أيام المدرسة السعيدية (1- 3)

 

علي بن سالم كفيتان

السعيدية اسم له مدلولاته الغائرة في جبين الزمن فهو مرتبط بالأسرة الكريمة التي حكمت عُمان وأخذت على عاتقها المسؤوليات الجسام لحماية الوطن من كل مُغتصب وطامع، فساد الأمن والرخاء والاستقرار، في ظل أحفاد أحمد بن سعيد ازدانت أرض الغبيراء واستطاعوا أن ينفذوا بها بحكمة واقتدار من أتون الصراعات وويلات الحروب لحقب متوالية. لقد رفعوا علم الإمبراطورية العُمانية في شتى أصقاع الدنيا ودانت لهم الأمم ليس خوفاً ولا رهباً بل طمعاً في الاقتران بأسمائهم اللامعة كالنجوم في السجل البشري.

نعم كنَّا كطلبة في تلك الحقبة نشعر بامتياز غير عادي كوننا منتمين للمدرسة السعيدية بظفار فهذا الاسم يقترن بالمدرسة التي احتضنت سيد عُمان وقائد مسيرتها السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في مراحله التعليمية الأولى وكأبناء ريف وبادية حظينا بمعاملة رحيمة من حكومة جلالته فتم بناء سكن طلابي جديد على مشارف المدرسة تتوافر فيه كل الخدمات الأساسية للطالب من تغذية وترفيه وتثقيف وغيرها.

انتقلنا من سكننا المستأجر في صلالة الجديدة إلى السكن الجديد عبارة عن مبنى ضخم من ثلاث طبقات على بحر العرب غرف واسعة مزودة بأثاث جميل بحيث يؤمن لكل طالب سرير وطاولة للمذاكرة وبواقع طالبين أو ثلاثة في الغرفة الواحدة يتوسط المصلى المبنى وتحته مُباشرة ردهة الطعام، كوننا من أصقاع بعيدة ولا نعلم الكثير عن البحر فقد كان صوته مزعجاً بالنسبة لنا والأمر ذاته لزفراته التي تجلب روائح مختلفة تكون في أشدها خلال الصيف عند الاستعداد لموسم الخريف وفيما أذكر أن حوالي 100 طالب في السكن لا يجيد أحدنا السباحة ونتعامل مع البحر كالخوف من الموت فتجد الذي يغمس رجله فيه بطلاً يتباهى بذلك بين الجميع وفي ذات الوقت لم يكن بيننا من يجيد ركل الكرة التي يمتهنها جميع أبناء الدهاريز بامتياز فكم حاولنا أن نخرج لاعب كرة قدم لكننا لم نستطع فغالب الكوادر تفضل موقع الدفاع وما أدراك أن يكون الريفي أو البدوي مدافعاً فإنَّ الأمر يتعدى الكرة لأمور أخرى ولذلك تجده مستميتاً في القبض على المهاجم بشتى الطرق مستخدمًا كل الوسائل حتى أسنانه لو تطلب الأمر لذلك تجدنا منبوذين من فرق اللعب على الساحل.

لقد كنت من المحظوظين القلائل الذين توفرت لهم سيارة، فبعد اجتماع عائلي وجَّه الوالد -حفظه الله- بشراء سيارة صالون لكي تؤمن تحركاتي بين الريف والمدينة، لا زلت أذكرها تويوتا كرونا بيضاء، كان المسجل الذي يلفظ الشريط بقوة للخارج ويقضمه للداخل هو الأكثر إثارة ولا حرج من وجود مشط للشعر وقنينة عطر في الدرج الأمامي ففي هذه السن تتحرك العواطف وتزداد الشجون، كانت الطلبات على السيارة من الزملاء شبه يومية ولست الوحيد بل هناك عدد منا يمتلكون سيارات في السكن الداخلي لقد كانت مركباتنا ملكا عاما وكان من العيب أن يرفض الواحد طلب زميله عندما يحتاج للمركبة وكطبيعة أصحاب الريف والبادية كل منهم يُسابق لشحن السيارة بالوقود فنادرًا ما ينخفض المؤشر للأسفل. 

في زيارتي لموقع زينة السيارات وجدت كرما من العنب البلاستيكي الأخضر شد انتباهي فاشتريته وعلقته في المنظرة الداخلية للسيارة وكان يتدلى بشكل مغرٍ للأسفل ذهبت كالعادة إلى عوقد لزيارة الأهل هناك ولم نكن في تلك الأيام نهتم لغلق السيارة فكانت السيارة مفتوحة، وفجأة دخل علينا الأطفال يصرخون بأنَّ أحد أبناء الحارة يحتضر في سيارتي يا له من هول عظيم ذهبنا جميعاً مسرعين وجدنا الطفل مسجى على الكرسي وقد ابتلع نصف الكرم البلاستيكي بينما ظل نصفه بالخارج حاولنا ولم تجدِ كل المحاولات وأمام هذا المشهد حضر والد الطفل فأخذه للمستشفى وهناك استطاعوا أن يخلصوه من كرم العنب الذي علق في فمه وأذكر أنَّ والده كان مستاءً وأحضر الكرم إليّ عند أقاربي وفي اليوم التالي أحرقته في الشارع ومن يومها لا أعلق أي شيء في سيارتي حتى اليوم.

alikafetan@gmail.com