القارئ، وخاصة غير البحريني على فهم مفردات الأغاني والأهازيج التي أوردت نورة مجموعة مختارة منها في كتابها.
وفي أغاني الزواج استوقفتني أغنية، "راعي الجوزتينا"، والجوزتينا كما تقول عنه نورة هو الرجل المزواج. تقول كلمات الأغنية:
ياراعي الجوزتينا (1)
يالعبل(2) والعكاريش(3)
لا تسير علينا
يا راعي الجوزتينا
شالها شالتينا
وضمها ضمتني
وحطها حطتني
وحبها حبتني
وتاحها توحتني
فوك زل وتفاريش
وحلف أنه ما يعديج(4).
وتذيل نورة كل أغنية بمسرد صغير يشرح معنى الكلمات الدارجة كي تعين القارئ على الاستمتاع بما يصادفه من عبارات شعبية غير مألوفة.
ومن أغاني الزواج، تنتقل نورة إلى أغاني الطفولة، دون أن تنسى أن تمهد لها بمقدمة قصيرة تقول فيها:
"إن الأغنية الشعبية أياً كان موقفها في الممارسات الحياتية الاجتماعية فهي مرآة تعكس ثقافات وعادات ومعتقدات عصر من العصور التي عايشها هذا الإنسان. وبما أن موضوعنا اليوم هو التهوية فنحن نرى أن وظائفه متعددة بالنسبة إلى الأم وكذلك الطفل. من البديهي أن الطفل لا يفهم معنى كلمات التهوية ولكن الإيقاع المنظم لهذا المهد أو حركة الأرجوحة وكذلك اللحن المميز الهادئ المصاحب للتهوية كل هذه ولابد من يحمل للطفل الشعور بالهدوء، وهناك عدد من الدراسات تبحث في علاقة السمع لدى الطفل في الشهر الأول من الولادة. وعلاقة السمع بالإيقاع".
يكتنز كتاب "شيء من التراث" ثروة غنية من الموروثات الشعبية التي تحتضن حضارة شعب البحرين، وربما الخليج العربي أيضًا في بعض جوانب تلك الثقافة، وربما أهمية ما قامت به نورة هنا هي أنها أطلقت "جني التراث من مصباحه". لا شك أنها ليست الباحثة البحرينية الأولى التي تقوم بذلك، فقد سبقها آخرون، لا تحضرني هنا قائمة أسمائهم، من أمثال الأستاذ محمد جمال، وراشد نجم، ومبارك الخاطر وآخرون.
ولربما ما أرادت المؤلفة قوله هنا أيضًا أنه آن الأوان كي يحظى التراث الشعبي بالمزيد من الاهتمام العلمي المنظم، ولا يترك لمبادرات فردية متناثرة. فمن بين الأفكار التي يستحضرها كتاب "شيء من التراث"، لماذا لا تنشأ كلية متخصصة تنصب مقرراتها على إعادة قراءة التراث مرة أخرى، لكن على أسس علمية ومن مداخل أكثر شمولية، وأرسخ أكاديمية.
مبادرة نورة عندما جمعت "شيئًا من التراث" خطوة وطنية تنضم إلى مسيرة رواد آخرين تصب جهودهم جميعا في بوتقة وطنية واحدة تسعى إلى صيانة هذا التراث كي نقدمه لأجيالنا القادمة بعيدا عن الأيدي التي لم تكف عن تشويهه، عندما تفشل في تزويره.
خلاصة القول، عندما يتعلق الأمر بالتراث عمومًا، وكتاب نورة على وجه الخصوص، نجد في الكتاب محاولة جادة لنضي الغبار عن التراث، ودعوة صادقة من أجل انتشال التراث من الحالة التي لا ينبغي أن يستمر التراث أسيرا لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الجوزتينا: الرجل المزواج
(2)العبل: الشديد الضيم من الرجال القوي الذراعين
(3)العكاريش: الشعر الأجعد وكل ما التف على بعضه
(4)يعديج: عدا عن الشيء انصرف إلى غيره، هنا يعدها بعدم تركها إلى امرأة.