كيف نصمِّم بيئة تعليمية إيجابية التأثير


أ. د. / أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر


يمثل تصميم بيئة الفصول الدراسية عنصرا مهما لدى المدارس عالية التأثير. ويحتاج قادة المدارس إلى إلقاء نظرة متعمقة على التأثير الذي تحدثه بيئة الفصول الدراسية الحالية على الطلاب، حيث يقضي الطلاب تقريبا 14000 ساعة في الفصول الدراسية خلال سني دراستهم، مما يجعلها جزء لا تقدر بثمن في ظل نظام إيكولوجي شامل يدعم فعالية المعلم وخبرات تعلم الطلاب.
غالبا ما يستدعي ذكر "الفصول الدراسية" تلك الصورة الذهنية النمطية  للفصول التي تعلمنا بها جميعا، حيث مكتب المعلم في مقدمة الفصل، وطاولات الطلاب وقد صُفَّت صفاُ صفاً، وما يستدعيه ذلك من أساليب التعليم والتعلم المتوقعة في هذه البيئة.  
إن ترتيب الأثاث الذي يركز على المعلم لا يعزل الطلاب ويحد من تعلمهم فحسب، بل أيضا يجعل مهمة المعلم أكثر صعوبة. ومع ذلك، غالبًا ما يحتل تصميم الفصل الدراسي اهتماما ضعيفا لدى التربويين، على الرغم مما له من تأثير كبير على نتائج التعلم.
يتمتع تصميم الفصل الدراسي بالقدرة على التأثير في تحفيز الطلاب وتقدمهم، سواء للأفضل أو للأسوأ. وبما أن الطلاب يقضون أجزاءً طويلة من الوقت في الفصول، فإنه يجب أن تكون الفصول مرحبة ودافئة لتعزيز دافعيتهم للتعلم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتصميم الفصول الدراسية أن يسهل خبرات التعلم للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، وأولئك الذين يعانون من تقص الانتباه وفرط الحركة، وغيرها من صعوبات التعلم المحددة.
ومع استمرار الحديث عن سبل تحسين مخرجات التعليم، حوَّل التربويون الانتباه باتجاه دراسة تأثير طريقة تصميم الفصول الدراسية - من حيث الأثاث ومساحات العمل - على معدلات تعلم الطلاب.
تدعم الأبحاث الحديثة العلاقة بين التصميم بيئة الفصل ونتائج التعلم. حديثا وجدت دراسة نشرت في مجلة البناء والبيئة أن تصميم الفصول الدراسية يمكن أن يفسر 25٪  من مستوى تقدم الطلاب على مدار العام الدراسي، وأن الفرق بين أفضل الفصول الدراسية وأسوأها تصميما يصل إلى سنة كاملة من التقدم الأكاديمي. شارك في هذه الدراسة (751) طالبًا في (34) فصلًا دراسيًا ، موزعين على سبع مدارس ابتدائية في مدينة بلاكبول في إنجلترا. وبعد جمع البيانات حول مستويات أداء الطلاب في العام الدراسي، قام الباحثون، وهم أعضاء هيئة التدريس من جامعة سالفورد في مدينة مانشستر بإنجلترا، بالإضافة إلى متعاونين من شركة هندسة معمارية، بتصنيف كل فصل دراسي على مقياس من 1 إلى 5 وفقا لعشرة معايير تصميم مختلفة وهي: الضوء، والصوت، ودرجة الحرارة، ونوعية الهواء، والاختيار، والمرونة، والاتصال، والتعقيد، واللون، والملمس. وتم تقسيم كل من هذه المعايير وفقا لعدة اعتبارات. على سبيل المثال، شمل معيار الضوء: كمية الضوء الطبيعي التي تدخل إلى الفصل الدراسي، بالإضافة إلى قدرة المعلم على التحكم في مستوى الإضاءة؛ وشملت المرونة مدى قدرة الفصل على استيعاب التلاميذ دون ازدحامهم، ومدى سهولة إعادة ترتيب أثاثه ليستوعب مجموعة متنوعة من أنشطة التعلم.
وجدت هذه الدراسة أن هناك ستة من معايير التصميم - اللون والاختيار والتعقيد والمرونة والاتصال والضوء – كان لها تأثير كبير على التعلم. الضوء ويتعلق بكمية الضوء الطبيعي في الفصل، ونوعية الإضاءة الكهربائية التي يحتويها. ويتعلق الاختيار بجودة الأثاث في الفصول الدراسية ، فضلاً عن توفير طاولات وكراسي "مثيرة للاهتمام" ومريحة للتلاميذ. وكل من التعقيد والألوان لهما علاقة بتوفير كمية وافرة من التحفيز البصري للطلاب في الفصل الدراسي.
وعلى الرغم من أهمية المعلم وتأثيره الكبير، إلا أن النموذج الإحصائي الذي فحص العلاقة بين متغيرات بيئة الفصل وتقدم الطلاب عبر الفصول الدراسية، حال دون تأثيره إلى حد كبير.
لقد كان معروفًا منذ وقت طويل أن العديد من جوانب بيئة العمل أو الدراسة تؤثر على الأشخاص العاملين أو الدارسين، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إجراء تقييم شامل يربط بين نجاح التأثير الكلي مباشرةً ومعدلات التعلم في المدارس. والمدهش هو مقدار الأثر الكبير الذي أوضحته الدراسة.
إن جميع جوانب تصميم الفصل الدراسي تحدث فرقا في تعلم الأطفال،  إلا إن بعض الجوانب لها التأثير الأقوى، على سبيل المثال، وفقًا لدراسة البناء والبيئة، فإن جودة الهواء ودرجات حرارة الغرفة المريحة أدت إلى تحسين تقدم الطلاب بنسبة 28٪. أيضا السماح للطلاب باختيار كيفية تعلمهم يمنحهم شعورًا بملكية تعلمهم ويخلق شعورًا بالراحة في الفصل الدراسي. ويمكن للمعلمين تحقيق ذلك من خلال توفير خيارات جلوس مرنة، والسماح للطلاب بتحديد المكان الذي سيعملون فيه بأفضل ما لديهم.
وتشمل خيارات الجلوس المرنة الكراسي التي تحتضن ظهر الطفل، وأماكن العمل الفردي. ولطريقة ترتيب المكاتب أو خيارات الجلوس له تأثير كبير على مشاركة الطلاب وانتشار التعلم النشط. أكثر طرق تصميم الطاولات تأثيرًا هي تلك التي تسمح بمرونة الحركة والتعاون. يجب أن تكون المقاعد والكراسي قابلة للنقل بسهولة، ومن الجيد استخدام طاولات تحتوي على عجلات في الأسفل - لاستيعاب أي سيناريو تعليمي، من العمل في مجموعات صغيرة  إلى العمل المستقل.
ويعتبر الضوء الطبيعي مثاليا لبيئات غرف الصف. يحقق الطلاب في الفصول الدراسية ذات النوافذ الكبيرة وضوء النهار تقدمًا أسرع بنسبة 20٪ في القراءة والرياضيات، ويمكن للمعلمين الذين يدرسون في صفوف دراسية ليس بها نوافذ استخدام مصابيح ذات إضاءة طبيعية لإنشاء تأثير مماثل، لكن يجب تجنب المصابيح التي لها أزيز، حيث وجد أن لها تأثير مشتت بالنسبة للطلاب الذين يعانون من التوحد وذوي السمع الحساس.
يجب ألا يمنعنا ضيق المساحات المتاحة في المدارس وتكدس الفصول، وهي معضلة  حقيقية، من إعادة التفكير في طريقة تصميم الفصول الدراسية والاستفادة من الأساليب الحديثة في تصميم الأثاث الصفي، واستغلال المساحات وفقا للإمكانات المتاحة. فجميع الأبحاث في هذا المجال تشير إلى أن إعادة ترتيب صفوف الطاولات في تكوينات مجمعة يحسن جميع جوانب التعلم، بما في ذلك القدرة على الاندماج في طرق التعلم المفضلة، والمشاركة الفاعلة، خلق تجربة ثرية.
وقبل أن تتمكن أي مدرسة من التفكير في تنفيذ تصميم فصل دراسي جديد ، يحتاج قادة المدرسة إلى معالجة حجم التغيير. يجب أن تدرك أن المقاومة من "ثقافة الظل" في المدرسة يمكن أن تقوض جهودها للتغيير. ثقافة الظل هي الحالة العقلية التي تحدد الطريقة تسير عليها الأمور دائمًا  (الطريقة غير الرسمية لفعل الأشياء). للتغلب على ثقافة الظل، يجب جمع المعلمين معًا حول رؤية مشتركة للعمل على خلق بيئة تعليمية عالية التأثير - بيئة تعلم تركز على الطالب، من شأنها أن تعزز مشاركة المعلمين والطلاب، والتعلم التعاوني، والتعلم الذاتي التوجيه.
وأخيرا، هناك خمسة عناصر تعتبر مكونات أساسية لتشكيل بيئات تعليمية عالية التأثير:
التكنولوجيا المتكاملة: يجب أن نفكر في كيفية الاستفادة من التقنيات لتطوير أطر تعلم أصيلة غنية بالتكنولوجيا. ينبغي أن يكون أولى الأسئلة التي يجب طرحها: "كيف سيستفيد طلابنا من التكنولوجيا أثناء ممارستهم لتجاربهم التعليمية؟" ويجب التأكد من حصول المعلمين على الدعم والتدريب الذي يحتاجونه لدمج التكنولوجيا في تدريسهم.
تنقل المتعلم: ينبغي أن تستوعب بيئات التعلم اليوم خيارات التعلم غير الرسمية مثل جلوس المتعلم بمفرده، والعمل في مجموعة مخصصة مؤقتة، وغير ذلك. ويمكن أن تسمح البيئة المصممة بشكل جيد للطلاب بالانتقال بسلاسة من مساحة إلى أخرى، مع تغير عملهم  عندما يكونوا بحاجة إلى التنوع في هذا العمل.
طرائق متنوعة: يجب أن يتمكن المعلمين والطلاب من تنظيم مساحاتهم الخاصة لاستيعاب مجموعة متنوعة من الأنشطة، بما في ذلك العمل في فرق صغيرة، أو مجموعات كبيرة ، والعمل المستقل. ويجب أن تسمح مساحات التعلم بأساليب التعلم البصرية والسمعية المختلفة، وتشكيل فرق مخصصة للعمل على مشاريع سريعة التحولات. ويجب التأكد أيضا من إتاحة مساحة لكل من الأنشطة الصاخبة والهادئة.
التكيف: الجانب الإيجابي للفصول الدراسية القابلة للتكيف هو أنها تسمح بالاستفادة من فرص التعلم التي لا يتم التخطيط لها دائمًا. بدون التخطيط والتصميم المناسبين سيكون هناك حاجة على الأرجح إلى تعديلات وتكاليف إضافية لإجراء المزيد من التغييرات على المساحة المصممة. في جميع الحالات، سيظل المعلمون بحاجة إلى دعم لتلبية الاحتياجات الجديدة التي لا يمكننا تصورها حاليًا.
بيئة العمل الديناميكية: العنصر الحاسم لتصميم الفصول الدراسية يتضمن دراسة بيئة العمل لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة والسلامة. وجد مركز ماكينلي الصحي في جامعة إلينوي أن المقاعد ذات التصميم الضعيف يمكن أن تؤثر سلبًا على العضلات والأنسجة الرخوة والأعصاب وأنظمة الدورة الدموية وأنظمة التنفس.
هذه التعديلات سوف تكون بمثابة محفز للتفكير خارج الصندوق التربوي وجعل خطط الدروس أكثر إبداعا.

 

تعليق عبر الفيس بوك