مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (4)


ناصر أبو عون

 

الجزء 30 - سورة  النبأ – الآية (38)
{يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴿٣٨﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
"إنّ الله تعالى لما ذكر أن أحدا من الخلق لا يمكنه أن يخاطب الله في شيء أو يطالبه بشيء قرر هذا المعنى وأكده، فقال: (يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا). وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدرا ورتبة، وأكثر قدرة ومكانة، فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالا لربهم وخوفا منه وخضوعا له، فكيف يكون حال غيرهم؟" (1)
إنّ "التنزيل يفسر بعضه بعضا. ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره، قال: لأن القرآن دلّ على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام. وثبت أن (القيام) صحيح من جبريل، والكلام صحيح منه، ويصحُّ أن يؤذَنَ له، فكيف يُصرَفُ هذا الاسم عنه إلى خلقٍ لا نعرفه، أو إلى القرآنِ الذي لا يصحّ وصفه بالقيام؟! وقوله تعالى: (وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّا ۖ ) قال القاشاني: أي: صافين في مراتبهم، كقوله تعالى: وما منا إلا له مقام معلوم". (2)
(المشهد التصويريّ):
ومع الرحمة والجلال: "لا يملكون منه خطابا.. في ذلك اليوم المهيب الرهيب: يوم يقف جبريل - عليه السلام - والملائكة الآخرون صفا لا يتكلمون.. إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صوابا. فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب. وموقف هؤلاء المقربين إلى الله، الأبرياء من الذنب والمعصية. موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذنٍ وبحسابٍ.. يغمرُ الجوَّ بالروعة والرهبة والجلال والوقار". (3)

(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
(يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ) "القيام فيه مستعار يُراد بيانه وظهوره وشدة آثاره، والأشياء الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه" (وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ)، ولا يتكلم أحد هيبة وفزعا، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ) من ملك أو نَبي، وكان أهلا أن يقول صوابا في ذلك الموطن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الضمير في "يتكلمون" عائد على الناس خاصة و"الصواب" المشار إليه هو "لا إله إلا الله"، قال عكرمة: أي قالها في الدنيا". (4)
 (يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ) "إن جعلته ظرفا لــ"يملكون"؛ فلا تقف على "خطابا"؛ وإن جعلته ظرفا لـ "يتكلمون"؛ تقف". (وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّا ۖ) حال؛ أي: "مصطفين". (5)
"إن جملة (لَّا يَتَكَلَّمُونَ) مؤكدة لجملة (لا يملكون منه خطابا) أعيدت بمعناها لتقرير المعنى؛ إذ كان المقام حقيقا، فالتقرير لقصد التوصل به إلى الدلالة على إبطال زعم المشركين شفاعة أصنامهم لهم عند الله، وهي دلالة بطريق الفحوى فإنه إذا نُفي تكلمهم بدون إذن نُفيت شفاعتهم؛ إذ الشفاعة كلام من له وجاهة وقبول عند سامعه. وليبنى عليها الاستثناء لبعد ما بين المستثنى والمستثنى منه بمتعلقات (يملكون) من مجرور ومفعول به وظرف وجملة أضيف لها. وضمير (يتكلمون) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (يملكون). وجملة وقال صوابا يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول، أي: وقد قال المأذون له في الكلام صوابا، أي: بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله. ويجوز أن تكون عطفا على جملة أذن له الرحمن، أي: وإلا مَن قال صوابا، فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له. وفعل وقال صوابا مستعمل في معنى المضارع، أي: ويقول صوابا، فعبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك، أي: في علم الله. وإطلاق صفة الرحمن على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمَن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته; لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار " (6)(إِلَّا مَنْ أَذِنَ) يجوز أن يكون بدلا من واو (يَتَكَلَّمُونَ) وهو الأرجح لكونه غير موجب، وأن يكون منصوبا على أصل الاستثناء. (7)
....................................
المصادر:
(1)    (الإمام فخر الدين الرازيّ – التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب – جزء 16 [ص: 23 ]).
(2)    (محمد جمال الدين القاسمي – الجزء:  17 – تفسير القاسمي - [38 - 39]).
(3)    (سيد قطب - في ظلال القرآن – الجزء 6  - [ص: 3809]).
(4)    (عبد الحق بن محمد الأندلسي – تفسير ابن عطية - الجزء 8 - [ص: 524].
(5)    تفسير النسفي.
(6)    (الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير - الجزء 31 - [ص: 51 ]
(7)    (أحمد يوسف الحلبي – الدر المصون – الجزء 11).

 

 

تعليق عبر الفيس بوك