أيّها الراحل في الليل وحيدًا

محمد علي العوض

أيها الراحلُ في الليل وحيدا

ضائعًا منفردا

أمسِ زارتني بواكيرُ الخريفْ

غسَلتني بالثلوجْ

وبإشراقِ المروجْ

 

***

أيّها الراحلُ في الليل وحيدا

ضائعًا منفردا

حين زارتني بواكيرُ الخريفْ

كان صيفي جامدا

وجبيني باردا

وسكوتي رابضًا

فوق البيوت الخشبيّة

مُخفيًا حَيْرتَه في الشجرِ

وغروبِ الأنهرِ

وانحسار البَصَرِ

لوَّحتْ لي ساعةً حين انصرفنا

ثم عادت لي بواكيرُ الخريفْ

حين عادتْ

وثب الريحُ على أشرعتي المنفعلة

سطعتْ شمسُ الفراديسِ على أرْوِقتي المنعزلة

ومضتْ تحضنني الشمسُ النديّة

والتي ما حضنتني

التي ما عانقتني

في الزمان الأولِ

في الزمانِ الغائبِ المرتحلِ

***

انتظرْني

فأنا أرحَل في الليل وحيدا

موغِلاً منفردا

في الدهاليزِ القصيّاتِ انتظرني

انتظرني في حفيفِ الأجنحة

وسماواتِ الطيور النازحة

وقتَ تنهدُّ المداراتُ

وتسودُّ سماءُ البارحة

انتظرني.. انتظرني

 

ربما لن تسعفنا اشتقاقات اللغة في أن نجد أوصافًا لأشعار عبد الرحيم أبو ذكرى أعمق مما قاله الأديب السوداني بشرى الفاضل بأنّها أغنيات لكوكب الأرض، حينما وصف شعره بالفضائي الذي تتخلله الصور الكونيّة بأجرامها الواقعيّة والمتخيلة.

لقد ظل أبو ذكرى كما أشار كمال الجزولي في كتابته التذكارية "أبوذكرى.. نهاية العالم خلف النافذة" مشدوداً دائماً، وبقوة روحيّة هائلة إلى الأعالي بكل ما فيها، وما يحيط بها من مفردات ومعانٍ، إلى السماوات والكواكب والفضاءات اللامحدودة التي كانت تشكل لديه المعادل الموضوعي "للانعتاق" أو حلم "الوجود المغاير" الذي عاش يتحرّق توقاً إليه..

ويكاد يكون فعل الرحيل نحو الفراغ الكوني والعوالم السرمدية ثيمة متكررة وجزءاً من النسيج العضوي في كثير من قصائده بما فيها من معادل موضوعي يشي بالنزوح والسفر إلى فضاءات تأملية جديدة..

ففي قصيدة (المجذوب أخذ زهور حياته ورحل) يحن أبو ذكرى بعد أن يسدل الليل على النفس أستاره إلى مجذوبه، ويرحل إلى عالم البرزخ بحثًا عنه.. كأنّ العيش بعدهم حرام:

أمس بعد المغيب

سرت أبغي الدروب القصية

أترحل في عالم الميتين الرهيب

وفي قصيدة (ليس عن الحب) يرحل وحبيبته عبر مسارب الحزن ليهبطا فوق النيازك القديمة وليغشيا النجوم البعيدة ويرحلان:

ثم نرحل بين الحزون ونهبط فوق النيازك

فتحاصرنا النار تحت التخوم القديمة

ولخصت قصيدة "الرحيل في الليل" التي اختارها أبو ذكرى عنوانًا لديوانه سمات الروح الشعرية السائدة في بقية الديوان بما فيها من نزوع للانفلات من عالم الواقع المحبط إلى مثالية يحن إليها دومًا.. ويقول عنها مصطفى سيد أحمد في حواره الذي أجراه معه د. بشرى الفاضل حول تلحينه وأدائه لها: " إنّ الإحساس الموجود في القصيدة، بعد اطلاعي على الديوان، كأنّما هو خيط منظومة عليه كل القصائد الموجودة في الديوان. كل البيئة النفسية الموجودة في الديوان مكثفة في هذه القصيدة بالتحديد. الشيء الآخر أحسست أنّها تعكس ملامح الغربة، غربة الأديب السوداني وبالتحديد أبو ذكرى بكل ما مرّ به في تجربته، والتي انتهت النهاية المعروفة، والتي اعتقد أنّها كانت شكل احتجاج لكل الإحباطات الحاصلة" – انتهى.

فالعنوان في حذ ذاته يحيلنا إلى اكتشاف النزعة الذاتية و أوان الرحيل وقد اختار الشاعر مفردة الليل التي تشي بكل دلالتها ومن خلال السياق البنائي للعنوان بالستر والخوف والاستضعاف والنفس المنكسرة التي تتوق للرحيل ليلا كي ما تحرر من القيود الاجتماعيّة التي دفعته للبحث عن مراغم جديدة والنزوح إلى عوالم أخرى ملؤها السكينة والمثالية، ويستهل أبوذكرى القصيدة بنداء (أيّها الراحل في الليل وحيداً) وللنداء جمالية بلاغية تأتي في دلالة السياق العام للجملة فهو أولا يدل على الطلب والحوجة ويعمل على استمالة المنادى وبث الاطمئنان في نفسه..

وقد حذفت أداة النداء "ياء" ومع أنّ الياء تستخدم لنداءِ البعيد إلا أنّ البعيد قد يُنزل منزلة القريب أحيانا، حيث يأتي حذف الياء دلالة على القرب، كما في حذف أداة النداء الياء مع كلمة "ربّ" بمواضع عدة في القرآن الكريم، إذ يرى البعض أنّ سر الحذف فيه للمبالغة في تصوير قُرب المنادَى "ربّ" والكلمة تعني المُربي أو السيّد والمالك؛ وهو بهذه المعاني من شأنه أن يكون قريباً حاضراً لا يحتاج في ندائه إلى وسائط..

أيها الراحل في الليل وحيدًا

ضائعا منفردا..

أمس زارتني بواكير الخريف

غسلتني بالثلوج وبإشراق المروج

يزخر نص أبو ذكرى بكم من الحقول الدلاليّة منها ما يدل على الوحدة الموحشة والضياع: (وحيدا ضائعًا منفردا) (أروقتي المنعزلة) (وحيدًا موغلا منفردا).. ومنها ما يتعلق

بالزمان وتغيراته المتنقلة غائب وحاضر.. صيف وشتاء، ربيع تخضر فيه المروج وخريف تتساقط فيه الأمطار، غروب وإشراق شمس ندية:

 

حين زارتني بواكير الخريف كان صيفي جامدًا

وجبيني باردا، وسكوتي رابضا خلف البيوت الخشبية

مخفيا حيرته في الشجر وغروب الأنهر وانحسار البصر

لوحت لي ساعة حين انصرفنا

كما استجاب النص في معجمه الدلالي لنداءات الطبيعة والتوق للفكاك من العالم الأرضي إلى العالم السماوي (بواكير الخريف.. إشراق.. وغروب الأنهر.. الريح.. الشمس النديّة.. العتامير.. البحر.. المدارات.. الفراديس):

ثم عادت لي بواكير الخريف

حين عادت وثب الريح على أشرعتي المنفعلة

سطعت شمس الفراديس على أروقتي المنعزلة

ومضت تحضنني الشمس الندية التي ما حضنتني في الزمان الأول

في الزمان الغائب المرتحل

 

وثمة حقول دلالية أخرى تدل على التعارض التضميني والتضاد كما في مفردتي (العتامير/ البحر) فالعتامير هي الصحارى ومنها صحراء العتمور في شمال السودان، ومفردة الصحراء تدل على القحط والجدب وانعدام الحياة وهي ضد البحر باخضراره والمياه المتدفقة منه والدال على الحياة والخصوبة والآفاق الواسعة خلف خط الأفق وما وراءه من عوالم جديدة. أيضا التعارض نجده في عبارة (صيفي جامدًا) ومعروف أنّ التجمد صفة للثلج وهذا يتناقض مع فصل الصيف بحرارته اللاهبة:

في الدهاليز القصيات انتظرني

في العتامير وفي البحر انتظرني

تتصاعد أنفاس النص لاهثة، تنزع نحو الطيران رويدًا رويدا، فهو يخاطب الراحل بأن ينتظره في حفيف الأجنحة ثم يتصاعد ليرافق الطيور في هجرتها الموسميّة لمراتع خصبة ثم تتصاعد أكثر فأكثر حتى يصل التطلّع إلى التوّق للمدارات والكواكب:

انتظرني في حفيف الأجنحة

وسماوات الطيور النازحة

وقت تنهد المدارات

وتسوَد سماء البارحة

وإن كانت القصيدة تندرج ضمن خطاب الشعر الحر بخصائصه المعروفة من توظيف للغة الإيحائية المشبعة بالدلالات العميقة التي تبتعد عن التوظيف التقريري إلا أنّ التركيب الشعري عند أبي ذكرى ليس عصيًا على الشعور به واستكناه معانيه فاللغة عنده شارحة تتلمسها بحواف قلبك وذاتك، تعطيك حق التنقل التفسيري بين حقولها الدلالية وقاموسه الشعري بما حواه من لغة الزمان والفضاء والتوق للانعتاق من الأسى؛ فهو كما قال عن نفسه ذات يوم:(من يقرأ شعري لا يحتاج إلى عالم في الفلسفة أو الأدب أو التاريخ أو السيكولوجي لكنّه يجب أن يمتلك مناخاً معيناً وحساسية تجاه الكلمات وثقافة ووعياً مناسبين وبعض الخيال.. فالقارئ يعد مشاعره أثناء قراءة القصيد وحيث ينتهي منها يكون قد تغير قليلاً ولو بنسبة واحد إلى المليون ليس هذا ادعاء؛ إنّه شيء يحدث خفيّة ولهذا قد لا يلاحظه القارئ نفسه).

mohamed102008@windowslive.com

تعليق عبر الفيس بوك