إفساد السياسة بالمال والإعلام (2-2)

عبد النبي العكري

أمّا القضية الثانية التي تشغل الرأي العام حالياً فهي قضية شركة كامبردج أناليتكا، وجوهر القضية أنّ شركة المعلومات والاستشارات هذه تمكنت من خلال باحثين في جامعة كامبردج بقيادة البرفيسور كوجان والذي يملك شركة بحوث حول تشخيص سيكولوجية المستهدفين بخلق تطبيقات فيسبوك والنفاذ إلى حسابات ما يزيد عن خمسين مليون مشترك في الفيسبوك في الولايات المتحدة وبريطانيا واستخدام ذلك خلافاً لشروط خدمات فيسبوك، في التأثير عليهم من خلال عدة وسائل للتصويت لصالح المرشح الرئاسي دونالد ترامب على حساب منافسته هيلاري كلنتون. وبالنسبة لبريطانيا التأثير على الاستفتاء لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي (بريكست).

تسربت معلومات عن ذلك مما جعل القناة الرابعة البريطانية تعمد لإرسال أحد محرريها حيث التقى المؤسس المشارك كريستوفر ويلي وتظاهر بأنّه يريد التعاقد مع الشركة للتأثير على الانتخابات في سريلانكا. وقد عمد الصحفي إلى تسجيل مفاوضاته مع كريستوفر ويلي وحديث الأخير وتباهيه بما قامت به الشركة في حملة الرئاسة الأمريكية. وقد بثت القناة الرابعة المُقابلة. وبعدها تحدث كريستوفر بندم في مقابلة متلفزة مع الجارديان شرح فيها بالتفصيل عن عمليات كامبردج أناليتكا والشركة الأم (مختبرات لندن للاتصالات الإلكترونية) القذرة في استخدام معلومات خاصة لملايين مستخدمي الفيسبوك والتي تحصل عليه رسميًا من شركة الفيسبوك للتلاعب بعقولهم والتأثير عليهم وتوجيههم نحو خياراتها حول مختلف القضايا وذلك مقابل صفقات مالية وغيرها لمن تقوم بالعمل من أجل مصلحتهم طوال خمس سنوات. المثير في الموضوع أنَّ ستيف بانون مدير الحملة الانتخابية لدونالد ترامب والمتورط أيضًا في ما يعرف بالدور الروسي لصالح ترامب في الحملة الانتخابية الرئاسية هو الذي أبرم الصفقة مع الرئيس التنفيذي للشركة ألكسندر نيكس والمعروف بانتمائه لنخبة جامعة إيتون وتعصبه للعرق الأبيض وهو ما يتفق فيه مع ستيف بانون ودونالد ترامب. وقد قاد تيد كروز من قادة حملة ترامب فريقاً فنياً في استخدام البيانات المحصلة من كامبردج أنالتيكا لتحديد المستهدفين والتأثير عليهم في سياق الحملة الانتخابية لصالح ترامب.

أثارت هذه الفضيحة ضجة كبرى في الولايات المتحدة وخصوصا في مدى حرص شركات وسائط التواصل الاجتماعي وبالتحديد فيسبوك على سرية بيانات مستخدميها واستخدام هذه البيانات بطريقة غير مشروعة وغير أخلاقية مباشرة أو من قبل طرف ثالث وهو هنا كامبردج أناليتيكا. أما رد الفعل الفوري فهو السقوط المريع لأسهم فيسبوك في بورصة نيويورك وخسارتها لعشرات البلايين. ودفع ذلك قيادة الشركة للاعتراف بالتقصير والوعد باتخاذ إجراءات وقائية.

تجرى حالياً تحقيقات في الكونجرس الأمريكي والبرلمان البريطاني حول دور شركة كامبردج أناليتيكا في تضليل الناخبين في أمريكا وبريطانيا وغيرهما بوسائل غير مشروعة واستخدام وكلاء لترامب وحزب اليوكب البريطاني وسائل إجرامية لصالح موكليهم. ومن المتوقع أن يمثل المتورطون في القضايا مثل ستيف بانون أمام قضاة التحقيق في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ومن المعروف أن القاضي مولر يتولى التحقيق في ما يعرف بالدور الروسي في حملة ترامب مما يوفر المزيد من الأدلة حول الفساد والوسائل غير المشروعة بل الإجرامية في وصول ترامب للرئاسة على حساب منافسته هيلاري كلنتون في حملة انتخابية لا سابق لها في استخدام أساليب التأثير والتضليل والديماغوجيا. أمّا بالنسبة لحملة بريكست فإنّ الكشف عن فضيحة كامبردج أناليتيكا، قد فتح الباب مجددا حول مناقشة مجريات الحملة ونتيجتها بتأييد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي خلافاً لما كان متوقعا، وقد يؤدي تطور القضية إلى النظر فيها أمام المحكمة العليا البريطانية في مجلس اللوردات وقد يؤدي قرارها لإبطال نتيجة الاستفتاء.

هاتان قضيتان ظهرتا إلى السطح من ضمن القضايا الكثيرة التي لم تظهر إلى السطح أو ظهرت ولم يتم التعامل معها بجدية، وتوثر سلبًا على مصداقية النظام الديمقراطي وسلامة ونزاهة الانتخابات أو الاستفتاءات العامة والتي هي أحد مرتكزات النظام الديمقراطي، مما يطرح تساؤلات جدية حول متطلبات النزاهة والشفافية والعدالة في النظام الديمقراطي بما في ذلك النظام الانتخابي. كما تثير قلقاً مشروعًا لدى البشرية المعاصرة وهي من خلال استخدامها لأنظمة التواصل والمعلومات الإلكترونية فإنها توفر أدق التفاصيل عنها لشركات ومؤسسات لا يتورع معظمها من استغلال هذه المعلومات على الضد من التزاماتها الأخلاقية والمهنية والقوانين المرعية وإلحاق أضرار لا حصر لها ببلايين البشر.