منهجية تفعيل القراءة والثقافة


محمد عبد العظيم العجمي  - مصر


ونستطرد الحديث عن القراءة والثقافة ومايجب أن تكون عليه (كمنهج حياة )، حيث ـ كما ذكرنا ـ أنها من أولويات المنهج الربانى الذى كلفنا به وأوحى إلينا الذكر من خلاله، وعلمنا منه ما لم نكن نعلم،  وقلنا إن العودة للمعين الأول واعتلاء سدة الأمانة التى أنيط بنا تبليغها للناس على بصيرة، واستنقاذ البشرية من براثن الفكر التآمرى المبنى على التصفية الممنهجة للأمم الضعيفة من خلال استنزاف ثرواتها واحتكار مواردها، وإزكاء روح التناحر والتدابر بين أبنائها مع إغراقها فى ظلمات من الجهل والأمية، حتى تظل تحت هيمنة الأمم المعتلية موجة الحضارة فى هذا الزمان. ولا نخرج من زخم هذا الفكر الاستعمارى الذى يحيط بنا من كل حدب وصوب، إلا بفكر أقوى منه مرجعية وثباتا وتأثيرا.. وهذا هو عين العودة إلى المصادر الأولى التى ما إن تمسكنا به لن نضل أبدا "كتاب الله وسنة نبيه"، فلنر إذا كيف تكون العودة وكيف تكون منهجية التأصيل لخصوصية الثقافة (كمنهج) وعموميتها (كفكر).
إعداد وتحفيز الملكات:
تشير التأملات النفسية إلى أن لكل واحد من البشر ملكات يتمتع بها، تولد معه ، تنمو أو تخبو حسب ما يقدم إليها من الدعم والإحاطة والرعاية، كما أن غريزة الفضول العلمى من الغرائز الواضح تولّدها ونموها مع الإنسان، فلا يستطيع أن يحفظ بقاءه وحياته إلا بهذه الغريزة التى هدي إليها، ومن خلال هذا الفضول الطبيعى للمعرفة المولود مع الإنسان نستطيع أن نضع هذه اللبنة النفسية الأولى فى الطفل وهى حب القراءة، لكن النفس مجبولة أيضا على الانفلات من التقييد، ولذا ينبغى تفعيل ملكة القراءة فى المراحل الدراسية الأولى حسب تقرير خبراء التربية فلكل مرحلة ما يناسبها، على أن يكون ( مثلا ) لكل فصل دراسى مادة تسمى ( القراءة الحرة )، تتضمن (درجات للتقييم الدراسى)، وتكون ضمن عناصر (النشاط)، ويقدم ذلك من خلال تفعيل دور المكتبات المدرسية وانتقاء الكتب المناسبة لكل مرحلة دراسية، على أن تقدم مزيدا من الرعاية والتوجيه فى المرحلة الدراسية الأولى حتى يتم غرس ملكة القراءة فى الطفل وتفعيلها والتعود عليها، وتعد حصة القراءة الحرة كنوع من الترفيه والمناقشة وتحفيزالقدرات الذهنية للأطفال، فيقدم كل أجود ما عنده ويحدث نوع من التنمية للعقل الفكرى أوالإبداعي.
ثم ـ فى المراحل المتوسطة ـ يتم إعداد تلخيص مكتوب يقدم من الطلاب عن ما استخلصه من قراءته والمستفاد من الكتب، كأن يقدم مثلا فى الإذاعة المدرسية كل أسبوع موضوعا يسمى "نبذة عن كتاب قرأته"، كما يمكن أن يناقش أيضا ذلك من خلال حوار التواصل الشفاهيّ بين المدرس والطلاب لتفعيل ملكة التعبير الشفهى والشجاعة الأدبية، وتمنح جوائز ومكافأت لأفضل عرض وأسلوب تعبيرى.. الخ
فى المراحل الابتدائية يكون التفاعل بين التلميذ والمدرس والأسرة لغرس وتحفيز ملكة القراءة فى الطفل من خلال القصص التاريخية البسيطة ، على أن يتم كذلك تقرير مادة القراءة الحرة كحد أدنى (كتابين فى العام)، أما فى المراحل المتوسطة فتكون ملكة القراءة قد ترسخت فى خلفيات الأبناء وأصبحت جزءا من الوعى العقلى لديهم ، ولذا يمكن أن تكون القراءة موجهة، كأن تكون فى الجانب التاريخى والتنمية البشرية مثلا، (فالأولى تأصل للانتماء الوطنى القومي، أما الثانية فهى تحفز القدرات النفسية وتصنع نوعا من الاستبطان والفضول المعرفي يستطيع من خلالها كل شخص اكتشاف قدراته وتنمية المحفزات النفسية لديه تلقائيا دون الحاجة إلى عون خارجي، ويتم الارتقاء بمستوى المناقشة مع الطلاب واستخلاص الفوائد التربوية والعلمية التى تم تحصيلها من القراءة.
وعلى مستوى المراحل التالية يتم التأكيد على استمرارية منهجية القراءة، فى الوقت الذي تكون  قد أصبحت ملكة مفعلة لا تنفك عن صاحبها، مهما كان مستوى قدراته العلمية إلا أننا نكون قد رسخنا لتفعيل الوعي وتأصيل الفكر وقد صارت المناقشة والاستقصاء وعدم التسليم العفوي للأفكار المطروحة، صار ذلك جزءا من التكوين العقلي والنفسي لنموذج الإنسان الذى سيشكل التركيبة المجتمعية المرتقبة، والذى سيكون عنصرا فاعلا من خلال التوجه العملى له كل فى مجاله.

من نواحى القصور التعليمى الحالي:
من السلبيات المقررة مجتمعيا والتى تعد من أهم جوانب القصورالتعليمى، هذا الفصل الواضح بين التكون الفكري والنفسي للطلاب فى مجتمعاتنا (فى المراحل التعليمية) وبين الإعداد العلمي، ولذلك يخرج علينا ـ للأسف الشديد ـ من حملة المؤهلات العليا ذوي الإعاقات المختلفة (نفسيا وروحيا وفكريا وتربويا)، ثم يعاني المجتمع بعدها من جراء فقد هذه التوعية، وما تجنيه هذه النماذج المضطربة على مجتمعاتها من ويلات.. منها (على سبيل المثال) هذه الحزم من الفساد الإداري والمالي والوظيفي، وعدم الانتماء المجتمعي، والشخصيات السيكوباتية (ضد المجتمع)، وبدلا من يخرج حملة المؤهلات العليا (وهم المفترض أنهم الفئة الأعلى ذكاء والأكثر فهما) ليقدموا لأوطانهم الدعم التقني والإبداعي والفكري والعلمي (كل من خلال وظيفته) ويقودوا المجتمعات لنوع من التقويم الأخلاقي والأدبي، إلا أننا نفاجأ باستحواذ الفكر الإنطوائي (النرجسي) عليهم، وتغلب الأهواء والمصالح الشخصية، واحتدام الصراع ـ لا لإثبات الذات والمكانة الاجتماعية ـ لكن، لتكوين الثروة أيا كان مصدرها، واستشراء هذه الفوبيا الاجتماعية مع استحواذها على العقل الجمعي الذى يرى فى وجوده الاجتماعي نوعا من الصراع للبقاء والغنى.. وبذلك يذهب سدى تذروه الرياح، ويضيع هباء جُل ما قدمته الأوطان من الخدمة العلمية والإعداد المادي والتربوي لهذه النماذج تصنعها على عينها لتجعل منها كوادر ونماذج تستطيع من خلالها تجميل وجه الوطن والارتقاء معها وبها للغد الأفضل.
إن هذا الفصل الواضح بين الإعداد العلمي ـ فى المراحل التعليمية ـ من ناحية، والتربوي والنفسي والفكري من ناحية أخرى لا يعاني من نتائجه المشوهة إلا المجتمعات والأوطان، خصوصا وأن التصنيف التلقائي للطبقات الاجتماعية يضع حملة المؤهلات العليا فى مصاف ـ أوعلى رأس ـ الذين يوجهون دفة السلوك الاجتماعي، وبالتالي يكون تأثيرهم على المستويات الأقل ذكاء منهم وهم لا يقلون عن 80% ، كما يكون جل التأثير أيضا على الأجيال الذين يضطلعون بتقديمها للمجتمع بعد ذلك بصورة مباشرة (من خلال الأسرة)، أو بصورة غير مباشرة من خلال الإشراف على العملية التعليمية والتوجيه المجتمعي.
التعاطى مع الأفكار والأخلاق الواردة:
إن صنع إنسان على درجة من التأصيل والتأهيل الثقافي من خلال منظومة القراءة والتقافة والعملية التعليمية التربوية يكوّن نوعا من (الحصانة النفسية والفكرية) ضد الأفكار الطارئة والواردة، ويحول مع الإعداد النفسي على قدر من الثبات والثقة، يحول دون الاستقطاب الفكري والذي يؤدى بدوره إلى التطرف العملي، وإن غرس الثقة الدينية والوطنية فى الناشئة وإعداد الجيل الذي يستطيع أن يقيم الأفكار المقتحمة عليه، فيميز من خلال ثقافته وتربيته الغث من السمين، والخبيث من الطيب، تضاهي أوهى أعظم وأنفع للمجتمع والوطن من تقديم أحدث التقنيات العلمية لجيل يقف على أرض مضطربة بنفس مزعزعة ما تلبث أن تقتحمها أفكارمنحرفة، أو جماعات متطرفة، أو فئات اجتماعية عابثة تحيد بها عن جادة الصواب، إذ لم تستنر بثقافتها وقيمها ولم يقدم لها من التوعية ما يحول بينها وبين ما يطرأ على ساحتها من الخبث، فيودي بها الى التهلكة، مع عدم إغفال والإقرار بقيمة ما تقدمه التقنيات والنظم الحديثة من الفائدة العلمية.  
إن المراحل التعليمية بمختلف مستوياتها، لهي المنبر الوقائي (الأول) لصنع جيل جديد مبدع منتج لا تهزه رياح الفكر المتطرف طالما أنه ربي على صحيح العلم والدين، وانتقى له من المصادر الأصيلة ما يجعله شديد الثقة بما لديه قوى النفس والاعتزازبأفكاره..
أما المنبر الثانى: فهو وسائل الإعلام المحيطة بنا إحاطة السوار بالمعصم، وقد فرضت نفسها على جوف بيوتنا وعلى أدق تفاصيل حياتنا، وقدمت لنا من الأفكار والنماذج البديلة ـ خصوصا للشباب ـ ما أحدث هذا الالتفات الذهني لأولادنا، ومع غياب القدوة والوعى أصبح ما تقدمه السينما والمسلسلات والتوك شو، هو فقط ما يصل إلى (البؤرة الذهنية) لأولادنا، ويسيطر عليها بصورة لا إرادية (اللمبي ـ الأسطورة ـ إبراهيم الأبيض .. والسبكي ، وذا فويس ـ ذافويس كيدز .. الخ )، وإذا كنا لا نستطيع الفكاك من هذا الغزو المنزلي الغاشم، ولا نستطيع إنقاذ أنفسنا ولا أبنائنا منه، ولا أن نغير من منهجيته فتقنن فى أطر إصلاحية مفيدة موجهة، لأبنائنا ومجتمعنا ووطننا، (وليس بخفي أننا نستطيع ذلك وقتما نريد، إذا كان فيما يخص الساسة والسياسة) ثم نظل بعد ذلك نندب حظنا فى أولادنا ونتحسر على ما أحاط بهم.
إعادة الصياغة:
إن إعادة صياغة المنظومة التعليمية تدريجيا (من خلال القراءة والثقافة) لا نحتاجها إلا على متسوى جيل واحد ثم تستطيع المنظومة بعد ذلك أن تدير نفسها بصورة ديناميكية، لا تحتاج معها إلا المتابعة والاهتمام التقليدي، على أن يفتح لها قنوات الإبداع الإنساني، وترفع عنها هذه النمطية الفجة من التعليم التقليدي، لتتكشف من خلالها الجوانب الإلهامية ـ لكل فيما هو ممكن فيه ـ وما تتجلى فيه نفحات النفخة المباركة لتظهر كوامن الإنسان الحقيقة كما أريد لها أن تظهر .. وليس كما نريد منها فقط من خلال المنهج التقليدى.
عندما سئل أينشتين عن عبقريته قال: لست عبقريا، ولكن فضولى، فالله يريد منا فقط أن نكون فضوليين حتى يمنحنا المعرفة، ولما سئل عبد الله بن عباس عن علمه قال: أعطيت لسانا سؤولا وقلبا عقولا.
أما عن منظومة الإعلام وإعادة توجيهها، فالحديث عنها أشبه ما يكون بالحرث فى الماء أوحرب طواحين الهواء، إنها تعنى التصدي لسيطرة رأس المال والإعلاميين وثلة المنتفعين من خلالهم، والدوائر الموجهة لهم من الداخل والخارج وهذا عمل يحتاج إلى جهد لا يمكن توفره الآن ولا الوقوف عليه ولو بشئ من التغيير أو الإصلاح، فمن الأولى التركيزعلى العنصر المتلقي لإعادة تشكيل وعيه من خلال الوسائل الأوليه ثم يكون له حرية الحكم بعد ذلك فيما يقدم إليه من المادة الإعلامية، فالمجتمع لا شك يصنع ثقافته ويفرض نمطيتها ولو بصورة غير مباشرة على القائمين عليها، وتلك هى خلاصة القضية:
هنالك يدري أن للعلم قصة            وأن كساد العلم آفته الجهل

 

تعليق عبر الفيس بوك