إدانة دي سلفا.. حكم عادل أم مكيدة سياسية؟! (2-2)

عبد النبي العكري

وعلى الصعيد الدولي تبؤات البرازيل موقعًا قياديًا في العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بفضل قدراتها الاقتصادية والعلمية وسياستها الخارجية الحصيفة والمبدئية في الدفاع عن مصالح وحقوق الشعوب النامية. وفي ذات الوقت الحرص على علاقات دولية متكافئة وحل النزاعات سلميًا والإسهام في مواجهة التحديات الكونية الكبرى مثل البيئة والسلام العلمي والغذاء والهجرة والفقر والتجارة العادلة والإرهاب وغيرها. أضحت البرازيل ضمن مجموعة الدول العشرين الكبرى وعضوا فاعلاً في المجتمع الدولي ومنه منظومة الأمم المتحدة وفي ظل هذه الإنجازات، وعندما حان وقت الترشح للانتخابات الرئاسية ورغم إلحاح حزب العمال وعشرات الملايين من البرازيليين وخصوص من أنصفهم، فقد رفض دي سيلفا الترشح لفترة ثالثة، رغم أنه كان بالإمكان في ظل الأغلبية التي يملكها حزبه وحلفاؤه تعديل الدستور البرازيلي ليسمح بذلك. وقد خاطب دي سيلفا الشعب البرازيلي بأنه جاء ليثبت قواعد الديمقراطية والعدالة وعدم احتكار السلطة ولذا فهو لن يترشح للرئاسة. وقد شاهده الملايين وهو ممسك بالحذاء تذكيرًا بكونه ماسح أحذية سابق وليس خجلا من تاريخه بل فخور به كما شوهد وهو يبكي تقديرا للحشود التي تطالبه بالترشح.

الذي حدث أنه رشح أقرب وزرائه إليه السيدة ديلما ريسيف وشريكته في مسيرته في النضال والحكم والمعتقلة السابقة في ظل حكم العسكر، لخوض معركة الرئاسة حيث فازت بالرئاسة في انتخابات بأغلبية ولكنها دون أغلبيه دي سيلفا. وقد حافظت ريسيف على نهج وسياسات دي سيلفا وبنت عليها وواصلت البرازيل تقدمها. وقد أهلتها تلك الإنجازات للترشح لولاية ثانية للرئاسة في أكتوبر 2013 حيث فازت ولكن بصعوبة واضطرت بسبب عدم حصول حزبها على أغلبية برلمانية للتحالف مع حزب الحركة الديمقراطية بزعامة ميشيل تامر (من أصل لبناني) وذي تاريخ مليء بالتقلبات والانتهازية والفساد، وتعيينه نائبا للرئيس وانتخاب عضو حزبه إدواردو كونها رئيسا لمجلس النواب، مما جعل الرئيسة رسيف وحزب العمال في وضع دقيق وعرضة للمخاطر كما تبين لاحقاً والصعود الخطر للطبقة السياسية القديمة وتغلغل نفوذها في أجهزة الدولة بما فيها القضاء.

 ومن تبعات تطور الأوضاع درماتيكيا هو تلفيق التهم للرئيسة ريسيف بالفساد وإساءة استخدام السلطة بتآمر من قبل نائبها ميشيل تامر مما أدى إلى إدانتها في مجلس الشيوخ وإزاحتها من الرئاسة وحلول نائبها ميشيل تامر في الرئاسة حتى تسنم الرئيس المنتخب الرئاسة في 1 يناير 2018.

محاكمة دي سيلفا وإدانته

جاءت التحقيقات في سجل الرئيسة السابقة ريسيف في إطار ماعرف بحملة التنظيف أي حمله مكافحة واستئصال الفساد ابتداءً من القمة نزولا إلى الأسفل، وهو ما أقره مجلسا النواب والشيوخ وأعطيت المحكمة العليا صلاحية التحقيق والمحاكمة لأصحاب المناصب السيادية الفيدرالية بمن فيهم الرئيس ونائبه ورؤساء كل من مجلسي النواب والشيوخ والوزراء الحاليين أو السابقين بعد إدانتهم من قبل مجلس النواب بأكثرية الثلثين. وقد تبع إدانتها وإزاحتها من منصب الرئاسة فتح ملف الرئيس الأسبق دي سيلفا.

من المفارقة أن نائب الرئيس السابق والقائم بأعمال الرئاسة ميشيل تامر متهم بحالات فساد واستغلال النفوذ وإساءة استخدام السلطة منذ أن أضحى نائبا في 1984 ثم قائدا لحزب الحركة الديمقراطية ثم نائباً للرئيسة ريسيف في 2011 وأخيرا رئيسا بالوكالة في 31 أغسطس 2016 وذلك باعترافات علنية لشركائه في هذه الجرائم .لكنه وبسبب ما تمتع به من نفوذ وكونه يملك كتلة كبيرة في مجلسي النواب والشيوخ وكون رئيس مجلس النواب ادواردو كونها من حزبه وموال له، فقد حيل دون إدانته في المجلسين. لكن هذا التواطؤ أدى بالمحكمة العليا إلى الحكم بعدم أهليته للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة وإبطال رئاسة حليفه ادواردو كونها كرئيس للبرلمان.

لكن هذه المؤسسات الفدرالية وتشمل النيابة العامة والقضاء المخترقة بنفوذ مراكز القوى هي من حقق وحاكم وأدان لويز دي سيلفا بتهمة الحصول على شقة كرشوة من قبل شركة إنشاءات جرى تلزيمها عقودا حكومية. وهكذا جرى الحكم على الرئيس الذي انتصر للفقراء والمهمشين وحجم دور التحالف الرأسمالي الاحتكاري للثروة والسلطة والذي انتقم لما لحق به على يد ممثل الإرادة الشعبية.

بالطبع فإن الاحتجاجات التي تجتاح مدن البرازيل منذ صدور الحكم على دي سيلفا تبرز الجانب السياسي في الموضوع وكونه أحد تجليات الصراع بين القوى المسيطرة والقوى الشعبية المدافعة عن مكتسباتها في ظل حكم حزب العمال والرئيسين دي سيلفا وريسيف .

لا يمكننا الطعن في نزاهة القضاء البرازيلي ولكن الانتقائية في استهداف دي سيلفا وريسيف وقيادات حزب العمل واليساريين والنقابات مؤشر خطير ولن تستقيم العدالة إلا بتطبيق القانون على الجميع.

وبالنسبة لقيادة البلاد سياسياً فإن إزاحة دي سيلفا من السباق الرئاسي وهو الأوفر حظا بالفوز بها حرم حزب العمال واليسار والكادحين من مرشحهم القوي. لكن معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي ستجري في أكتوبر القادم ستكون حامية واختبارا لمختلف القوى السياسية وخيارات شعب البرازيل.