صور المكان في شعر التّونسي عبد الكريم الخالقي (2)


أمين دراوشة: ناقد وشاعر فلسطيني – رام الله


فكلّ شيء يصبح مرّا بغيّاب الشّعر (لذّة الحياة) "لاَ شَيْءَ يَحْلُو فِي غِيَّابِ الشِّعْرِ"
ومن الأمكنة المهمّة الّتي ذكرت بالدّيوان الشّارع، فالشّارع "صحراء المدنية، وجزؤها الزّمني، وحياتها الدّائبة المتحرّكة، ولولب بعدها الحضاريّ، لامتداد طاقة على مدّ الخيال، ولانعطافاته تحوّلات في الزّمان والمكان...لذا فعدم استقراره هو استقرار آخر، هو التّكوين الّذي بدونه لا يصبح للشّارع معنى". (10(
يهدي الشّاعر قصيدته "أسبوعيّة الخبز" لثوّار ما بعد 14 كانون الثّاني فيقول:
"جدار الصّمت قد كسر..
وصاح الشّعب لن أقهر..
فإما الخبز والعدل..
وإما النّار والخنجر..
ومن أندر فقد أعذر..
**********
نزول الشّعب للشّارع..
ليعلن أنّه جائع..
ونادى حقّيّ ضائع..
وصوت الحق لا يقهر..".
فالشّارع هنا هو مركز ثورة الفقراء ضدّ توغّل السّلطة في الظّلم والقهر، والشّعب بجميع فئاته قد نزل إلى الشّوارع ليحقّق مبتغاه في حياة كريمة، فأخذ الشّارع رمز تجمُّع الجماهير للتّمرد على السّلطة، وتحقيق العدالة.
ينتقل بنا الشّاعر في قصائده ليحدّثنا عمّا جرى للأمّة العربيّة في ذلّ وهوان، فيقول في قصيدة "يا أمّتي الموجوعة..":
"وجايع الامّه
يا دمنا الوديان
حكّامنا خذلونا
وخلّو الوطن يتهان
ترابنا وداسوه
وجناحنا وكسروه
بسياسة الخذلان...".
يُحمّل الشّاعر الحكّام العرب مسؤولية ما جرى ويجري في وطننا العربيّ لأنّهم لم يكونوا في مستوى التّحديّات الّتي فرضها الأعداء عليهم، فعمّت الظّلمة على أوطانا، وانتشر الغدر والخيّانة، فالعراق سرقه الأمريكان، وسوريا الأبيّة عمّها الخراب وتونس التّاريخ عشعشت فيها الغربان وليبيا المختار أمتلأت بالنّفاق، أمّا فلسطين فهي جرح نازف لا يلتئم، يقول:
"فلسطين نور عيوني
يا جنّة العشّاق
كيف يقدرو ..ينسوك
كيف قسموا الارزاق...
وأنت نصيبك دم".
فلسطين مستباحة، يقتل شعبها ويشرّد والعرب غافلون عن المؤامرات الّتي تحاك ضدّهم، وتبقى القدس النّور المقدّس الّذي لا يستطيع عربيّ أن ينساه:
"ياقدس ليك سلامي
ياقبلة الأشواق
نفديك..".
فظهرت البلدان العربية مجروحة تنزف، كئيبة دون أمل، إلّا أنّ القدس المقدّسة تحثّ المواطنين العرب على التّحرك، والقيّام بالفعل الصّائب وهو الثّورة. وفي تناص مع الشّاعر أمل دنقل، يقول الخالقي:
"كأبيك..
ستكون قمحيّ الملامح..
كأبيك..
تحفظ اللاّءات عهدا
لا اعتراف
لا تفاوض
لا تصالح
كأبيك..
ستجيء في ليل الرّبيع..
تحمل ورد الحروف..
وستمشي في المسالك..
غير عابيء بالمهالك..".
فلا حلّ لكوارث العرب إلاّ بالتّمرّد والانقلاب على الوضع الرّاهن المحزن والمفجع.
إنّ المدنية هي رمز الحضارة، وهي البيئة الّتي تعيش فيها الثّقافات وتتفتّح وتزهر، وتمنح صورة شاملة للمجتمع وما يؤمن به من قيّم وأخلاقيّات. وحتّى التّاريخ كما يقول أندريه نوشي "ما زال يكتب بالمدن". (11(
ونجد عند قراءة الدّيوان أماكن مقدّسة تتجاذب مع التّاريخ الإسلاميّ والمسيحيّ الحنين والذّاكرة، فالشّاعر يلجأ إلى مريم المقدّسة ليناديها، ويناجيها ويطلب منها العون، يقول في قصيدة "مريم":
"يا مريم...
الشّهداء بقامات النّخل في حيفا...
فشدّي بدم الشّهداء وارتفعي...
ارتفعي... فوجه حيفا سماء...".
يا مريم...
أسري الى القدس تزفّ الورد للقبّه...
تغنّي للصّباحات الجديده...
يا مريم...
الزّيتونة المطلّة على أنفاس القدس...
تثمر زيتونا ..و...كرامه...
فشدّي...
يد بالزّيتونة...المترعه...
والأخرى بدم الشّهيد...
وخلّي برتقال حيفا ...على رأس الفجر...".
هنا تحدث الشّاعر عن المدنية واقعا ورمزا وحلما، وتحضر المقدّسات المكانيّة في الدّيوان بدلالات عميقة تتجاوز ما سبق توظيفه، فالصّحابي بلال مؤذن الرّسول الأعظم يؤذّن في كنيسة القيّامة في تلاحم التّاريخ المشترك للمسيحيّة والإسلام، ويدعو الشّاعر إلى الوحدة والفعل الإيجابي، وكأنّه يردّد خلف بلال الآذان: "حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح"، يقول:
"يا مريم...
هذي الكنائس...
تهدي نواقيسها للمساجد...
وبلال...
يؤذّن في كنيسة القيّامة...
فارقصي ... واعرجي ...
الى الشّام...
وأنيخي الشّوق قليلا على قاسيّون...
وأنشدي بعض قدود الرّوح في حلب...
واستريحي بالمسجد الأمويّ...
يا مريم...
انطلقي... الآن...
قبِّلي السيّاب في البصره...
واغتسلي...
ماء الرافدين... زلالْ...
وصبا العراق .....حياةْ".
فالأوضاع الّتي ترزح تحتها المدن والبلاد العربيّة قاسيّة، وبحاجة إلى يد مقدّسة تربّت عليها، ويناشد مريم المقدّسة أن تسريَ سريعا إلى القدس لعلّها تعيد بستمها المفقودة، ولا يكتفي الشّاعر بذلك بل يرجوها أن تعرج إلى الشّام الجريحة تنثر بركاتها في حلب وقاسيون النّازف، وإذا تعبت ها هو المسجد الأمويّ يرحّب بها لتستكين وترتاح، قبل الانطلاق إلى البصرة وبلاد الرّافدين لتعيد لدجلة والفرات مياهها النقيّة الصّافيّة، كي يعود العراق أكثر قوّة وحيويّة وشبابا.
إنّ المكان بالنّسبة إلى الشّاعر جزء من الهويّة باعتباره انتماء للأرض ومراجعة لذاكرة الوطن الكبير، هذه العلاقة الّتي تظهر بسيطة هي" الّتي يقوم عليها إنتاج المكان شعريّا وفق تصوّرات سياسيّة وتاريخيّة وفلسفيّة تمتد من خيال الصّورة وآفاقها الدّلالية إلى وقع المكان في الذّات بارتباطاته النّفسية والاجتماعيّة والثّقافيّة"، (12) هذا الارتباط بالمكان والتّعلّق بذاكرته يستحضره الشّاعر في ثنايا ديوانه بكثافة. فهويّة المكان "هي هويّة الذّات عند اصطدامها بالعالم الخارجيّ الّذي يعاد تركيبه حسب ما يمليه الخيال من أشياء وعناصر تحمل صورة الذّات في المكان وتستمد أبعاده من ضغط الواقع، ومن طبيعة إدراك الأشياء نفسيّا، وتوق الذّات إلى ممارسة حرّيّتها في المكان شعريّا". (13) فالشّعر الحقيقيّ يعيد تركيز الإضاءة على صور اختفت أو كادت أن تمّحى.
إنّ صور المكان المختلفة وذات المرجعيّات الدّينيّة أو التّاريخيّة أو الجغرافيّة، تشكّل بعدا هامّا في تثبيت الهويّة والانتماء إلى الذّاكرة الجماعيّة للوطن.
ورأينا الشّاعر بحديثه عن المكان وذاكرته يتداخل لديه المرئيّ والمتخيّل، الفيزيائيّ والمجرّد، حيث شكّل صوره من تداخل العناصر كالطّبيعة، والمدينة، والبحر، والبرتقال، والحلم...
عبر هذه الرّحلة الشّعريّة في أمكنة معتّقة البوح ومثخنة بجراح الذّاكرة، ومتعمّقة في الذّات الإنسانيّة نكتشف أنّ الشّاعر، وظّف المكان بوصفه مكوّنا شعريّا محوريّا في بناء القصيدة الحداثيّة.
وأُنهي هذه الدّراسة بمقطوعة قصيرة عنوانها "أيّها القمر..لا تذهب.." تعبّر عن إرادة الشّاعر، وقدرته على التّغلب على الصّعاب، تقول:
"أيّها القمر
هات شرابك وانسحب
لك الآن..
أن تغادر..
لم أعد أخاف.. الموت".
إنّ القصائد تشعل نارا من الأسئلة، وتصراع النّقيض، وتوحي بمغامرة الشّاعر الّذي لا يكفّ عن استنهاض الأمل، يده المرتعشة تكتب وهي تنزّ ألماَ.
يمتلك الشّاعر أسلوبه المميّز، و " قدرة الأسلوب تكمن في جاذبيّته وهو لا يني يقتحم منطقة خافية، يستدعي عالما لم يُتآلف معه من قبل، إنّه المتعدّد لحظة اعتباره واحدا!". (14(
ويستمر الشّاعر عبد الكريم الخالقي في مشروعة الشّعريّ باقتدار، وينطبق عليه قول الشّاعر محمد بنيس: "هي الكتابة سفر معزول في الغيّاب". (15) فالشّعر الرشيق له جناحان، و" الشّعر تجربة حيّة ،عشق الحياة وعيشها في الشّعر، أعطيا للكتابة وضعيّة شعر مغامرة". (16(
فالشّعر يهبنا الحرّيّة، وعلى الشّاعر أن يكون حرّا ويضجّ بالحيويّة والفاعليّة لينجح في نقل مشاعره وعواطفه إلى المتلقّي. ولقد أفلح الشّاعر في أخذنا إلى عوالم ملونة وبكر، وغمرت آلامه وأحزانه وانكساراته وأحلامه نفوسنا، وسرى في قلوبنا توقه إلى فضاء الحرّيّة الفسيح، بإرادة لا تعرف الكلل.


الهوامش
-1   جاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة الروائي غالب هلسه، بغداد: دار الجاحظ للنشر والتوزيع ووزارة الإعلام، 1980. ص6.
2- أسماء شاهين. جماليّات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا.عمان: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر. ط1. 2001. ص 17.
3- المرجع السابق. ص 17.
4-  رمضان بسطاويسي محمد. ثقافة المكان: الصمت والألم. قراءة نصية في نماذج قصصية من الامارات. الشارقة: منشورات دائرة الثقافة والاعلام. ط1. 1996. ص 129.
5- المرجع السابق. ص 129.
6-  عبد الحق بلعابد. عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص). الجزائر: منشورات الاختلاف. ط1. 2008. ص43 و50.
7- عبد الكريم الخالقي. ديوان "للحبّ ألوان أخرى...". تونس: منشورات دار المبدعين للنشر والتوزيع.
8- جاستون باشلار. مرجع سابق. ص 7.
9- أسماء شاهين. مرجع سابق. ص 118.
10-  ياسين النصير. الرواية والمكان. دمشق: منشورات دار نينوى للنشر والتوزيع. ط2. 2010. ص 110.
11- أندريه نوشي، وآخرون. "المدنية في شعر زماننا". في: الإنسان والمدنية في العالم المعاصر. ترجمة كمال خوري. دمشق: منشورات وزارة القفافة. ط1. 1977م. ص 5.
12- جمال مجناح. دلالات المكان في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد 1970.رسالة دكتوراة. الجزائر/ باتنة. جامعة الحاج لخضر. اشراف الدكتور العربي دحو، السنة الجامعية 2007-2008. ص 67.
13- المرجع السابق. ص 68.
14- جاك دريدا. المهماز. ترجمة عزيز توما، وإبراهيم محمود. اللاذقية- سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع. ط1. 2010. ص 13.
15- محمد بنيس. كتابة المحو. الدار البيضاء: منشورات دار توبقال للنشر. ط1. 1994م. ص 33.
16- المرجع السابق. ص 32.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك