نظريــــة المَعْــــــرِفَة


محمد رضا اللواتي – سلطنة عُمان


الجزء الأول: قيمة المعرفة
 
1: منضدة الأفكار:

-    لقد مضى من النهار نصفه يا سيد ماهر، ألا تحس بالتعب؟ سأله يقظان.
-    بلى. ولكن لا وقت لدينا.
-    ولكن لدينا على الأقل بعض الوقت لاحتساء القهوة العمانية أو الشاي الأحمر. علقت إيمان مبتسمة.
-    ليكن الآن دور الشاي الأحمر. قال السيد ماهر. قامت إيمان لتصب الشاي للسيد ماهر، ثم لأخيها ولنفسها. شكرها السيد ماهر وجلس يرتشف الشاي بكل هدوء. وبعد أن وضع الجميع أكوابهم على المنضدة، تنحنح السيد ماهر وقال:
-    كما ذكرنا سابقاً، يلزمنا التعرف على نظرية المعرفة وأهم مسائلها، حتى نخطو بعد ذلك صوب الحكمة الإلهية.
-    وهنا سأله يقظان قائلا: عفوا يا أستاذ، وما معنى الحكمة الإلهية؟.
-    أجاب السيد ماهر: الحكمة الإلهية مصطلح يطلق على العلم الذي يتناول الألوهية وشؤونها. وشؤون الألوهية تعني صفات الله تعالى، وأفعاله. وبما أن الكون بما فيه فعله تعالى فالحكمة الإلهية تبحث في الكون بصفته فعله سبحانه. واضح يا يقظان؟
-    بلى يا سيد ماهر.
-    موضوع درسنا اليوم هو العلم والمعرفة. ويغطي الموضوع 6 نقاط أساسية هي:
1    أساس المعرفة.
2    حقيقة العلم.
3    قيمة المعرفة.
4    أدوات المعرفة.
5    أصالة العقل في المعرفة.
6    تجرُّد المعرفة.
و لنتحدث الآن عن أساس المعرفة ولن يطول بنا المقام فيه إن شاءالله –تعالى-.
-    استطرد السيد ماهر: تأملا هذه المنضدة التي وضعتُ عليها كتبي. لقد أسدت هذه المنضدة لي خدمة. تُرى ما هي؟.
-    ردَّت إيمان: إنَّك تستطيع وضع أغراضك عليها.
-    السيِّد ماهر: فعلاً. لولاها لسقطت كتبي على الأرض، والأوراقُ والأقلامُ وكوبُ الماءِ هذا. وكما أنَّ هذه الطاولةَ لعبت هذا الدورَ بالنسبة إلى تلك الأشياء، لا بد من وجود شيء يلعب دور المسند والمنضدة لسائر الأشياء.
-    كيف؟، تساءل يقظانُ متفكِّراً.
-    أجاب السيِّد ماهر: لو لم تكن الأوراق موجودةً لما أمكن للمُؤَلِّفين كتابةُ شيءٍ، لأنَّ الأوراقَ مسندُ الكتابة ومنضدةُ الأسطر. الكرةُ الأرضيَّةُ منضدةٌ كبيرةٌ وضع الخالق –جلَّ و علا- عليها الجبالَ والبحارَ والأشجارَ والكائناتِ. ومنظومتنا الشمسيَّةُ منضدتُها مجرَّة دربِ التبانة، وهي بدورها موضوعة على منضدة الكون الهائلةُ. والكونُ نفسه، بعظمته ووسعه، يُشبه كتاباً صغيراً وُضِعَ على منضدةِ العوالم العُلْوِيَّةِ وراءَ عالمِ المادَّة هذا كما ستعرفان ذلك في حينه إن شاء الله –تعالى-. ولكنَّ الذي يهمّنا معرفتُه الآن هو الإجابة عن هذا التساؤل: هل للأفكار أيضاً منضدة تستند عليها؟.
-    إنَّه الذهن أو الدماغ البشريُّ، أجاب يقظانُ بسرعة.
-    السيِّد ماهر: الذهنُ وعاءٌ تقبع فيه الأفكار. ولكن في عالم الأفكار نفسها توجد منضدةٌ تستند عليها جميع الأفكار. ويجب أنْ تكونَ تلك المنضدةُ فكرةً معيَّنةً، لولاها أضحت كلُّ تلك الأفكار بلا قيمةٍ ولا معنى. بدون تلك الفكرة المنضدة، يُصبح الذهنُ صندوقاً يحوي خرافاتٍ. هل عرفتما عن أيَّة فكرةٍ أتحدَّثُ؟.
-    يقظانُ: كلّا.
-    السيِّد ماهر: هذه الفكرة هي مبدأ استحالة اجتماع النقيضين.
-    إيمان: هل يُمكنك الشرحُ أكثر؟.
-    السيِّد ماهر: نحن جميعاً نعتقد بأنَّ النقيضين لا يجتمعان، ولو لمْ نعتقدْ بذلك لتهدَّم صرحُ العلومِ بأكمله.
-    لماذا؟، سأله يقظانُ متعجِّباً.
-    السيِّد ماهر: لأنَّنَا حينئذٍ سنصدِّقُ نقيضَ ما اعتقدنا. هل تعتقد يا يقظانُ بأنَّك موجودٌ؟.
-    يقظان: بالطبع أعتقد بذلك.
-    السيِّد ماهر: وهل يُمكنك أنْ تعتقدَ بأنَّك غيرُ موجودٍ أيضاً مع الاحتفاظ باعتقادك الأوَّل؟.
-    أجابَ يقظانُ: كلّا بالطبع.
-    السيِّد ماهر: ولو اعتقدت بأنَّك غيرُ موجودٍ مع الاحتفاظ باعتقادك الأوَّل؟.
-    لأصبتُ بالجنون، قالها يقظان ضاحكاً.
-    السيِّد ماهر: فعلاً. النتيجة هي أنَّ ثمَّةَ مبدأ لا يَسَعُنا إلَّا الاعتقادُ به، وهو مبدأ استحالة اجتماع النقيضين. هذا المبدأ وهب الحياةَ والبقاءَ لسائرِ أفكارنا. لقد شبَّه الفيلسوفُ صدر الدين الشيرازيُّ دور مبدأ استحالة اجتماع النقيضين تجاه عالم الأفكار بدور واجب الوجود تجاه عالم الكائنات الخارجيَّة. تُرى ما وجه الشبه هنا؟. وجه الشبه بين الدورين هو منح الوجود والبقاء. ولكي نفهم مغزى ومنشأ هذا المبدأ، تأملا هذه الجملة: "أنا موجود وأنا غير موجودٍ". ما رأيكما بها؟.
-    إيمان: إنَّها باطلة.
-    صاح يقظانُ: إنَّها تجمع بين نقيضين.
-    السيِّد ماهر: ما هما هذانِ النقيضانِ يا يقظانُ؟.
-    يقظان: إنَّهما وجودي وعدمي.
-    السيِّد ماهر: الحقُّ أنَّك تقصد الوجودَ والعدمَ. الوجودُ والعدمُ لا يمكن أن يجتمعا. هذا هو مغزى المبدأ.
-    تساءلت إيمان: ولكن لماذا لا يجتمعان؟.
-    السيِّد ماهر: لنضربْ مثالاً حسِّيَّاً يساعدنا على الفهم. لماذا لا يُمكننا الجمعُ بين النار وبين الماء؟.
-    رَدَّت إيمان: هل لأنَّ طبيعتيهما مختلفتانِ؟.
-    السيِّد ماهر: نعم. ذاتُ النارِ بطبعها لا تقبل ذاتَ الماءِ، لأنَّ ذاتَ الماءِ تهدمُ ذاتَ النار وتُزيلها. ذاتُ النارِ لا تستطيع الاحتفاظَ بالوجودِ عند تواجد ذاتِ الماءِ. ولنرجعْ إلى الوجود والعدم؛ ذاتُ الوجودِ مناقضةٌ لذاتِ العدمِ. الوجود لا يكون إذا كان العدمُ، لأنَّ العدمَ يقضي عليه ويجعله يتلاشى. والآن أجيبا: ما مغزى مبدأ استحالة اجتماع النقيضين؟.
-    إيمان: حقيقة الوجود لا تجتمع مع حقيقة العدم، أليس كذلك؟.
-    السيِّد ماهر: أحسنتِ، هذا هو الجواب. والآن، لنحاولْ تطبيقَ المبدأ في الواقع الخارجيِّ. هل جاء الوجود يا إيمان من العدم؟.
-    إيمان: لا، مستحيل.
-    ولم لا؟. ما وجه الاستحالة؟، سألها السيِّد ماهر.
-    إيمان: ليس من المعقول انبثاق الوجود من عدم يسبقه.
-    السيِّد ماهر: رائع. والآن، من أين جاء وجود الخالق يا يقظانُ؟ من العدم؟.
-    لا يمكن، ردَّ يقظانُ.
-    إيمان (معترضة): ولكن كلُّ شيءٍ يجب أنْ تكونَ له بدايةٌ.
-    السيِّد ماهر: من أين جئنا بهذا المبدأ؟. لقد شاهدنا أحداثَ العالم تسبقها بداية، فظنننا أن للوجود بدايةً أيضاً. ولو كان لكلِّ شيءٍ بدايةٌ فماذا سيكون بدايةُ الوجودِ؟.
-    يقظان: بما أنَّ العدمَ لا يصلحُ لأن يكونَ بدايةً للوجود، فإذن لا بدايةَ للوجود.
-    السيِّد ماهر: أحسنت يا يقظان. ليس لكلِّ شيءٍ بدايةٌ. البداية تصلح لأن تكون للوقائع الحادثة فقط. والوجودُ لا يمكن أن يكون مسبوقاً بالعدم، فصفحة الحياة لم تبدأ من العدم. القاعدة هنا هي: "ليس كلُّ موجود محتاجاً إلى مُوجِدٍ وله بدايةٌ، وإنَّما كلُّ حادثٍ محتاجٌ إلى مُحْدِثٍ وله بدايةٌ".
-    إيمان: ما أسهلَ فهمَ هذا! لقد كنتُ أظنُّ، كما كانت صوفي تظنُّ، أنَّه يجبُ أنْ يكونَ لكلِّ شيءٍ بدايةٌ.
-    السيِّد ماهر: المُهِمُّ أنَّك فهمتِ الآن جيِّداً يا إيمان.
-    إيمان: بلى سيِّد ماهر، وأجده سهلاً.
-    السيِّد ماهر: هلْ تستطيعُ تلخيصَ ما مرَّ يا يقظانُ؟.
-    نعم، لقد سجَّلت كلَّ شيءٍ تقريباً في دفتري. مبدأ استحالة اجتماع النقيضين هو القاعدة التي تستند عليها كلُّ الأفكار في أذهاننا، ولولاها لأصبحت المعرفةُ مستحيلةً.
-    هل هذا كلُّ شيءٍ؟، سأله السيِّد ماهر.
-    إيمان: سأضيف شيئا آخر. هذا المبدأ -أعني استحالة اجتماع النقيضين- يعني أنَّ الوجودَ والعدمَ لا يجتمعان لأنَّ طبيعتيهما متغايرتانِ. ومن هنا، فهمنا أنَّ الأصلَ هو الوجودُ وأنَّه لا ينبع من العدم. وعليه، ليس صحيحاً أنَّ لكلِّ شيءٍ بدايةً. فقط الحوادثُ تحتاج إلى بدايةٍ، والوجودُ لا يحدث من عدم، فليست له بداية.
-    رائع يا إيمان، قال السيِّد ماهر.
-    وماذا عن تلخيصي، ألم يكن رائعاً؟، تساءل يقظان مبتسماً.
-    السيِّد ماهر: كانت رائعةً يايقظان، وستكون ملخَّصاتك كلُّها كذلك إذا استمرَّت يقظتك.
-    ضحك يقظان وقال: سيكون اسمي منطبقاً عليَّ ياسيَّد ماهر.
-    ما عدا وقت النوم ، قالت إيمان متفكِّهةً.
ضحك الجميع.

2: هل للذهن بذور؟

-    السيِّد ماهر: لنرجع إلى درسنا. ما منشأ مبدأ استحالة اجتماع النقيضين في ذهن الإنسان؟، بل ما منشأ سائر الأفكار في الذهن؟. هل إنَّ الذهنَ شجرةٌ كانت بدايتها مع البذور التي نمت وأصبحت أغصانا وثماراً؟. هل إنَّ الأفكار تكمنُ في الذهنِ الإنسانيِّ كما تكمن البذور في التربة؟ أم إنَّ الذهنَ بدايةً صفحةٌ بيضاءُ ثمَّ ترتسم فيه الأفكار؟.
-    يقظانُ: بعض الأفكار كانت حتماً تقبع في إحدى زوايا الذهن، ثم نمت وتطوَّرت. وربَّما يكون مبدأ استحالة اجتماع النقيضين من ضمن هذه الأفكار.
-    لا أظنُّ ذلك يا يقظانُ. يبدو لي أنَّ كلَّ شيءٍ في الذهن قد جاء من الخارج، علَّقت إيمان.
-    يقظان: ولكنَّ بعضَ العلماءِ يعتقدون أنَّ للذهن أفكاراً وُجِدَتْ معه تُعرف بالبدهيَّات. البدهيَّات أفكارٌ يقينيَّة لا تقبل الشكَّ وهي موجودة في الذهن منذ وجوده. ما رأيُك ياسيِّد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: يقظانُ تحدَّث عن اتِّجاه في الفلسفة الغربيَّة يعتقد بأنَّ الذهنَ البشريَّ يأتي إلى الدنيا حاملاً معه أفكاراً أوَّليَّة بسيطةً أطلقوا عليها الأفكار البدهيَّة. هؤلاءِ العلماءُ لحظوا أنَّ ثمَّةَ أفكاراً توجد لدى جميع البشر بنحوٍ ثابتٍ، من قبيل مبدأ استحالة اجتماع النقيضين، وتصوَّروا أنَّ استحصالَ مثلِ هذهِ القاعدةِ بهذا النحوِ من الوضوحِ والقوَّة غيرُ متاحٍ في أوائلِ أوقاتِ عمرِ الإنسانِ، إذ الإنسان، وكأنه ومنذ أولى لحظات حياته يفهم القاعدة، لأنه يتعامل مع الواقع على هذا الأساس، أعني على أساس كونه موجود. وعليه فقد ذهبوا إلى أن لهذه الفكرة، أعني استحالة اجتماع النقيضين وأضاف عليها ديكارت فكرة وجود الله تعالى، كانت بنحو البذور في ذهن الإنسان الوليد ونشأت مع نشوئه حتى أصبحت من أقوى البديهيات عنده. هذا الاتجاه لا يستطيع أن يقدم للمعرفة قيمة. إذ بموجب ذلك فإننا لا نستطيع أن نقيس تلك الأفكار بمقياس يكشف صدقها أو كذبها. المعرفة البديهية بموجب هذه النظرة ستصبح كاليد والرجل في الإنسان ولن تكون فكرة تقبل مناقشتها ومعرفة مدى واقعيتها ومطابقتها للحقيقة. أما فكرتك يا إيمان فلنقل بأنها صحيحة فعلا ولكنها غير تامة.
-    لماذا؟.
-    لأن الإنسان ومنذ نعومة أظفاره يعرف قاعدة استحالة اجتماع الوجود مع العدم.
-    كيف؟ تساءلت إيمان مستغربة.
-    بالطبع يعرف معرفة مبهمة جداً. إن الطفل يتعامل مع جوعه وألمه معاملة واقعية. أي يراها حقائق فهو يبكي للجوع وللألم، ولو كان ذهنه يقبل فكرة إمكان اجتماع النقيضين لعجز عن الوثوق بوجود ألمه ووجود جوعه بل بوجود نفسه. فمتى أمكنه أن يعلم ذلك؟
-    هذا يؤكد على وجود الأفكار القبلية. صاح يقظان.
-    كلا. هذا يؤكد على أن هذه الفكرة أيضاً قد أتت في الذهن بالإطلاع على الوجود وأنه غير العدم.
-    فهمت. لا بد أن الطفل قد أدركها عندما أدرك وجوده. علقت إيمان.
-    صحيح جداً مع إضافة هامة سأذكرها في درس معرفة الله. والآن هل يمكن لأحدكما أن يلخص حصيلة الدرس؟.
-    عذراً يا سيد ماهر، عندي سؤال أريد أن أسألك عنه. قال يقظان.
-    تفضَّل، قالها السيِّد ماهر بابتسامة مشجعة جدا.
-    لم تقدم دليلاً على أن الأفكار البديهية لم تأتي مع الذهن. كون ذلك يقضي على قيمة المعرفة لا يعد دليلاً. فليكن كذلك ولتكن كل الأفكار بلا قيمة وسيبقى هذا السؤال قائما. ما الدليل على أن الذهن لا يأتي بهذه الأفكار من ذات نفسه؟.
-    كلامك صحيح يا يقظان. فعلا، يجب تقديم دليل نستند عليه لإثبات تلقي الذهن لمعارفه من الخارج.  
-    ما هو الدليل على ذلك يا سيِّد ماهر؟، سألته إيمان.
-    دليل ذلك كامن في تعريفنا للعلم وأنه كاشف للواقع. وبما أننا متوجهون إلى ذلك الموضوع، أرجو الانتظار قليلاً لحين تلقي الجواب الشافي.
-    لا بأس يا أستاذ. ردت إيمان بكل لطف.

3: شعاع الإدراك:

-    السيِّد ماهر: لننتقلْ إلى النقطة الثالثة ونتحدَّثْ عن حقيقة العلم. ما هو العلم؟.
-    إيمان: معرفتي العالمَ.
-    يقظان: ومعرفتي نفسي.
-    أحسنتما. ولكن ما معنى معرفتي العالمَ؟.

 سكتا ولم يجيبا.
-    أستطرد السيد ماهر قائلا: هو انكشاف العالم لكما. هل تلحظانِ أنَّني استبدلت كلمةَ "انكشاف" بكلمتكما "معرفة".
-    يقظان: صار أوضح الآنَ.
-    إيمان: العلم إذن هو انكشاف العالم الخارجيِّ وعالم الإنسان أيضاً. أليس كذلك ياسيِّد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: نعم يا إيمان صحيح. دعاني أقلْ لكما إنَّ النتيجةَ التي انتهينا إليها الآنَ حول حقيقة العلم وكونه يكشف لنا الواقع لا يستطيع أحدٌ أنْ يختلفَ فيها معنا، كائناً من كان.
-    كيف؟، سألت إيمان.
-    السيِّد ماهر: لنحاولْ رفضَ ما تحقَّقنا منه الآن. لنفترضْ يا يقظانُ أنَّك تُنكر كاشِفِيَّةَ العلمِ للواقع. أي أنَّك تقول بأنَّ العلمَ لا يكشفُ عن الواقع.
-    يقظان (مبتسماً): لنفترضْ طالما إنَّه مجرَّدُ افتراض.
-    هذا الافتراض -أنَّ العلمَ غيرُ كاشفٍ عن الواقع- علمٌ يايقظانُ أم جهل؟. أعني هل إنَّك تقولها كحقيقة علميَّة أم لا؟.
-    يقظان: على فرض أنَّني أعتقد بصحَّتها، نعم إنَّها حقيقة علميَّة ياسيد ماهر.
-    السيِّد ماهر (مبتسماً): إذن إنَّك لم تنكرْ إطلاقاً كاشِفِيَّةَ العلمِ عن الواقع لأنَّك تطرح كلامك باعتباره
         علماً.
-    إيمان: حقَّاً يايقظان، السيِّد ماهر على حقٍّ.
-    السيِّد ماهر: في الواقع، نحن نتأكَّد من شكوكنا بالعلم أيضاً. فعندما أسمع أمراً ما وأريد أن أتأكَّد ما إذا كنت مقتنعاً به أم شاكَّا فيه، فسوف أحتاج إلى كاشف يكشف لي ذلك، أي إنَّني بالعلم أصِلُ إلى اعتقادي أو شكِّي بذلك الأمر.
-    فهمتُ جيِّداً. إنَّه أمرٌ مذهل. أذكر أنَّني كنت قد قرأت عن مدرسة الشكِّ الأوروبيَّة التي شكَّكت في كلَّ شيء. فعلى أيِّ أساس بنوا فلسفتهم أولئك الرجالُ؟، تساءل يقظانُ.
-    السيِّد ماهر: أحسنتَ يايقظانُ. فلقد ظهر فلاسفةٌ عِدَّةٌ في أوروبا، ظنُّوا أنَّ الطريقَ إلى المعرفة اليقينيَّة مستحيلُ. وعليه، أعلنوا أنَّ العلمَ لا يقود إلاَّ إلى الظنِّ أو الشكِّ. لقد طرح هؤلاءِ فكرتهم تلك على أنَّها حقيقة علميَّة في الوقت الذي أرادوا أن يجرِّدوا العلم من خاصِّيَّة الكشف. في الواقع، وكما مر، لقد ساعدهم علمهم على اكتشاف شكوكهم.
-    يقظان: عجيب حقَّاً.
-    السيِّد ماهر: المُهِمُّ هو أنْ نعرفَ أنَّه ليس بمقدور البشر أن يُنكر للعلم خاصِّيَّتَه تلك أبداً. انتبها جيداً، سأقوم بتغيير كلمة "كاشف" وسأضع عوضاً منها كلمات أخر. سأقول: "العلم عندما يكشف الواقع يُحضره عندنا".
-    يُحضرُ المِرِّيخَ عندنا؟، قالها يقظانُ مبتسماً.
-    السيِّد ماهر: يُحضرُ المِرِّيخَ وغيرَ المِرِّيخِ في أذهاننا. بالعلم تتوفَّر المعلوماتُ عن المعلوم في أذهاننا. هل يُمكنكِ يا إيمان أنْ توضِّحِي لنا كيف هو شكل سطح كوكب المِرِّيخِ؟.
-    إيمان: مع الأسف ياسيِّد ماهر لا أقدر. يبدو أنَّ قراءاتي في هذا الميدان ضئيلةٌ جِدَّاً.
-    السيِّد ماهر: المسافةُ بيننا وبين المِرِّيخِ هائلةٌ لا يُمكننا عادةً قطعُها والذهابُ إلى هناك. البعدُ هنا سببُ جهلِ إيمان بالمِرِّيخِ. ولكي يرتفعَ الجهلُ، على إيمان أنْ تقتربَ من سطحِ المِرِّيخِ. العلمُ إذن يتحقَّقُ بحضور المعلوم عند العالِم ولا يتحقَّق بغيابه عنه.
-    المسألةُ تحتاجُ إلى تفكيرٍ، قال يقظان ذلك واستطرد: إنَّ لديَّ بعضَ المعلوماتِ عن المِرِّيخِ وعن غيره من الكواكب، ولكنَّني استقيتها من الكتب الكونيَّة.
-    السيِّد ماهر: إذن علمُك قد حصل لديك عبر وسائط. والآن لنُطلقْ على كلِّ معلومة اكتسبناها مباشرة عبر الاطِّلاع على المعلوم شخصِيَّاً "العلمَ الحضوريَّ"، ولنطلقْ "العلمَ الحصوليَّ" على كلِّ علم أخذناه عبر وسيط. يقظانُ، عدِّدْ المعارفَ التي اكتسبتها حضوريَّاً؟.
-    يقظان: معرفتي بأمِّي وأبي وأقربائي وبيتي وحارتي ووطني.
-    السيِّد ماهر: وماذا لديكِ من المعارفِ الحصوليَّةِ يا إيمان؟.
-    إيمان: كثيرةٌ جِدَّاً ياسيِّد ماهر.
-    طيِّبٌ ياإيمان. أيُّ المعرفتين أشدُّ ثباتاً ويقيناً؟.
          فكَّرت إيمان، فاستطردَ السيِّد ماهر:
-    السيِّد ماهر: هل من الممكن للعلماء أنْ يُعلنوا غَدَاً أنَّ الماءَ الذي كانوا يعتقدون بوجودِه على سطحِ المِرِّيخِ ظهر أنَّه ليس ماءَاً، وإنَّما هو عصيرٌ لبعض فواكه المِرِّيخِ التالفة التي تأكسدت بسبب قسوة ظروف جوِّ المِرِّيخِ؟.
-    إيمان: (مبتسمةً): ممكنٌ.
-    السيِّد ماهر: ولكن هل من الممكن لكِ أن تكتشفي يوماً أنَّ مشاعرَ الحبِّ التي كنتِ تحملينها لشخصٍ ما هي في الواقع مشاعرُ بغضٍ أخطأتِ في تشخيصها؟.
-    إيمان: لا يمكن.
-    السيِّد ماهر: والسبب؟.
-    إيمان: معرفتي بشؤوني نفسي لا تقبل الشكَّ.
-    السيِّد ماهر: رائعٌ. ولكن لِمَ لا تقبلُ الشكَّ؟.
-    هلْ لانَّها معرفة ... حضوريَّةٌ؟، قالتها إيمان بتردُّدٍ.
-    أحسنتِ. قالها السيِّد ماهر بكلِّ حماسٍ واستطرد: قبل أنْ استرسلَ، دعونا نُرَاجِعْ ما لدينا من نقاط حول العلم. قلنا إنَّ العلمَ حقيقتُه تكمنُ في كاشِفِيَّتِه للواقع لنا. وذكرنا أنَّ حقيقتَه تلك لا تقبل الإنكارَ. وذكرنا أيضاً أنَّ كاشِفِيَّتَه للواقع تارةً تكونُ كاشِفِيَّةً مباشِرةً بحيث لا يكون بين المعلوم والعالِم به وسيط، وأخرى تكون كاشِفِيَّتُه حصوليَّةٌ بحيث يكون بيننا وبين المعلوم وسيط. والآنَ نُؤَكِّدُ على أنَّ المعرفةَ الحصوليَّة تقبلُ الخطأ، إذْ رُبَّما لا يكونُ الوسيط دقيقاً في نقل الواقع الخارجيِّ لنا، ولكنَّ هذا الاحتمالَ ضعيفٌ جِدَّاً في المعارف الحضوريَّة. هذا يعني أنَّ اليقين في المعرفة الحضوريَّة أكثر منه في المعرفة الحصوليَّة.
دعونا الآنَ نعدْ إلى حيث كنَّا، ولنقمْ بعدِّ معارفنا الحضوريَّة:
أوَّلاً: معرفتنا بذواتنا لا يكون عبر وسائط. متَّفِقَانِ؟.
-    يقظان: نعم.
-    ثانِياً: في ما يخصُّ معرفتَنا بمشاعرنا النفسيَّة ... هل يُمكن لنا أنْ نُخْطِئَ في تمييز الحبِّ من البغض في أعماقنا تجاه شيءٍ ما؟. بالطبع كلَّا.
ثالثاُ: في ما يخصُّ معرفتَنا بقوانا الإدراكيَّة، أعني أدواتَ المعرفةِ الموجودةِ عندنا ... هلْ يُمكن يايقظانُ أنْ تُخْطِئَ ولو مرَّةً فتستخدمَ سمعَك عِوَضَاً عنْ بصرِك عندما تريد رُؤْيَةَ شيءٍ ما؟. كلَّا حتْماً.
-    ابتسم يقظانُ وهو يقول: فِعْلاً هذا مستحيلٌ.
-    رابعاً: في ما يخصُّ معرفتَنا العالمَ الخارجيَّ .... قومي يا إيمان وحدِّقي في تلك الشجرة التي تقع خارج
         منزلكم.
-    إيمان: لقد رأيتُها مِراراً ياسيِّد ماهر.
-    السيِّد ماهر: لا بأسَ، كرِّري ذلك مرةً أخرى.
-    إيمان: طيِّب. نعم ... ها هي، لقد رأيتُها.
-    السيِّد ماهر: كيفَ عرفتِ بوجودِها؟.
-    السيِّد ماهر: لقد شاهدتُها.
-    تعنين أنَّك استخدمت قوَّة من قواك الإدراكيَّة وهي قوَّة البصر.
-    إيمان: نعم.
-    السيِّد ماهر: وقدرتك الباصرة هل هي منطوية في ذاتك وشيء غير منفصل عن نفسك أم لا؟.
-    إيمان: نعم، هي شأن من شؤون ذاتي.
-    السيِّد ماهر: رائعٌ يا إيمان. إذنْ لقد أرتطم بصرُك على الشجرة فتمَّ إدراكُك لها.
-    إيمان: نعم.
-    عُذراً ياسيِّد ماهر أقاطعك. قالها يقظانُ بسرعةٍ وأضاف: إنَّك تريدُ القولَ: بما أنَّ عمليَّةَ إبصار الواقع الخارجيِّ تمَّت من خلال قوَّةٍ من قُوى النفس، ولأنَّ هذه القُوَّةَ غيرُ منفصلةٍ عن النفس، فالإدراكُ إذن كان حضوريَّاً. أليس كذلك؟. ولكنِّي لا أوافقك الرأيَ يا سيِّدي. فالبصرُ يُمكنُ فصلُه عنِّي بعمليَّة جِراحيَّة، وكذلك السمعُ، ويمكن أنْ تُصيبَ الألسنَ عاهةٌ ما، كما يُمكن أنْ نفقدَ حاسَّة الشمِّ، فهذه الوسائل -وإنْ كانت فينا- يمكنها أنْ تنفصلَ عنَّا.
-    السيِّد ماهر: أحسنتَ يايقظان في نقطتك ولكنَّك مع ذلك لستَ بمصيبٍ. صحيحٌ يُمكنُهم فصلُ أداة البصر وأداة السمع وأداة الذوق وأداة الشمّ من أبداننا، ولكن ليس لهم فصل المقدرة على الإبصار، والمقدرة على لقط الأصوات، والمقدرة على التذوُّق والشمّ من أرواحنا. يستطيع أيٌّ منَّا أنْ يُوصيَ بنقل بعض أعضائه بعد موته لأحد أقربائه أو للمحتاجين أو للجمعيات الطبِّيَّة، كأنْ نوصيَ بمنح أعيننا لمختبرات التجارب العلميَّة، ويمكننا فعل ذلك ونحن أحياءُ أيضاُ، ولكن هل يُمكننا أن نُعيرَ قوَّتنا التي بها نرى الأشياء؟. عندما تتركَّب العينانِ في الفاقدِ لهما يبدأ بمشاهدة الأشياء. تلك القدرة يايقظانُ ظلَّت باقية فيه. نحن نتكلَّم هنا عن القدرة أو الاستعداد على الإدراك عبر النظر والسمع والشمّ واللمس والتذوُّق.
-    يقظان: لقد فهمتُ الآنَ ياأستاذ ماهر.
-    دعني اشرحْ أمراً يا يقظانُ. لو طلبنا الآنَ من إيمان أنْ تتذكَّر وتُحضرَ صورةَ الشجرة في ذهنها فهل سيكون استذكارها حضوريَّاً أم حصوليَّاً؟. وهل ستكون معرفتها بالشجرة حصوليَّةً أم حضوريَّةً؟.
        بينما بدا على يقظان التفكيرُ قال السيِّد ماهر:
-    لا بأسَ، دعْني أجبْ. عندما شاهدتِ الشجرةَ عبر أداة الإبصار يا إيمان، كانت معرفتك بها حضوريَّة، ولكن عندما تستذكرينها تصبحُ عبر واسطة. الواسطة هي الصورة الذهنيَّة عن الشجرة، فتكون المعرفة بها حصولية. ولكن، بالرغم من كون المعرفة حصولية، وجود الصورة عندنا بلا واسطة يجعلها حضورية.
-    هل هذا لغز يا سيد ماهر؟، تساءل يقظان مندهشاً.
-    السيِّد ماهر: كلا يا يقظان. التفتْ جيداً. أريد القول:
أولا: إنَّ معرفتنا بكل ما كنا قد شاهدناه وتعرفنا عليه حضوريا، تصبح حصولية بمجرد أن نقوم باستذكارها. ذلك لأننا ندرك الموضوع عبر صورة ذهنية.
ثانياً: ولأن هذه الصور حاضرة عندنا، تصبح معرفتنا بالصور معرفة حضورية، بينما تصبح معرفتنا عما تحكيه هذه الصور حصولية. هل فهمت ما أعني؟.
-    يقظان: نعم إلى حد جيد.
-    واضح جداً ياسيد ماهر، قالت إيمان واسترسلت: عالم الذهن هو عالم الصور التي تلعب دور الوسيط في معرفتنا بالعالم. لذلك معرفتنا عبرها تصبح حصولية، ولكن معرفتنا بهذه الصور نفسها حضورية.
-    السيِّد ماهر: أشكرك يا إيمان. وهذا معنى القاعدة التي تقول: ما من معرفة حصولية إلا وهي مسبوقة بمعرفة حضورية.
-    يقظان: إذن كل علم حصولي مسبوق بعلم حضوري. الآن قد فهمت جيدا ياسيِّد ماهر.
-    السيِّد ماهر: المهم أن لا تنسيا أن الحضور يحقق العلم وأن الغياب يسبب الجهل. العلم يساوي حضور المعلوم سواء من طريق الواسطة أم من دونها.
-    يقظان: ما رأيك بهذا التعبير يا سيد ماهر "الحضور توأم العلم والغياب توأم الجهل".
-    السيِّد ماهر: جيد يايقظان. هل يمكنك يا إيمان فرز حصيلتنا؟.
-    إيمان: نعم ياسيِّد ماهر.
1    العلم يكشف عن الواقع. لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، لأن كل إنكار يتضمن اعترافاً بكاشفية العلم للواقع.
2    العلم هو حضور المعلوم لدى العالم. وحضوره يكون بنحويين هما: بالذات وبالواسطة. ونطلق على الأول العلم الحضوري وعلى الثاني العلم الحصولي.
3    كل علم حصولي مسبوق بعلم حضوري، والطريق إلى المعرفة منحصر في العلم الحضوري.
-    السيِّد ماهر: أحسنت ياإيمان وأجدتِ.
-    عذرا ياسيد ماهر. أذكرك بالجواب الذي وعدت بتقديمه. أعني الدليل على أن الذهن لا يحوي أفكاراً
         مسبقة.
-    طيب. التفتا جيداً: ألم نقل بأن العلم كاشف عن الواقع. ولا سبيل إلى إنكار ذلك؟.
-    نعم.
-    إذا كان الذهن يحمل معارف بصورة ذاتية في داخله، فهذه المعارف لن تكون قد تم اكتسابها من الواقع الخارجي. وبالتالي فإن العلم بالنسبة إليها لن يكون كاشفاً عن الواقع. يعني أنه في مورد معرفتنا بهذه الأفكار المولودة في الذهن، لا يوجد كشف عن الواقع.
-    يقظان: ما هو المترتب عليه من إشكال؟.
-    السيِّد ماهر: الذي يترتب عليه هو فقدان العلم لخاصية الكشف عن الواقع، وكون تلك المعارف ليست
         علوماً.
-    كرر يقظان السؤال بإلحاح: طيب وما الباطل في هذا القول ياسيد ماهر؟.
-    أولاً: ستغدو كل المعارف فاقدة للقيمة لأنها تستند على معارف أولية ليست بكاشفة عن الواقع. وثانيا: الإنسان يشهد بأن العلم كاشف عن الواقع لذا لا يرضى أن يسلب عن العلم هذه الخاصية على الإطلاق. وهنا تكمن النقطة التي تسألانني عنها.
-    يقظان: النقطة الأولى مفهومة وسبق أن ذكرتها ولكننا قلنا بأنها ليست بجواب شافي. أما النقطة الثانية فلم أفهمها جيداً.
-    إيمان: وأنا كذلك.
-    السيِّد ماهر: حسناً. خذا نفساً قبل أن استرسل.

4: قيمة المعرفة

-    السيِّد ماهر: التفتا جيداً فسأضرب لكما مثالا توضيحياً. لنفترض أننا متواجدون في منزل شديد الظلمة ونريد أن نرى ما حولنا من الأشياء، فأخذنا مصباحاً وأطلقنا شعاعه حولنا. الذي سيحدث هو أن أشياء ستظهر لأعيننا بعد كانت في ظلام دامس. ولنفترض أن شخصاً كان معنا وقال: إن ما ظهر لنا بسبب هذا الضوء القوي، لا يدل على وجود هذه الأشياء في الخارج. لا يوجد شيء في الخارج والمصباح لم يكشف عن وجود أشياء خارجة عنه. المصباح يحوي هذه الأشياء في داخل شعاعه. القائل بأن المعارف الأولية كامنة في الذهن، يشبه كلامه كلام القائل بأن المصباح يحوي في شعاعه الأشياء، وبسطوعه يظهرها من أعماقه، ولكن، غاية ما في الأمر، نحن نظن بأنها موجودة في الخارج. فكما أن المشغل السينمائي يصدر شعاعاً على لوح أبيض ومن الشعاع تظهر الصور والأحداث، ولا توجد الأشياء في القاعة المظلمة التي يجلس الناس فيها متسمرين، هكذا هي القصة هنا. أما القائلون بأن الذهن لا يحوي الأفكار في ذاته، هم الذين يقولون بأن المصباح كاشف للظلمة، ومبين للأشياء التي كانت مستورة تحت ستار الظلمة. والآن، كيف نثبت من هو على الحق؟. علينا أن نقوم بهذه التجربة البسيطة: لنطلق الشعاع، ونتأكد من ظهور الأشياء، ولنلمسها لنتأكد يقينا كونها موجودة في الخارج، فنكون قد تأكدنا تماماً من الموضوع وبالتالي يمكننا اختيار الرأي الصحيح. سأقوم الآن بوضع ما قلته في قالب من ألفاظ أخر: الضمان الوحيد للتأكد من كاشفية العلم للواقع هي أن نشرف على تطابق موضوع العلم (الأشياء كما في أذهاننا) بالواقع الخارجي (الأشياء في الخارج).
-    إيمان: التجربة سهلة للغاية، إننا نمارسها كل يوم.
-    أحسنت يا إيمان. كل يوم، نشاهد المئات الأشياء، ولحظة مشاهدتنا لها، تنتقل إلى أذهاننا، فلا نشك إطلاقاً في واقعيتها، لأننا كنا قد أشرفنا على واقعيتها، وتطابق صورتها الذهنية معها عملياً. ولذلك لا نقبل أن نسحب عن العلم صفته تلك.
-    إيمان: فهمت جيداً ياسيد ماهر.
-    إذن اسمحي لي بهذا السؤال. ما هو أول إدراك أدركه الإنسان لحظة ولادته؟.
-    يقظان: إدراكه لذاته حتماً.
-    كنتُ قد سبقتك في الإجابة عن ذلك يايقظان في الموضوع الفائت، علقت إيمان وهي تنظر ليقظان
         مبتسمة.
-    السيِّد ماهر: فعلاً لقد أدرك ذاته قبل أن يدرك أيَّ شيئ آخر. وإلا، فهل يعقل أن الطفل قد بكى لتألمه عند ولادته، بسبب دخول الهواء، ولأول مرة في رئتيه اللتين كانتا منكمشتين كالمظلة، وبكى للألم الذي أحدثه شد القابلات له ليخرج، دون أن يكون قد أدرك ذاته، التي تشهد هذه الآلام؟.
-    يقظان: بالفعل. كيف يدرك أمرا متعلق كلياً بالنفس دون أن يدرك نفسه المتألمة؟.
-    السيِّد ماهر: أحسنت. الواقع أن الألم ليس بمتعلق فحسب بالنفس، بل هو يقع في عمق النفس. هل سمعتما المقولة  المشهورة جداً لديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود"؟.
-    إيمان: نعم.
-    السيِّد ماهر: ما النقد الذي يمكن توجيهه لديكارت على كلمته هذه؟.
-    يقظان: لست أدري.
-    كيف توصل ديكارت إلى أنه موجود من خلال الفكر مع العلم أن الفكر شيء يخص النفس؟ في الواقع كان قد أدرك نفسه قبل أن يدرك فكره بدليل أنه قال: "أنا" قبل أن يقول: "موجود".
-    فعلا، قالت إيمان بانتباه.
-    إذن أول إدراك للإنسان هو إدراكه لذاته. وقد تعامل الإنسان بكل جدية مع إدراكه لذاته فتصرف وفق إدراكه، فعندما تألم بكى، وعندما زال ألمه هدأ. لقد تأكد الإنسان تلك اللحظة بأن ما ارتسم في ذهنه من تصور عن ألمه يطابق واقع ألمه في الخارج، أي في نفسه، لذا تصرف معه بكل جدية ورفض أن يقبل احتمال نقيض معرفته تلك. هل تفهمان ما أعني؟.
-    نعم تماماً، قالت إيمان واسترسلت: هل يمكنني أن أقول بأن الإنسان عندما أدرك ذاته ووجوده، أدرك أيضاً بأن وجوده غير عدم وجوده، وهنا منشأ مفهوم هذه القاعدة.
-    نعم يمكنك قول ذلك. وإلاَّ من أين اكتسب الذهن هذه البديهية العجيبة: قاعدة استحالة اجتماع النقيضين؟ هل كانت موجودة في ذهنه؟ لو كانت كذلك لما تعامل معها معاملة جادة وكأنها منبثقة من الخارج. لكان الإنسان قد أهمل ألمه وما أظهر ردة فعل تجاهه، إن كان علمه باستحالة اجتماع النقيضين لم يكن علما كاشفا عن الخارج بل كان وجودا ذهنيا لا صلة له بالواقع. لكن كل ذلك لم يحدث.
-    يقظان: لقد فهمتك تماماً ياسيد ماهر. تريد القول، بأن الذي كون حقيقة العلم، وهي كاشفيته للواقع، إطلاع الإنسان على حقيقته تلك. كل يوم، مئات الأشياء تنتقل إلى الذهن، ويشاهد الإنسان عملية الانتقال هذه بأم عينيه. كل يوم يشاهد الإنسان كاشفية العلم للواقع الذي من حوله له، فأنى وكيف سينكر حقيقته، أو سيتنازل عنها؟.
-    أحسنت يا يقظان. لقد أجبت عن سؤالك بأفضل مما أجبت عنه. لقد فاق جوابك سؤالك.
-    أشكرك ياسيدي.
-    أشعر بتعب يا سيد ماهر. قالت إيمان واسترسلت: هل يمكن أن نستريح قليلاً؟
-    بالطبع.
شكرت إيمان السيد ماهر الذي أيضاً كان يحس بإجهاد لأنه كان واقفاً طوال الوقت. سحب السيد ماهر كرسيا وجلس عليه وبدأ بشرب الماء، بينما خرج كل من إيمان ويقظان من الغرفة، ودخل عامل المنزل ليضع على المنضدة شاياً أحمر واستأذن السيد ماهر في صبها له فأذن له شاكراً.

5: القوة السرية

رسم السيد ماهر دائرة على اللوحة البيضاء بقلم أحمر، ثم قسم الدائرة إلى عدة أقسام، وكتب في كل قسم شيئا. القسم الأول كتب فيه: "أرض، سماء، بحر، شمس، تفاح، سيارة". وكتب في القسم الثاني من الدائرة: "إنسان، حيوان، نبات، جماد، لون، فاكهة". وكتب في القسم الثالث: "حبّ، كره، ألم، لذَّة". وفي القسم الأخير كتب: "وجود، عدم، علة، معلول، غنى، فقر". ثم قال:
-    من أين اكتسب الذهن معرفته الأسماء المكتوبة في القسم الأول من الدائرة؟.
-    يقظان: هذه الأشياء موجودة في الخارج يا سيد ماهر.
-    السيِّد ماهر: أحسنت. حتماً قد أتت من الخارج. وما هي الأداة التي ظفرنا بها هذه الأشياء؟.
-    إيمان: الأدوات الحسية؟.
-    السيِّد ماهر: بالطبع يا إيمان. وماذا عن الأشياء الموجودة في الدائرة الثانية؟. دعونا أولا نعرف الفروق بينها وبين الأشياء التي مرت علينا.
-    يقظان: هذه أسماء جامعة لتلك. الجماد اسم دال على عدد غير نهائي لأفراده، واللون والحيوان والإنسان كذلك.
-    السيِّد ماهر: لنطلق عليها "المعقولات الأوليَّة" يا يقظان.
-    إيمان: ولماذا هذه التسمية الغريبة؟.
-    السيِّد ماهر: لأنَّها تدلنا على الكيفية التي تم بها اكتشافها.
-    يقظان: لم أفهم.
-    السيِّد ماهر: هذه المفاهيم، أعني مفهوم "الإنسان" ومفهوم "الحيوان"، و...
-    عذراً ياسيد ماهر على المقاطعة، ولكن ما معنى كلمة مفهوم؟، سأله يقظان.
-    "المفهوم" هو ما نفهم منه نحن –البشر-. ما نفهمه من كلمة "إنسان"، ومن كلمة "حيوان"، وهكذا.
-    يقظان: واضح.
-    السيِّد ماهر: هذه الكلمات أسميناها "معقولات" لأن العقل هو الذي اكتشفها بمعونة الحس خلافاً لفريق من العلماء الذين ظنوا أن الحس هو الممون لها دون العقل.
-    إيمان: أشرح لنا ذلك ياسيِّد ماهر.
-    السيِّد ماهر: يظن البعض أن أدوات المعرفة منحصرة فقط في الحس، ولذلك فقد قال هؤلاء بأن الحس هو الممون الوحيد لسائر المعارف الموجودة عندنا نحن البشر. هذه النظرية تسمى بنظرية أصالة الحس في المعرفة. ولكن هذا التصور ليس بصحيح.
-    إيمان: لماذا؟.
-    السيِّد ماهر: قومي ياإيمان ودليني على جماد ما في هذه الغرفة.
-    إيمان: الغرفة مليئة بالجمادات ياسيِّد ماهر.
-    يقظان: الكتاب الذي تمسكه بيدك ياسيِّد ماهر جماد.
-    السيِّد ماهر: كلا. الكتاب كتاب والجماد اسم جامع لعدد لا نهائي من أفراده وأحد هذه الأفراد هو هذا
         الكتاب.
-    ما الذي تريد قوله ياسيد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: الجماد، لا يتمثل لنا في كائن مشخص فكيف أدركناه بالحواس؟. الحس يتعلق بالأفراد والأشياء ولا يوجد في الخارج كائن اسمه جماد يمثل سائر الجمادات وبعدد لا نهائي منهم حتى نراه فنقول بأن إدراكنا له راجع إلى رؤيتنا لشخصه. فضلا عن أن حصر عدد لانهائيٍّ لأي شيء غير ممكن من طريق الحواس. بأي أداة تمكنا من أن نتخيل العدد اللانهائي من أفراد الجماد؟ بالحواس؟ لا يمكن لأي من الحواس الخمس أن تحصي عدداً لانهائياً من الأفراد كما هو واضح. الواقع إن هناك أداة سرية من أدوات المعرفة استعانت بالحس وابتكرت هذه المفاهيم التي أسميناها "معقولات" لأنها تدل على منشأ تواجدها في الذهن.
-    يقظان: لاحظ الإنسان تشابهاً بين بعض الكائنات، مثل إنسان وآخر، فأطلق عليهم جميعا اسم "إنسان". ما المانع من ذلك؟.
-    السيِّد ماهر: لكن بأية قوة من هذه القوى أدركنا التشابه؟ هل التشابه شخص قائم في الخارج حتى يلقطه لنا البصر، أو السمع؟.
-    إيمان: تعني أن العقل هو الذي ابتكر التشابه وابتدع الكليات فلذلك أسميناها "معقولات"؟.
-    السيِّد ماهر: نعم بالضبط. وبعبارة دقيقة: نظراً لعدم وجود شخص يجسد الكليات حتى تقوم الحواس بنقل صورته إلى الذهن، تحتم القول بوجود قوة أخرى ابتكرت الكليات مستفيدة من معطيات الحس.
-    إيمان: ولماذا أسميناها "معقولات أولية"؟.
-    السيِّد ماهر: "أولية" تدل على أول أعمال القدرة العقلية. يعني أن للقوة العقلية عدة أعمال، ولكن أولى أعمالها هي ابتكار المفاهيم الأولية. وليكن في معلومكما أن هذه المفاهيم يطلق عليها أيضا "الكليات" لأن هذه المفاهيم تدل على سائر أفرادها بلا استثناء. ولننتقل إلى القسم الثالث من الدائرة. ماذا ترون فيه؟.
-    إيمان: أربع كلمات هي "الحب" و"الكره" و"الألم" و"اللذة".
-    السيِّد ماهر: نعم. وما منشأ هذه المفاهيم؟.
-    يقظان: هذه المفاهيم تحدث في النفس لا الذهن.
-    رائع يايقظان، رد السيد ماهر واسترسل: تحدث في النفس كما أسلفت، لكن يحدث في الذهن شيء آخر بإزاء ما يحدث في النفس. في الذهن يحدث إدراك لذلك الحدث النفساني. هذا الإدراك يتشكل من مفاهيم يتم عبرها معرفة ما جرى في النفس.
-    إيمان: كيف؟ لم أفهم شيئا!.
-    السيِّد ماهر: عندما أحببنا شيئاً وأبغضنا آخر، جرى ذلك في أنفسنا، ولكن كون ذهننا فوراً في عالمه الخاص مفهوما عن هذا الحب ومفهوما عن ذلك الكره. يعني تكون في الذهن فهم للحب وفهم للكره، ولولا ذلك لعجزنا عن التفريق بينهما أبداً.
-    إيمان: هل تعني أن الحب والكره بعد أن يزولا، نستطيع أن نتعرفهما عبر ما تكون في الذهن من أثر لهما؟.
-    السيِّد ماهر: تماما يا إيمان. والآن بأي أداة نتعرف هذه المفاهيم؟.
-    إيمان: عبر أحاسيس باطنية؟.
-    السيِّد ماهر: رائع جداً ياإيمان. فعلاً، فهناك أدوات حسية في أبداننا، وهناك أحاسيس في أنفسنا، يسميها البعض "الحس الباطني"، وتعرف بالوجدانيات، لأننا نجدها في ذاتنا مباشرة. الواقع أن الحس الباطني مصطلح لا يخلو من مسامحة، فنحن لا نحتاج إلى أداة لمعرفة ما في أنفسنا. علمنا بأحوالنا حضوري جداً فلا وسائط ولا أدوات بيننا وبين ذواتنا. أرى أن الوجدانيات أقرب وأصح من الحس الباطني، إلا إذا قصدنا به الوجدان المباشر أو العلم الحضوري.
-    إيمان: واضح جدا ياسيِّد ماهر.
-    السيِّد ماهر: والآن القسم الأخير من الدائرة. ترون أن فيها الكلمات "وجود" و"عدم" و"غنى" و"فقر" و"علة" و"معلول"، ويمكن أن نضيف مفهوم "التعلق" ومفهوم "الاستقلال"، وأمثال ذلك من المفاهيم. هذه المفاهيم تعرف بـ"المعقولات الثانية" أو "المعقولات الفلسفية" أيضاً.
-    إيمان: أظن أنني أستطيع استنتاج سبب هذه التسمية. "المعقولات" تعني أن الحواس لم تدركها بل العقل أدركها. و"الثانية" تعني كونها ثاني أعمال القوة العقلية. أليس كذلك؟.
-    السيِّد ماهر: بلى يا إيمان. هذا ذكاء شديد منك. لم يرَ أحد العلة ولا المعلول. لقد شاهدنا حدثا يُوجد حدثاً آخر. ركلك للكرة يايقظان سبَّب في انطلاق الكرة. ولكن قدرتنا السرية أدركت مفهوم العلة والسببية من حركة ركلك للكرة وانتزعت مفهوم المعلول من اندفاع الكرة بتأثير الركلة.
-    يقظان: لقد قرأت ياسيِّد ماهر أن الفيلسوف دافيد هيوم أنكر السببية.
-    لم أكن أعلم أن لك إطلاعات سرية على النظريات الفلسفية يايقظان، علقت وهي تنظر إلى يقظان
         مبتسمة.
-    السيِّد ماهر: نعم يا يقظان. لم ينكر هيوم اندفاع الكرة. لكنه فصل بينها وبين الركلة، وقال بأنه لا توجد ثمة رابطة بين ركلتنا وانطلاق الكرة. هذان حدثان وقعا عقب بعض ونحن جعلنا الأول سببا للثاني بينما الأمر ليس كذلك في الواقع بحسب رأيه (1)
-    إيمان: وما جوابنا إذن؟.
-    السيِّد ماهر: إنَّ الذي جعل هيوم يختار هذا الرأي هو عدم اعترافه بأداة للمعرفة خارج نطاق الحس. لقد أدرك هيوم أن المفاهيم التي أسميناها المعقولات الثانية لا تجلبها الحواس في الذهن. ووفقا لرأيه، المعرفة محصورة فيما تجلبه الحواس فقط إلى الذهن. وعليه أنكر وجود السبب والمسبب لأنه باعترافه بهما سيكون قد اعترف ضمنا بوجود أداة فوق الحس تمون الذهن بالمعرفة.
-    ولماذا نسمي هذه المعقولات المعقولات الفلسفية؟.
-    السيِّد ماهر: لأنها تستخدم في علم الفلسفة. الفلسفة تستند عليها في بحوثها.
-    إيمان: لنرجع إلى الإجابة.
-    السيِّد ماهر: لقد شاهد الإنسان ذاته وشاهد آلامه وجداناً، وشاهد أسباب وقوعها وجداناً، وشاهد تعلقها بالأسباب، وزوالها بزوال أسبابها، فأدرك السببية وآمن بها جزماً. بالوجدان يشاهد الإنسان كيف تستند قواه الإدراكية ومشاعره النفسية على وجود ذاته، بالوجدان يشاهد الأسباب التي تؤدي إلى انبثاق مشاعره المختلفة في نفسه؛ حبه، بغضه، ألمه، جوعه، لذته. وبالوجدان يشاهد زوال مشاعره وتبدلها لأسباب يعرفها قطعاً ويشاهد تمام تعلقها بها، هذه مشاهدات وجدانية لا تقبل الشك.
-    إيمان: إذن الممون الرئيس لهذه الأفكار هو العقل أيضاُ؟.
-    السيِّد ماهر: نعم. لكن ليس بمعونة الحواس الخارجية بل بمعونة الحواس الباطنية أو بالوجدان المباشر.
-    يقظان: لماذا؟.
-    السيِّد ماهر: لأن الحوادث التي تؤدي إلى نشوء هذه المفاهيم تجري على النفس منذ اللحظة الأولى من الولادة. القدرة العقلية لا تحتاج إلى انتظار وقوع هذه الحوادث في تعامل الإنسان حسيا في الخارج، بل تباشر عملية إدراك هذه المفاهيم من مخزون الأحداث النفسية والمعنوية.
-    قال يقظان: مفهوم جداً.
-    السيِّد ماهر: الآن تأملا هذا الجدول:
التسلسل                             المفاهيم                                        طريق الإدراك
[1]                 الكائنات الخارجية من قبيل الناس والأحجار والبحار              الحواس

[2]                 الكليات أو المعقولات الأولى                                  العقل بمعونة الحواس
[3]                 المشاعر المعنوية وقوى النفس الإدراكية                     الوجدان
[4]                 المعقولات الثانية                                              العقل بمعونة الوجدان

والآن، لو سألتكما عن الأداة الأشد قوة في الإدراك والتي لولاها لاستحالت المعرفة، بحيث يمكن القول أنها هي الأداة الأهم للمعرفة، ب

تعليق عبر الفيس بوك