سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (31)



وسألني تلميذي النجيب عن قوله تعالى: ( جنات تجري من تحتها الأنهار, الآية 25 من سورة البقرة ) وقوله: ( جنات تجري تحتها الأنهار, الآية 100 من سورة التوبة) وقال لي هل في قوله تعالى: (جنات تجري من تحتها الأنهار)، دلالة تختلف عن قوله تعالى: (جنات تجري تحتها الأنهار) ؟
فقلتُ: لعلّ بنا حاجة إلى استقراء الآيتين في القرآن لنتخذه منطلقاً في الجواب عن سؤالك:  فقد تكررت الآية (جنات تجري من تحتها الأنهار) ثلاثين مرة وعلى الوجه الآتي:
آية (تجري من تحتها الأنهار) وردت في المواضع التالية:
(البقرة: الآية 25/ آل عمران: الآيات: 15، 136، 195، 198/ النساء: الآيات: 13، 57، 122/ المائدة: الآيات: 12، 85، 119/ التوبة: الآيتان: 72، 89/ إبراهيم: الآية: 23/ النحل: الآية: 31/ طه: الآية: 76/ الحج: الآيتان: 14، 23/ الفرقان: الآية: 10/ محمد: الآية: 12/ الفتح: الآيتان: 5، 17/ الحديد: الآية: 12/ المجادلة: الآية: 22/ الصف: الآية: 12/ التغابن: الآية: 9/ الطلاق: الآية: 11/ التحريم: الآية: 8/ البروج: الآية: 11/ البينة: الآية: 8
ووردت: "تجري من تحتهم الأنهار" مرتين:
-    في سورة يونس، الآية 9.
-    وفي سورة الكهف، الآية 31.
أمّا "تجري تحتها الأنهار" فقد وردت مرة واحدة في سورة التوبة (براءة)، الآية 100.
وفي ضوء ما تقدّم نضيف:
أنّ أغلب المفسرين لم يُعنَ بالفرق في التعبير بين (تجري من تحتها الأنهار)، و(تجري تحتها).
وانحصر تعليقهم على قراءة (تجري تحتها) فذكروا أنّ ابن كثير قرأها (تجري من تحتها) كسائر الآيات التي وردت فيها (من)، إذ لم يجد فرقاً بينها، ووردت بمصاحف مكة هكذا(1) وجرى على هذا التوجيه أبو منصور الأزهري (ت370ه) في كتابه (معاني القراءات) فقال: "(مِنْ) تزاد في الكلام توكيداً، وتحذف اختصاراً، والمعنى واحد"(2) وتابعه أبو البقاء العكبري (ت616ه) فقال: "(جري تحتها)، و(من تحتها)، والمعنى واضح"(3) فَهُما يريان أنّ دخول (مِن) كخروجها، والمعنى واحد، وهذا غير مراد في سياق الآيات، ويتجلى الإعجاز البياني في ذكرها تارة، وعدم ذكرها أخرى، إذْ "غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له"(4)
و "هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف" (5) و "بقيت هذه الحروف تحدّى كلّ محاولةٍ بتغيير، أو تقدير لحذف أو زيادة" (6) وهذا ما أيدناه، وذهبنا إليه في مبحث (زيادة الحروف) في كتابنا (المشكل في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز البياني)(7)
وانفرد الخطيب الإسكافي (ت420ه) بملحظ دلالي دقيق بين التعبيرين بين (من تحتها)، و(تحتها) فقال: "الذين أخبر الله عنهم بأنّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار: الأنبياء وغيرهم صلوات عليهم. و(من) لابتداء الغاية، والأنهار مباديها أشرف، والجنات التي مبادئ الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها. فكلّ موضع ذُكِرَ فيه (من تحتها) إنما هو عامّ لقوم فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يُذْكر فيه (من) إنما هو لقومٍ مخصوصين ليس فيهم الأنبياء عليهم السلام. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة براءة-100 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً)، فجعل مبادئ الأنهار تحت جناتٍ، وأخبر الله أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات وفيهم الأنبياء – عليهم السلام – بل هم أولهم، والمعتاد أنها أشرف الأنهار.
والآية التي في سورة المجادلة فيها الأنبياء عليهم السلام، والآية التي في سورة براءة، قد خرج الأنبياء عنها، لأنّ اللفظ لم يشتمل عليهم فلم يخبر عن جناتهم بأنّ أشرف الأنهار – على مجرى العادة في الدنيا – تحت أشجارها كما أخبر به عن الجنّات التي جعلها الله لجماعةٍ خيارُهم الأنبياء عليهم السلام. إذ لا موضع في القرآن ذكرت فيه (الجنّات) و(جَرْي الأنهار تحتها) إلا ودخلتها (مِنْ) سوى الموضع الذي لم ينطو ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السلام، فهذا في (من تحتها). اعتبروا بما ذكرتُ ما في جميع القرآن" (8)
ذكر الخطيب الإسكافي (ت420ه) ملحظاً دلالياً، وفرقاً دقيقاً بين (من تحتها)، و(تحتها)، فقال: إنّ كلّ موضع قيل فيه (من تحتها) إنّما هو عامّ لقومٍ فيهم الأنبياء عليهم السلام، والموضع الوحيد الذي لم يذكر فيه (من) إنما هو لقوم مخصوصين اجتمعت فيهم الصفات: الإيمان، والطاعة، والصدق، والرضا، والجهاد، والسبق في الإسلام، والإحسان، والعمل الصالح، وغير ذلك مما يميزهم من غيرهم.
وممن أبدى رأياً آخر:
محمد بن الحسن الطوسي (ت460ه) فقال: "وقوله (وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار) إخبار منه تعالى أنّه مع رضاه عنهم ورضاهم عنه أعدّ لهم الجنّات يعني البساتين التي تجري تحت أشجارها الأنهار، وقيل: إنّ أنهارها أخاديد في الأرض فلذلك قال: تحتها (خالدين فيها أبداً). (9)
وذكر الطوسي وجهاً آخر في تعبير (تحتها) من أنّ مجرى الأنهار محفور تحتها، وهذا تصوّر آخر، قد يجد فيه المتلقي وجاهةً.
وقال ابن عاشور (ت1393ه): "وقد خالفت هذه الآية عند معظم القرّاء أخواتها، فلم تذكر فيها (من) مع (تحتها) في غالب المصاحف، وفي رواية جمهور القرّاء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظرف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يُغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعدّ) المؤذن بكمال العناية، فلا يكون المعدّ إلا أكمل نوعه، وثبتت (من) في مصحف مكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين" (10)
يبدو أن الشيخ ابن عاشور ذهب بعيداً في إغفاله معنى (من)، وأنه لا معنى له مع الظرف! وهذا لا يُقبل منه، فكلّ حرف في القرآن الكريم له دلالته في السياق.
ومن المعاصرين:
عبدالفتاح أحمد الحموز (باحث معاصر) الذي عرض وجوهاً: "ومن ذلك زيادتها مع (تحت) ومنه قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار): يجوز في (من) ثلاثة أوجه:
1- أن تكون زائدة، أي: تجري تحتها.
2- أن تكون بمعنى (في) أي: في تحتها.
وهذان القولان خارجان على مألوف المحققين من أهل العربية عند أبي حيّان، وليست المسالة كذلك؛ لأنه جاء الظرف من غيرها في التنزيل، ومن ذلك قوله تعالى: (وأعدّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً).
3- أن تتعلق بالفعل (تجري) وهي لابتداء الغاية، ومنه قوله تعالى: (للذين اتقوا عند عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) وقوله: (ولأدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار)(11)
عرض الباحث عبدالفتاح ثلاثة أوجه، فخانه التوفيق في أن يعدّ (من) زائدة في الوجه الأول، ولا زيادة في القرآن على ما أثاره هذا المصطلح من إشكال على ما عرضناه في كتابنا (المشكل في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز البياني – المبحث الثاني: زيادة الحروف) (12)
ولا إضافة على ما ذهبنا إليه.
في الأوجه التلاثة التي عرضها الباحث عبدالفتاح احمد الحموز فضل كلام: ففي الوجه الأول: إنّ القول بزيادة (مِنْ) غير موفق، فقد أثار مصطلح (الزيادة) إشكالاً وجدلاً بين اللغويين والمفسرين، "وهو ما لا يؤنس إليه في البيان القرآني" (13)
وقيل: "إنّ الحروف لا يليق بها الزيادة كما لا يليق بها الحذف"(14) وقيل: "إنّه ليس في القرآن حرف زائد على أصل التركيب" (15) وهذا ما نذهب إليه.
أمّا الوجه الثاني: فلا يستقيم تقدير (في)؛ لأن الظرف أصلاً متضمن معنى (في) (16) على ما هو مبسوط في كتب النحو!
ولعلّ للوجه الثالث وجاهة في التأويل!.
ونقلت الدكتورة فاطمة فضل السعدي (باحثة معاصرة) في كتابها (تعاقب الذكر والحذف في آيات القرآن الكريم – دار أروقة للدراسات والنشر/الأردن، ط1، 2013م، ص70-71): ما ذهب إليه الخطيب الإسكافي (ت420ه)، وما ذكره عبدالفتاح أحمد الحموز اللذين أوردنا ما قالاه، غير أنّ لنا توضيحاً على عنوان كتابها، فالمقصود عندنا هو (الذكر وعدمه) وليس (الذكر والحذف) فالحذف يقتضي دليلاً لتقديره، وهذا ليس مقصوداً في التعبير القرآني، فاقتضى ذلك تنبيهاً عليه.
وخلاصة القول:
يبقى ملحظ الخطيب الإسكافي (ت420ه) في الفرق بين التعبيرين متميزاً في: (جنّات تجري من تحتها الأنهار) و(جنات تجري تحتها الأنهار)، فقد بناه على العموم والخصوص منطلقاً من السياق الذي تضمن إشارات انتزع منها هذا الفرق.
لعلّ في هذا – يا ولدي – مقنعاً، وجواباً على سؤالك.

المصادر:
(1)     ينظر: أبو منصور الأزهري (ت370ه): معاني القراءات، تحقيق عيد مصطفى درويش وعوض بن حمد القوزي، دار المعارف/القاهرة، د.ط، 1991م، 1/463 . وينظر: أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم: معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القرّاء، مطبوعات جامعة الكويت/الكويت، ط2، 1988م، 3/38 .
(2)     ينظر: أبو منصور الأزهري (ت370ه): معاني القراءات، تحقيق عيد مصطفى درويش وعوض بن حمد القوزي، دار المعارف/القاهرة، د.ط، 1991م، 1/463 . وينظر: أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم: معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القرّاء، مطبوعات جامعة الكويت/الكويت، ط2، 1988م، 3/38 .
(3)     إملاء ما منّ به الرحمن في وجوه الإعراب في جميع القرآن، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1، 1979م، 2/21 .
(4)     الطبري (ت 310ه): جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق صدقي جميل العطار، دار الفكر/بيروت، ط1، 2001م، 2/342 .
(5)     الزركشي (ت794ه): البرهان في علوم القرآن، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الفكر/بيروت، ط1، 1988م، 3/82 .
(6)     عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطيء): الإعجاز البياني في القرآن مع مسائل نافع بن الأزرق، دار المعارف/القاهرة، ط2، 1984م، ص181 .
(7)     سعيد جاسم الزبيدي: المشكل في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز البياني، دار كنوز المعرفة/الأردن، ط1، 2009م، ص53-54 .
(8)     درة التنزيل وغرّة التأويل، تحقيق محمد مصطفى آيدين، منشورات جامعة أم القرى/مكة المكرمة، د.ط، 2001م، 1/472-473 .
(9)     التبيان في تفسير القرآن، تحقيق أحمد قصير العاملي، منشورات ذوي القربى/طهران، ط1، 1401ه، 5/288 .
(10)    تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ/بيروت، طبعة جديدة منقحة
         ومصححة، د.ت، 10/193 .
(11)    التأويل النحوي في القرآن الكريم، مكتبة الرشد/الرياض، د.ط، د.ت،
         2/1305-1306 .
(12)    ينظر: سعيد جاسم الزبيدي: المشكل في القرآن الكريم، ص53-54 .
(13)    عائشة عبدالرحمن: الإعجاز البياني في القرآن الكريم، ص183 .
(14)    ابن جني (ت392ه): الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب
          المصرية/القاهرة، ط2، 1955م، 2/273
(15)    ابن القيم الجوزية (ت751ه)، بدائع الفوائد، دار الكتاب العربي/بيروت،
          د.ط، 2010م، 2/151-152 .
(16)    ينظر: أبو البركات الأنباري (ت577ه): أسرار العربية، تحقيق محمد بهجة
         البيطار، مطبوعات المجمع العلمي العربي/دمشق، د.ط، تاريخ المقدمة
         1957م، ص177.  وابن عقيل (ت769ه): شرح ابن عقيل، تحقيق محيي
         الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية/صيدا-بيروت، د.ط، 2004م، 1/526 .

 

تعليق عبر الفيس بوك