إدانة الرئيس البرازيلي الأسبق دي سلفا حكم عادل أم مكيدة سياسية؟

 

عبد النبي العكري

 سلم الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيناسيو لولا دي سيلفا، نفسه للشرطة، مساء السبت 7 أبريل 2018، وترك مقر نقابة عمال الصلب في مدينة ساو باولو التي لجأ إليها في تحد لمهلة لتسليم نفسه.

ونقلت السلطات الرئيس البرازيلي الأسبق، بالطائرة إلى مدينة كوريتيبا، حيث سيتم سجنه هناك، بالرغم من الاعتراضات الشعبية المتصاعدة على اعتقاله وتم نقل دي سيلفا من المطار بالمروحية إلى مبنى الشرطة الفيدرالية بمدينة كوريتيبا، حيث تم إعداد زنزانة مؤقتة له..

وتجمع حشد من الناس بالقرب من مقر الشرطة للاحتجاج على اعتقال الرئيس الأسبق المتحدر من صفوف العمال والكادحين، لكن الشرطة شبه العسكرية استخدمت قاذفات القنابل الخفيفة والرصاص المطاطي لتشتيتهم وفي خطاب ناري أمام حشد من المؤيدين الذين ارتدوا قمصانا حمراء خارج مقر نقابة عمال الصلب أصر لولا، وهو أول رئيس برازيلي يساري، على براءته ووصف إدانته بالرشوة بأنها جريمة سياسية، لكنه وافق على تسليم نفسه للسلطات بعد نحو 24 ساعة من رفضه ذلك..

وكانت المحكمة العليا في البرازيل قد صوتت، يوم الأربعاء الماضي، لصالح سجن الرئيس الأسبق الذي يملك أفضل الحظوظ للفوز في الانتخابات الرئاسية المقررة في البلاد في الخريف القادم.

وأثارت القضية انقسامًا حادا في البلاد وخيمت على الإعداد للانتخابات الرئاسية المقررة العام الجاري وأحدثت أيضاً بلبلة في الجيش.

ماذا يمثل دي سيلفا للشعب البرازيلي؟

يعتبر الرئيس البرازيلي الأسبق لويز دي سيلفا رئيسا استثنائيا في تاريخ البرازيل الحديث بحيث يقال"ماقبل رئاسة دي سيلفا ومابعد رئاسة دي سيلفا".ولد الرئيس لويز دي سيلفا في 1945 في أسرة معدمة في حي الصفيح بمدينة ساو باولو. لكنه تحدى الصعاب وعمل ماسح أحذية حتى يتمكن من إعالة عائلته ومواصلة تعليمه حتى تخرج في الجامعة. وعمل دي سلفا كإداري في نقابة عمال المعادن أولاً ثم تدرج في الحركة النقابية إلى أن أضحى الأمين العام لاتحاد نقابات عمال البرازيل. واستنادا إلى الطبقة البرازيلية العاملة ونضالاتهم المشهودة، ومن موقعه المؤثر على جموع العمال فقد دعا لتأسيس حزب العمال البرازيلي الذي يحمل برنامج الإصلاح والعدالة وإنصاف العمال والفئات الضعيفة ومحاربة الفقر والتمييز العرقي والطبقي

ويجب التذكير بأن البرازيل خضعت لحكم العسكر إثر انقلاب عسكري في 1964وحكم العسكر لسنوات. وطوال عقود تناوب على حكم البرازيل ممثلو الطبقة الرأسمالية الكبيرة وكان الرؤساء في العادة من كبار رجال الأعمال، ولذا تميزت البرازيل بفئة واسعة من الفقراء وفئة قليلة من كبار الأثرياء. وكذلك انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية مما جعل الحياة السياسية تتسم بالفساد.

وفي نقطة تحول جذرية في تاريخ البرازيل ومؤسسة الحكم استطاع دي سيلفا أن يقود حزب العمال البرازيلي إلى النصر في انتخابات أكتوبر2003 كأول حزب غير تقليدي وانتخب دي سيلفا، ماسح الأحذيه سابقاً، رئيسا للبرازيل، كأول رئيس من خارج الطبقة السياسية السائدة.

وقد قاد الرئيس دي سيلفا وحزب العمال البرازيلي عملية نهوض وإصلاح وتقدم شامل للبرازيل في مختلف المجالات وعلى مختلف الصعد وحقق نتائج مبهرة بحيث جرى إعاده انتخابه في عام 2007 بأكثرية ساحقة. كما فاز حزب العمال البرازيلي بالمرتبة الأولى في الانتخابات لمجلسي النواب والشيوخ.

خلال ثمان سنوات من حكم الرئيس دي سيلفا وحزبه نهضت البرازيل لتتحول إلى عملاق اقتصادي ولتنضم لمجموعة الدول العشرين الكبرى وتحقق نموا اقتصاديا مبهرا وتحديثا لاقتصادها باعتماد متزايد على التكنولوجيا والمعرفة. وترافق ذلك مع إصدار تشريعات وتنفيذ إصلاحات في قطاعات الاقتصاد والضرائب والتعليم والصحة وأجهزة الدولة والبنية القانونية والحقوقية وغيرها. وبفضل الازدهار الاقتصادي والإصلاحات جرى إخراج عشرات الملايين وخصوصا الملونين من مستنقع الفقر وانتقال الملايين من مدن الصفيح إلى مجمعات سكنية مدعومة من الدولة وتحسن أوضاع ذوي الدخل المحدود وتوسع الطبقة الوسطى وارتفاع مستوى المعيشة لعموم أبناء الشعب. كما تحقق توزيع أكثر عدلا للأعباء الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي ومكافحة الفساد والكسب غير المشروع، مما أسهم في رفع كفاءة الاقتصاد والإنتاج وتوفير مداخيل هائلة للدولة مما مكنها من الإنفاق على البرامج الاجتماعية والاستثمار في المشاريع وخصوصا البنية الأساسية.

وفي موازاة النجاحات على المستوى الوطني، فقد نهضت البرازيل بقيادة أمريكا اللاتينية لتشكل كتلة اقتصادية وقوة سياسية كبرى بفضل تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والتنموية والسياسية فيما بينها وحل الكثير من الخلافات في إطار أمريكا اللاتينية. ومما ساعد على ذلك التحول الديمقراطي في معظم وأهم دول أمريكا اللاتينية بل ووصول اليسار إلى السلطة في أهم بلدانها مثل الأرجنتين وتشيلي وفنزويلا وغيرها. وانعكس ذلك إيجابيا في العلاقات داخل منظمة دول أمريكا بقارتيها الشمالية والجنوبية.

وعلى الصعيد الدولي تبؤات البرازيل موقعًا قياديًا في العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بفضل قدراتها الاقتصادية والعلمية وسياستها الخارجية الحصيفة والمبدئية في الدفاع عن مصالح وحقوق الشعوب النامية. وفي ذات الوقت الحرص على علاقات دولية متكافئة وحل النزاعات سلميًا والإسهام في مواجهة التحديات الكونية الكبرى مثل البيئة والسلام العلمي والغذاء والهجرة والفقر والتجارة العادلة والإرهاب وغيرها. أضحت البرازيل ضمن مجموعة الدول العشرين الكبرى وعضوا فاعلاً في المجتمع الدولي ومنه منظومة الأمم المتحدة وفي ظل هذه الإنجازات، وعندما حان وقت الترشح للانتخابات الرئاسية ورغم إلحاح حزب العمال وعشرات الملايين من البرازيليين وخصوص من أنصفهم، فقد رفض دي سيلفا الترشح لفترة ثالثة، رغم أنه كان بالإمكان في ظل الأغلبية التي يملكها حزبه وحلفاؤه تعديل الدستور البرازيلي ليسمح بذلك. وقد خاطب دي سيلفا الشعب البرازيلي بأنه جاء ليثبت قواعد الديمقراطية والعدالة وعدم احتكار السلطة ولذا فهو لن يترشح للرئاسة. وقد شاهده الملايين وهو ممسك بالحذاء تذكيرًا بكونه ماسح أحذية سابق وليس خجلا من تاريخه بل فخور به كما شوهد وهو يبكي تقديرا للحشود التي تطالبه بالترشح.

الذي حدث أنه رشح أقرب وزرائه إليه السيدة ديلما ريسيف وشريكته في مسيرته في النضال والحكم والمعتقلة السابقة في ظل حكم العسكر، لخوض معركة الرئاسة حيث فازت بالرئاسة في انتخابات بأغلبية ولكنها دون أغلبيه دي سيلفا. وقد حافظت ريسيف على نهج وسياسات دي سيلفا وبنت عليها وواصلت البرازيل تقدمها. وقد أهلتها تلك الإنجازات للترشح لولاية ثانية للرئاسة في أكتوبر 2013 حيث فازت ولكن بصعوبة واضطرت بسبب عدم حصول حزبها على أغلبية برلمانية للتحالف مع حزب الحركة الديمقراطية بزعامة ميشيل تامر (من أصل لبناني) وذي تاريخ مليء بالتقلبات والانتهازية والفساد، وتعيينه نائبا للرئيس وانتخاب عضو حزبه إدواردو كونها رئيسا لمجلس النواب، مما جعل الرئيسة رسيف وحزب العمال في وضع دقيق وعرضة للمخاطر كما تبين لاحقاً والصعود الخطر للطبقة السياسية القديمة وتغلغل نفوذها في أجهزة الدولة بما فيها القضاء.

 ومن تبعات تطور الأوضاع درماتيكيا هو تلفيق التهم للرئيسة ريسيف بالفساد وإساءة استخدام السلطة بتآمر من قبل نائبها ميشيل تامر مما أدى إلى إدانتها في مجلس الشيوخ وإزاحتها من الرئاسة وحلول نائبها ميشيل تامر في الرئاسة حتى تسنم الرئيس المنتخب الرئاسة في 1 يناير 2018.

محاكمة دي سيلفا وإدانته

جاءت التحقيقات في سجل الرئيسة السابقة ريسيف في إطار ماعرف بحملة التنظيف أي حمله مكافحة واستئصال الفساد ابتداءً من القمة نزولا إلى الأسفل، وهو ما أقره مجلسا النواب والشيوخ وأعطيت المحكمة العليا صلاحية التحقيق والمحاكمة لأصحاب المناصب السيادية الفيدرالية بمن فيهم الرئيس ونائبه ورؤساء كل من مجلسي النواب والشيوخ والوزراء الحاليين أو السابقين بعد إدانتهم من قبل مجلس النواب بأكثرية الثلثين. وقد تبع إدانتها وإزاحتها من منصب الرئاسة فتح ملف الرئيس الأسبق دي سيلفا.

من المفارقة أن نائب الرئيس السابق والقائم بأعمال الرئاسة ميشيل تامر متهم بحالات فساد واستغلال النفوذ وإساءة استخدام السلطة منذ أن أضحى نائبا في 1984 ثم قائدا لحزب الحركة الديمقراطية ثم نائباً للرئيسة ريسيف في 2011 وأخيرا رئيسا بالوكالة في 31 أغسطس 2016 وذلك باعترافات علنية لشركائه في هذه الجرائم .لكنه وبسبب ما تمتع به من نفوذ وكونه يملك كتلة كبيرة في مجلسي النواب والشيوخ وكون رئيس مجلس النواب ادواردو كونها من حزبه وموال له، فقد حيل دون إدانته في المجلسين. لكن هذا التواطؤ أدى بالمحكمة العليا إلى الحكم بعدم أهليته للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة وإبطال رئاسة حليفه ادواردو كونها كرئيس للبرلمان.

لكن هذه المؤسسات الفدرالية وتشمل النيابة العامة والقضاء المخترقة بنفوذ مراكز القوى هي من حقق وحاكم وأدان لويز دي سيلفا بتهمة الحصول على شقة كرشوة من قبل شركة إنشاءات جرى تلزيمها عقودا حكومية. وهكذا جرى الحكم على الرئيس الذي انتصر للفقراء والمهمشين وحجم دور التحالف الرأسمالي الاحتكاري للثروة والسلطة والذي انتقم لما لحق به على يد ممثل الإرادة الشعبية.

بالطبع فإن الاحتجاجات التي تجتاح مدن البرازيل منذ صدور الحكم على دي سيلفا تبرز الجانب السياسي في الموضوع وكونه أحد تجليات الصراع بين القوى المسيطرة والقوى الشعبية المدافعة عن مكتسباتها في ظل حكم حزب العمال والرئيسين دي سيلفا وريسيف .

لا يمكننا الطعن في نزاهة القضاء البرازيلي ولكن الانتقائية في استهداف دي سيلفا وريسيف وقيادات حزب العمل واليساريين والنقابات مؤشر خطير ولن تستقيم العدالة إلا بتطبيق القانون على الجميع.

وبالنسبة لقيادة البلاد سياسياً فإن إزاحة دي سيلفا من السباق الرئاسي وهو الأوفر حظا بالفوز بها حرم حزب العمال واليسار والكادحين من مرشحهم القوي. لكن معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي ستجري في أكتوبر القادم ستكون حامية واختبارا لمختلف القوى السياسية وخيارات شعب البرازيل.