المتلاعبون بالعقول في عصر الثورة الصناعية الرابعة؟


أ. د. / أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر


هل نحن نتحكم دائما في عقولنا؟
هل نحن دائما أحرار في تشكيل أفكارنا أم أن هناك من يوجهنا نحو ما نعتقد أنها إرادتنا؟!
نحن نعتقد أننا أحرار تماما في اختياراتنا، وأننا من نقرر بأنفسنا ما نفعل، لكن يبدو أن ذلك ليس دقيقا تماما...، نحن نبدو أحيانا كالدُّمى المتحركة من خلف الستار، نتحرك وفق إرادة وتأثير مؤسسات فكرية، ننفذ إرادتهم دون أن نشعر، ونحن نعتقد أننا نطبق أفكارنا!!
منذ عامين وتحديدا في (3/9/2016) كتبت تغريدة على الفيسبوك بعنوان: (أنت تخضع للتحليل)، وفي هذه التغريدة التي ترتقي إلى مقال صغير أشرتُ إلى دراسة قام بها باحثان في جامعة كامبريدج عن طريق تطبيق اسمه myPersonalityعبر الفيسبوك لدراسة سيكولوجية المستخدمين، من خلال تفضيلات المستخدمين "الليكات" Likes بعد الإجابة عن أسئلة معينة أو من خلال ما يشاركونه على صفحات فيسبوك وما يحبون، أي استخدام البيانات لفهم سيكولوجية المستخدم عبر كمية البيانات، وبناء صورة عن شخصيتهم، جنسهم، ذكاءهم، مستوى الاشباع الحياتي لديهم، تفضيلاتهم السياسية، ميولك الدينية، تفضيلاتهم الجنسية، مستوى تعليمهم، وحالتهم العاطفية والاجتماعية، ونمط شخصياتهم الأساسية. وهذا يمكن أن يخبر هل أنت متهور، أو منظم ، أو محافظ، أو لبيرالي.
الأسبوع قبل الماضي فقط، أثيرت قضية خطيرة حول الفيسبوك أدخلت الشركة في دوامة عاصفة أفقدتها حوالي 10% من قيمتها السوقية، حوالي 100 مليار دولار (حسب موقع بي بي سي العربي) مع الكشف عن فضيحة حصد بيانات أكثر من 50 مليون مستخدم لموقع "فيسبوك" من دون علمهم، وبشكل غير مشروع واستغلالها من خلال دراسة سيكولوجية المستخدمين من قبل المؤسسة الاستشارية "كامبريدج أناليتيكا" البريطانية لأهداف سياسية، حيث أتاحت لهم هذه الدراسة كشف النوايا الانتخابية للمستخدمين والتلاعب بهم وبتوجهاتهم، وهناك شك أن هذه البيانات ربما استخدمت للتأثير على نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب، وجاري التحقيق الآن هل كان لها تأثير على نتائج أكثر من 200عملية انتخابية في انحاء العالم!!
هذه المعلومات كشفتها كل من صحيفتي «نيويورك تايمز» و«ذي أوبزرفر» البريطانية،  وذلك بعد عام من التحقيقات الاستقصائية إثر لقاء مع باحث في علم بيانات روسي كان يعمل في كامبريدج، الذي أدت أبحاثه إلى تطوير دراسات لتحليل البيانات المأخوذة من فيسبوك من خلال تطبيق يتطلب الدخول إليه API الخاص بـ فيسبوك، ما يسمح لطرف ثالث الحصول على بيانات من مستخدمي فيسبوك، ومن كل من يتواصل معهم على الموقع، بهدف تكوين نماذج للشخصيات، واستغلال ميولهم السياسية وأفكارهم في بناء حملات انتخابية مفصلة على نحو مقصود  وموجهة إليهم.
كانت هذه الفكرة مستلهمة من تطبيق  myPersonality الذي سبق الإشارة إليه. وكان الهدف الذي صرح به الباحث بأن ما يقوم به من جمع للبيانات هو هدف أكاديمي محض، غير أن بيانات عشرات الملايين من صفحات مستخدمي فيسبوك استخدمت دون معرفتهم بكمية ونوعية هذه البيانات، ثم بيعت لـ "كامبريدج أناليتيكا" دون مناقشة مدى قانونية هذا الأمر. وقد تبين بعد ذلك أن شركة فيسبوك كانت على علم بهذه العملية منذ عام 2015 ، وقامت فقط بخطوات محدودة لاسترجاع و حماية بيانات هؤلاء المستخدمين.
وقد تساءل البعض عن أسس العلوم النفسية التي عملت بها "كامبريدج أناليتيكا" لإنشاء نموذج سيكولوجي من خلال حصد بيانات مستخدمي موقع "فيسبوك"، وطرحت أسئلة عديدة منها التقنية ومنها الأخلاقية والتي كان من أبرزها التساؤل حول أسس العلوم النفسية التي عملت عليها "كامبريدج أناليتيكا" لإنشاء نموذج سيكولوجي من خلال تحليل البيانات.
هناك نظرية قديمة في مجال الشخصية تسمى نظرية السمات الخمس الكبرى أو BIG Five Factors of Personality ، هذه العوامل الخمس الكبرى للشخصية يمكن إذا ما تم قياسها بطريقة دقيقة التنبؤ بسلوك الشخص في مواقف عديدة، احتياجاته ومخاوفه وحاجاته المستقبلية. هذه العوامل الخمسة هي (العصابية، الابنساطية، الانفتاحية، الطيبة، يقظة الضمير). كانت المشكلة قديما في هذه النظرية تتمثل في دقة قياس هذه العوامل، وبفضل التطور التكنولوجي اليوم، استطاع الباحثون استخدام الذكاء الاصطناعي في قياس هذه العوامل من خلال تحليل البيانات الضخمة التي حصلوا عليها من الفيسبوك؛ فقد استطاع أحد علماء النفس في جامعة كامبريدج بالتعاون مع عدد من علماء البيانات تحليل البيانات الواردة في بروفيلات الأشخاص على الفيسبوك وتطوير خوارزمية وقياس العوامل الخمسة الكبار للشخصية بدقة وصدق كبيرين. وفقا لحديث لأحمد العم رئيس فريق أبحاث علم البيانات العربي، أصبح بإمكانهم من خلال معرفة بيانات ودراسة 70 علامة إعجاب (Like) فقط أن يعرفوا عنك أكثر مما يعرف أصدقاءك، من خلال 150 علامة إعجاب يمكنهم أن يعرفوا عنك أكثر مما يعرف عنك والديك، ومن خلال 200 يمكنهم أن يعرفوا عنك أكثر مما تعرف عنك زوجتك، ومن خلال 300 علامة إعجاب يمكنهم أن يعرفوا عنك أكثر مما تعرف أنت عن نفسك.
ربما تساءل الكثيرون عن سر هذا الكرم الحاتمي الذي تبديه مواقع التواصل الاجتماعي من حيث توفير كل هذا الكم من المساحات للمستفيدين في مختلف أنحاء العالم بشكل مجاني. كان الاعتقاد سابقا أن الموقع يستعيد استثماراته من الإعلانات التي تظهر على صفحاتنا، ولكن اليوم تأكد أن هداياه "مسمومة"، وأن هناك الكثير من الأهداف الأخرى السياسية وربما المخابراتية التي تقوم على توظيف بيانات المستخدمين لأهداف سياسية دولية كبرى، كالتأثير على رأي الناخب في بقع عديدة من العالم، لا فرق بين عالم متقدم وغير متقدم.
إن لدى الفيسبوك كمية كبيرة جدا عن المعلومات عن شخصيتك – الصفحات التي تزورها؛ الأشخاص الذين تتواصل معهم؛ صورك الشخصية التي تضعها على الفيسبوك؛ كم تقضي من الوقت في التصفح؛ بالإضافة إلى كل شيء كتبته على الخاص. تلك البيانات تستخدم في بناء صورة عنك "من أنت ومن تكون؟"، وهم يستخدمون تلك المعلومات ليس في تكوين الإعلانات الملائمة لك والتي قد تظهر على جانب صفحتك على الفيسبوك فحسب، بل أيضا في توجيك بطرق مختلفة.
بعض الأصدقاء اليوم يزيدون من تبرعهم ببياناتهم لجهات غير معروفة باستخدام الاختبارات العديدة التي تخبرك من تشبه، وكيف أنت محبوب ... إلخ، وذلك لأنك تعطي هذه الصفحات الإذن باختراق صفحتك كاملة عن علم أو جهل، كما أنها تعلم عن شخصيتك أكثر وأكثر .. وهذا يشرح لماذا هذه المواقع مجانية، فعندما تكون الخدمة مجانية فإن البضاعة تكون (أنتً) المستخدم نفسه.
قضية الخصوصية اليوم أضحت من الموضوعات الساخنة والحيوية، فقد جعلتنا التكنولوجيا الحديثة مكشوفين بدرجة كبيرة أمام الشركات وغيرها من الجهات الدولية، والكثير من الدول اليوم تطالب بمزيد من الحماية لبيانات مواطنيها، حتى لا يصبحوا عرضة للتأثير والتوجيه. وإذا عرفنا أن شركة كامبريدج أناليتيكا كانت تمول من قبل شخصية ضالعة في الحزب الجمهوري الأمريكي وأحد أعضاء حملة ترامب الانتخابية، فسوف ندرك كيف أديرت هذه القضية.
هناك قصور في التشريعات التي تحد من استخدام هذه الشركات لمواقعها في حصد بيانات المواطنين وبيعها واستغلالها على غير رغبتهم، وتوجيههم، فيما بات يعرف اليوم باقتصاد الانتباه، هذا الاقتصاد القائم على توظيف آليات تقنية للاحتفاظ بانتباه الفرد باتجاه شيء محدد (مثلا مصدر محدد لتلقي المعلومات، الفيسبوك مثلا)، ومن ثم فإنه ينزع من الفرد إرادته دون أن يدري.
وأخيرا، وفقا لما نشره موقع بي بي سي "قالت شركة فيسبوك إنها ستتيح للمستخدمين سيطرة أكبر على خصوصيتهم بتيسير إدارة البيانات وتغيير تصميم قائمة الإعدادات .. وأنها ستقترح تحديثات على شروط الاستخدام وسياسة البيانات في الموقع خلال الأسابيع المقبلة حتى توضح على نحو أفضل ما هي المعلومات التي تجمعها وكيف تستخدمها".
كل هذه القضايا تطرح تحديات كثيرة أمام علماء التربية وعلم النفس في الوطن العربي حول ما يتعرض له المجتمع بشكل عام، والنشء بشكل خاص، من تأثيرات تربوية ونفسية وسياسية لوسائل التواصل الاجتماعي كقضية ذات أولوية نفسية واجتماعية وتربوية.

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك