بين غسان كنفاني وباولو كويلو

من صحـراء الفعل إلى صحـراء السحـر


أ.د/ يوسف حطّيني – ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


ترى ما الذي يسوّغ إجراء دراسة مقارنة بين عملين أدبيين؟
يبدو الأمر مرتبطاً بالموضوع حيناً، وبالاشتغال الفني حيناً آخر، وربما ارتبط بهما معاً، على نحو ما نجد في الكلمة السحرية التي ننوي تحرّيها بين أديبين عاشا في زمانين ومكانين مختلفين عن بعضهما اختلافاً بيّناً.
الكلمة السحرية هي الصحراء، والأديبان هما: الفلسطيني غسّان كنفاني والبرازيلي باولو كويلو: كتب كنفاني روايتين تقوم فيهما الصحراء بدور البطولة، هما روايتا: رجال في الشمس، وما تبقى لكم (في الأولى: يسافر ثلاثة رجال مبتعدين عن الوطن في رحلة الموت الأاخيرة، بينما يعود رابع في هجرة معاكسة في الثانية)، في حين يفرد كويلو صفحات واسعة من "الخيميائي" محاولاً كشف روح الصحراء وأسطورتها، مستثمراً سحرها في الوصول إلى تحقيق الأسطورة الشخصية لسانتياغو البطل,
في آليات الاشتغال الفني تنتقل الصحراء بين الروايتين المذكورتين لكنفاني انتقالاً فذّاً بين أن تكون موضوعاً في الأولى، وأن تصبح شخصية رئيسية في الثانية، وهذا الانتقال ذاته هو الذي آلت إليه الصحراء في رواية كويلو، حيث كانت موضوعاً، حين قطعها سانتياغو مع القافلة، لتغدو فيما بعد شخصية يخاطبها، ويطلب إليها أن تساعده في التحوّل إلى ريح.
وإذا كانت الصحراء قد عبّرت عن أحوال الإنسان العربي، وصارت جزءاً من كيانه، فإنها بقيت بأوصافها وحيواناتها ونباتاتها حاضرة في الشعر فحسب، دون أن يكون لها دورٌ ذو شأن في السرد الذي تطوّر فيما بعد، وهذا ما يمنح كنفاني أسبقية في الموضوع والمعالجة، وهذا ما يسوّغ رأي هيلاري كالباتريك، الذي أشار إلى أن الصحراء في روايات كنفاني لعبت «دوراً أعظم بكثير مما لعبت في عملٍ أيٍّ من الروائيين العرب الآخرين».
غير أنّ إضافة كنفاني الصحراوية للرواية العربية لم تقتصر على الموضوع فقط؛ فإذا كان قد اكتفى بكونها محفّزاً موضوعياً في "رجال في الشمس"، فإنه جعلها في "ما تبقى لكم" جزءاً من البنية التكوينية للرواية ذاتها؛ حتى إنه لم يكتف بجعلها شخصية من الشخصيات الأساسية في الرواية (حامد، مريم، زكريا، الساعة، الصحراء)، بل قام بإقحامها في أتون التكنيك الروائي الفريد الذي اتّبعه، مستثمراً تجربة وليم فوكنر في الصخب والعنف، مقدّماً الصحراء بين مجموعة الشخصيات المتداخلة فيما بينها إلى أبعد حدود التداخل، حيث تمكّن تغيير شكل الحرف أن ينقل سرد الحدث من شخصية إلى أخرى، وأن يقدم الأحداث المتزامنة، في سياق واحد، ويمكن أن نشير إلى انتقال فعل الروي من مريم إلى الصحراء في هذا السياق الفريد:
"ولكننا خدعناه يازكريا، خدعناه. لنعترف بذلك. إنه بعيد الآن، يسير منذ ثلاث ساعات على الأقل، وخطواته واحدة واحدة أحصيها مع الدقات المعدنية المخنوقة في الجدار، أمامي. دقات النعش. دقات محشودة بالحياة يقرعها بلا تردد فوق صدري حيث لا صدى، ثمة، إلا الرعب (...) منذ اللحظة التي أحسست فيها بخطواته الأولى على الحافة عرفت أنه رجلٌ غريب".
وقد استطاع كنفاني اجتياز امتحان التطبيق ببراعة لأنه أحسن الانتقال، ووجد دائماً، على مدى روايته، سبباً مقنعاً، ورابطاً يمكنه من الانتقال من راوٍ إلى آخر، دون أن يسبب ذلك اختلافاً في مستوى اللغة.
وإذا كان باولو كويلو قد أفاد من شخصية الصحراء، وحاورها في الجزء الأخير من روايته، فإنه غدا أقلّ نجاحاً، حيث بدا دورها وظيفياً، أكثر من كونه بنيوياً، وهو بهذا الدور لا يختلف عن كثير ممن استثمروا الطبيعة في الرواية، ولعلّ هذا السياق، يعدّ من أكثر السياقات اللغوية دلالة وغنىً على الاندماج بين الصحراء بوصفها مكاناً، ثم شخصية مشاركة في الحدث، إذ يحاورها البطل، ويطلب إليها أن تساعده في التحوّل إلى ريح:
ـ "إذاً حاولي ان تفهمي على الأقل أن ثمة امرأة تنتظرني في مكان ما وسط رمالك (...)
ـ أعطيتك رمالي.. لكي تتمكن الريح من الهبوب، ولكنني بمفردي لا استطيع شيئاً، اطلب المساعدة من الريح".
غير أنّ الذي يجعل هذه القمة الروائية باهتة هو عدم الإفادة منها في حلّ عقدة الرواية على نحو سريع، إذ تتمدد الاحداث، وتختفي الصحراء، ليعاود سانتياغو تحقيق أسطورته الشخصية، في حين تظلّ الصحراء في روايتي كنفاني حاضرة حتى اللحظة الأخيرة. ولعلنا ها هنا نتذكر صرخة أبي الخيزران (سائق الصهريج الذي يمثّل القيادة الفلسطينية العاجزة)، وهو يخاطب جثث الذين ماتوا داخل خزّان الموت، تلك الصرخة التي ترددها الصحراء في السياق النهائي لرواية "رجال في الشمس": "لماذا لم تدقوا جدران الخزان".
الصحراء إذاً تقوم في النصوص الروائية للرجلين بدور فاعل، بل بدور حاسم، وترسم جزءاً من مستقبل الشخصية في "ما تبقى لكم" و"الخيميائي"، وتقرّر مصير الشخصيات الفاعلة في "رجال في الشمس"، لتعطي للهاربين من المواجهة درساً قاسياً برائحة الموت، فيما تقوم بالنسبة للباحثين عن المواجهة لدى كنفاني، والباحثين عن تحقيق أسطورتهم الشخصية لدى كويلو بدور إيجابي، فتساعد البطلين حامد وسانتياغو على الوصول إلى هدفهما، لذلك ليس غريباً أن يحمل السرد استسلام الصحراء لخطوات حامد الذي يقطعها ليلاً "إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر، وكنت مبسوطةً أمامه، مستسلمة لشبابه بلا تردد، ولخطواته وهي تدقُّ في لحمي».
*          *          *
وتمنح اللغة لساتياغو أكثر مما تمنح لحامد من الوقت حتى يعبّر عن مشاعره تجاه الصحراء، ثمة أشهرٌ أمام سانتياغو ليتأمّل، ويتعلّم من الصحراء، ويتقن لغتها، ثمة وقت ليعرف أنها امرأة نزقة، كما قال رئيس القافلة، وليتعلم منها الصمت، والثبات: ""فالكثبان تتغيّر بفعل الرياح، ولكن الصحراء تستمرّ في مكانها"، وليسمع، لاحقاً، من الخيميائي عن الصَدَفة التي تختزن البحر في داخلها، ثمة أيضاً وقت ليعشق فاطمة بنت الصحراء، تلك الصحراء التي تأخذ الرجال ولا تعيدهم أحياناً، وثمة أيضاً وقتٌ ليعود إلى فاطمة التي لم تعد تعني لها الصحراء منذ ودعت حبيبها "إلا شيئاً واحداً، الأمل بعودته".
أمّا حامد الذي عاش على حدّ السيف، على حدّ اللحظة الهاربة، فله قصة أخرى مع الصحراء، ثمة بضعة عشرة ساعة لا غير تفصله عن الوطن، ثمة برد شديد، يبقى أكثر رحمة من جحيم النهار الذي عاشه أبو قيس وأسعد ومروان في "رجال في الشمس"، وثمة خطر وجنود صهاينة يحرسون الحدود من الحنين؛ لذلك لم يكن لديه الوقت ليتأمل سماتها، كان يراها  "مخلوقاً يتنفس على امتداد البصر"، ويشعر بها "ترتعش تحته كعذراء"، ويعترف لها بضعفه، واضطراره لمغامرة العودة، بعد أن احتمل المنفى لأجل مريم التي وسمت حياته بعار جديد، لم يحتمله:
"ليس بمقدوري أن أكرهك، ولكن هل سأحبك؟ أنتِ تبتلعين عشرة رجالٍ من أمثالي في ليلة واحدة ـ إنني أختار حبك، إنني مجبرٌ على اختيار حبك، ليس ثمة من تبقى لي غيرك"
بين الرجلين تبدو الصحراء أكثر التصاقاً بالشخصيات عند كنفاني، أكثر تاثيراً وقسوة ومحبة ووضوحاً، في حين تبدو أكثر سحراً وغموضاً عند كويلو.. كيف لا وقد عاش كنفاني أقسى سنوات المأساة، وعاش كويلو في حضن واقعية سحرية تغشاه من كل صوب؟!

 

تعليق عبر الفيس بوك