رواية في الفلسفة الإسلاميّة:

البُعْد الضَائِع في عَالَم صوفيّ (3)


محمد رضا اللواتي – مسقط


الفَلاسِفَةُ المُسْلِمُونَ (ابن عربي وصدر الدين الشيرازي)

وحدة الوجود والإنسان الكامل

       تابع السيِّد ماهر كلامه:
-    تُعتبر الاتِّجاهات العرفانية قد بلغت تمام نضجها، ووصلت إلى أقصى درجاتها عند أبي بكرٍ محمَّدِ بنِ عليٍّ، المعروف في العالم كله بابن عربيّ، والملقب بالشيخ الأكبر. تُوفِّي سنة 1240م.
-    يقظان: فيلسوف قلبيٌّ آخر؟.
-    السيِّد ماهر: لن يرضى ابن عربيّ أن تصفه بـ"الفيلسوف" يايقظان.
-    لماذا؟ سأله يقظان ضاحكاً.
-    السيِّد ماهر: ابنُ عربيٍّ رجلُ الشهود والذوق بمستوى يتجاوز كلَّ من سبقه في هذا الطريق بمن فيهم السهرورديُّ. ألَّف 846 كتاباً كلُّها إمَّا بأمرٍ من الباري –تعالى- أو أحد أنبيائه، كما يدَّعي ابن عربيٍّ نفسُه.
-    يقظان: 846 كتاباً؟.
-    السيِّد ماهر: وصلتنا منها 550 كتاباً.
-    وهل ادعاؤه حق؟، سألته إيمان مبتسمة.
-    السيِّد ماهر: تعرفين الجواب يا إيمان، فقد ذكرتُه لك عند حديثنا عن شهاب الدين. إلاَّ أنَّ الموضوع مع ابن عربي مختلف، فقد أوصل الرجلُ المسائلَ الذوقيَّةَ والعِرفانية إلى أوجها. منظومةٌ عرفانية متكاملةٌ ضمَّها لنا كتابُه الفتوحات المكِّيَّة و كتابُه فُصوص الحكم.
-    إيمان: كيف أمكنه أن يفعل ذلك؟.
-    السيِّد ماهر:من خلال عاملين جوهريَّين تستند عليهما تمام نظرياته. الأول هو "وحدة الوجود"، والآخر هو "الإنسان الكامل".
-    بيِّنهما لنا يا سيِّد ماهر لطفاً، قالت إيمان مشغوفة.
-    يرى ابن عربيٍّ أنَّ الوجود واحد. الوجود كلُّه، من عالَم الدنيا وسائر عوالِم الغيب، واحدٌ بوحدة حقيقيَّة. وهذا الوجود الواحد، ليس بمنأى ولا بمعزل عن الوجود الإلهيِّ، لأنَّه -الوجود الواحد- في الواقع وجوده هو -الوجود الإلهيّ-. أعني أن العالَم ظهورٌ إلهيٌّ لا غير.
-    يقظان (مستغرباً): هل يعني ذلك أن محييَ الدينِ ابنَ عربيٍّ يقول بـ"وحدة الوجود
         العضويَّة"؟.
-    إيمان: وما "وحدة الوجود العضويَّة"؟.
-    أجابها يقظان: يعني أنَّ كلَّ شيءٍ هو الله –سبحانه وتعالى-؛ الأرض، السماء، البحار،
         الأقمار، كل شيء...
-    سألت إيمان متعجِّبةً: أليس هذا كفراً صريحاً بالله –تعالى- بحسب الشريعة الإسلاميَّة؟.
-    ولهذا فقد كفَّر العديد من الفقهاءِ ابنَ عربيٍّ، أجاب السيِّد ماهر واستطرد: أراد ابنُ عربيٍّ أن يمنع قُرَّاءَه أنْ يفهموا من "وحدة الوجود" عنده معناها العضويَّ. كان يقول إنَّ ذاتَ الحقِّ –تعالى- لها مقامان؛ مقامُ الأحديَّة، ومقامُ الربوبيَّة. فالأوَّل حيث ذات الحق –تعالى- كما هو، والثاني مقامُ تجلِّيه وظهوره في الأكوان و الأشياء. ولكن مع ذلك، فإنَّ العديدَ من كلماته الأخر جعلت جمعاً من قُرَّائه ينسبون إليه "وحدة الوجود العضويَّة". إلاَّ إنَّ هناك من يُبَرِّؤه من هذا القول، ويرى أنَّ فلسفته غامضة جِدَّاً وأنَّها عَصِيَّةٌ على فهم غير المتمرِّسين.
-    وما رأيك أنت شخصيَّاً ياسيِّد ماهر؟، سألته إيمان مبتسمة.
-    لا تُحْرِجِي السيِّدَ ماهراً يا إيمان، قال يقظان مُوَجِّهَاً كلامَه بنبرةِ تأنيبٍ إلى إيمان.
-    السيِّد ماهر: لا إحراج على الإطلاق. أنا ممن يرون براءةَ ابن عربيٍّ من تهمة القول بـ"وحدة الوجود العضويَّة".
-    إيمان: وما مستندك يا سيِّدي؟.
-    السيِّد ماهر: إنَّ كبار رجال الفلسفة الإلهيَّة ورموز العرفان، وحتى أصحاب مشاريع الدمج بين الاتجاهين، لم يُكفِّروا ابن عربيٍّ، ولم يتهموه باعتناق وترويج وحدة الوجود الباطلة. بينما نرى معظمَ من كفَّره لم يكن من رجال البرهان الفلسفيِّ ولا الشهود العرفانيِّ. عندما كان صدرُ المتألِّهين يستعرض بعض أشهر النظريَّات حول معنى "وحدة الوجود" ويُقَوِّمُها، عرض نظريَّة "وحدة الوجود العضويَّة" ونقدها ثم قال إنَّه لم يرَ هذا الرأيَ أحدٌ من الفلاسفة الإلهيِّين أوالعرفانيِّين الكبار. فلو كان ابن عربيٍّ قائلاً بهذه الوِحدة لذكره صدر المتألِّهين ونقده.
-    إيمان: يبدو ذلك منطقياً.
-    أضاف السيِّد ماهر: ومن جهة أخرى، فإنَّ الأصلين اللذَينِ تقوم عليهما نظريَّة ابن عربي؛ "وحدة الوجود" و"الإنسان الكامل"، كلاهما حتميَّان ولا سبيل إلى نقضهما كما سيأتي.
-    قال يقظان مبتسماً: كنَّا ننتظر شيئاً من البيان عن الأصل الثاني يا سيِّد ماهر.
-    السيِّد ماهر: أصل "الإنسان الكامل" ... حسناً.
وإذا كان الحق –تعالى- قد أوجد العالَم إظهاراً ذاته المقدَّسة، فإنّه –تعالى- سيتجلَّى في أعظمَ تجلٍّ وظهورٍ إلهيٍّ، لا أقلَّ. أتتَّفقانِ؟
-    نعم، فعقلاً يجب أن لا يكون التجلِّي بأقلَّ من الأفضل، ردَّ يقظان وإيمان.
-    السيِّد ماهر: وحيث أنَّ الإنسان الكامل هو خليفة الله –تعالى- في الأكوان، وهو أحب المظاهر لذات الحق إلى الحقِّ وفيه تتجلى سائر الأسماء الإلهيَّة الحُسنى، فإنَّ أتَمَّ مظهرٍ تجلَّت فيه الذات المقدَّسة هو مظهر الإنسان الكامل. عليه نقول: ذاتُ الحق –تعالى- محبٌّ لمظهره التامِّ (الإنسان الكامل) كما إنَّ المظهرَ التامَّ مدركٌ لذات الحق –تعالى- من خلال ظهوره فيه.
وأخيراً: حيث أنَّ أعظمَ البشرِ هم الأنبياء –ع-، وأعظمَهم على الإطلاق هو خاتم الأنبياء محمَّد -ص-، فإنَّ محمَّداً –ص- مجسِّداً وممثِّلاً الإنسانَ الكاملَ هو أعظمُ تَجَلٍّ وأعظمُ مَظْهَرٍ لذات الحقِّ –تبارك وتعالى-.
-    يا إلهي ... إنَّه كلامٌ جِدُّ خطيرٍ، قالت إيمان.
-    هو كذلك فعلاً، ردَّ السيِّد ماهر واستطرد: إنَّ خطورتَه يا إيمان تكمن في مخالفته للتصوُّرات السائدة عن المعصوم وعن علاقته بالله –تعالى-. سنتعرَّف إلى الموضوع بدقَّةٍ بالغة في آخِرِ الدرس إن شاء الله –تعالى-.
-    إيمان: وهل برهن ابن عربي على آرائه؟.
-    السيِّد ماهر: ليس تماماً، لم يكن يُؤثر البرهان الفلسفيَّ كثيراً، هنالك أدلة من القرآن، وأخرى من السنة النبويَّة المطهَّرة، وشيءٌ من البراهين. إنَّ ابن عربي يُوعِز اكتشاف هذه الحقائق إلى قوَّة القلب وطهارته عن لوث الدنيا. فبالتربية الروحيَّة يصعد الإنسانُ إلى عالم "وحدة الوجود" فيشاهده كما هو على حقيقته، عندها يصعق عن ذاته فلا يجدها منفصلة عن الوجود الواحد، وهذا هو معنى الفناء لدى ابن عربي.
-    ولكنَّ منظومتَه تبقى معطَّلة بلا براهين محكمة، قال يقظان.
-    السيِّد ماهر: إلى حد ما. تعاقب عليها شُرَّاحٌ عِدَّةٌ حاولوا الاستدلال على ما جاء فيها من نظريات. أروع هؤلاءِ كان صدرَ الدينِ القونويَّ، تلميذَه وربيبَه. وكذلك القيصريّ الذي شرح أهمَّ رسائله، وكذلك الشيخ عبد الكريم الجيليّ المتوفى السنة 1403م، صاحب كتاب الإنسان الكامل. ولكنَّ الاستدلالَ الكاملَ التامَّ على الاتِّجاه العرفانيِّ والمسلكِ الشهوديِّ، وواقعيَّةِ التجلِّي الإلهيِّ، ونظريَّةِ "الإنسان الكامل"― كلّ ذلك جاء بعد عِدَّة قرونٍ من رحيل ابن عربي عن الدنيا. سنمرُّ عليها عن قريب وعليكما التحليَّ بالصبر. المُهِمُّ هو أنَّ كتاب الفتوحات المكِّيَّة يعد من أضخم آثار ابن عربيٍّ، وهو بمثابة موسوعة عرفانية كبرى تستوعب كافة مبادئ العرفان وقواعده، تقع في 560 فصلاً لا نظير لها من حيث الاتِّساع والشمول في دنيا المسلمين. كُلُّ من أتى بعده من المتصوفة والعرفانيِّين لم يجدوا محيصاً من الاستناد عليه. صدرُ المتألِّهين نفسُه أفاد منه واستند على كشوفات محيي الدين كثيراَ. في الواقع، إنَّ بعض الدارسين لفكر محيي الدين وفكر صدر الدين الشيرازيِّ يُؤَكِّدُ أنَّ فكرَ الأخيرِ جهدٌ برهانيٌّ وإثبات لشهود ابن عربيٍّ.
-    من تقصد بـ"بعض الدارسين" يا سيِّد ماهر؟، سألته إيمان بكلِّ شغف.
-    السيِّد ماهر: حسنَ بنَ حسنٍ الآمليَّ. من كبار أساتذة الحكمة المتعالية في العالم اليومَ. قضى سنين عِدَّة في البحث والتنقيب في نصوص الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازيِّ، وانتهت به دراسته الموسَّعة إلى التصريح بأنَّ جميع المباحث الرفيعة في الأسفار الأربعة منقولة من الفصوص والفتوحات وبقيَّة كتب محيي الدين ابن عربيٍّ. وعليه -يقول الآمليُّ- لن نكون غير دقيقين إن صرَّحنا بأنَّ كتاب الأسفار ليس إلا شرحاً أو مدخلاً لـفصوص الحكم أو الفتوحات المكِّيَّة.
-    يقظان: وماذا تبقَّى للشيرازيِّ من مجهود شخصيٍّ خالص إذا كان كل الأسفار خلاصة
         لكتب محيي الدين؟.
-    السيِّد ماهر: تارة يستعين المؤلف لأجل وضع نظرياته على آراء غيره، وأخرى يقوم بتحويل آراء غيره إلى شكل برهاني، وثالثة يتولى صياغة نظرياته بمجهوده الذاتي الذي قد يصادف أن غيره كان قد سبقه إلى ذكر ذلك. في رأيي، إنَّ صدر الدين استند على ابن عربي أكثرَ من استناده على غيره، ولكنَّ مشروعَه لم يكن تحويلَ مكتوباتِ ابنِ عربيٍّ إلى لغةِ البرهانِ، وما توافق فيه تماماً من مقولاته مع ابن عربيٍّ لا يدلُّ بالضرورة على أنَّ صدر المتألِّهين قد اقتبسها منه. فقد ذكر في مقدمة حكمته المتعالية أنه قد أفاضت عليه المعارف من جانب الله –تعالى- بعدَ جهدٍ كبيرٍ في الرياضات الشرعيَّة. نُضيف إلى هذا، أنَّ صدر المتألِّهين قد علَّق على نظريَّتة "بسيط الحقيقة كل الأشياء" بأنَّه لا يعلم من له علم بها على وجه الأرض، لكن محقِّقاً كبيراً وفيلسوفاً من كبار فلاسفة الحكمة المتعالية هذا العصر، وهو عبدالله جواد الطبريّ، أكَّد أنَّ القاعدة موجودة في كتب ابن عربيٍّ، وهذا يعني أنَّ صدرَالمتألِّهين لم يكن مُلتفتاً إلى وجودها هناك وإلاَّ لأشار إلى ذلك أو على أقل التقادير لما كان يقول بأنَّه لا علم له بمن يعرفها على وجه الأرض.
-    إيمان: كلامٌ منطقيٌّ جِدَّاً يا سيِّد ماهر.
-    يقظان: أُؤيِّدكِ يا إيمان.
-    السيِّد ماهر: كان ابن عربي على معرفةٍ واسعةٍ جِدَّاً بآراءِ المتكلمين والفلاسفة، و كان عالِمَاً بالتراث الفلسفيِّ عِلماً دقيقاً. الجدير بالذكر أنَّ ابن عربي أرجع تأليف كتابه فصوص الحكم إلى أمر النبي محمد –ص-.
-    إيمان: كيف؟.
-    السيِّد ماهر: يقول إنَّه رأى النبي –ص- يأمره بأخذ الكتاب من يده –ص- لكي ينتفع
         الناس منه.
-    علَّقت إيمان: عجيب حقَّاً.
-    السيِّد ماهر: يوجد في هذا الكتاب 27 فصّاً، كلُّ فص يُشير إلى نبيٍّ من الأنبياء –ع-، وهذا الكتاب هو آخر آثار ابن عربي، ويمتاز بشموليَّةٍ ونضجٍ شديدين. توالت الشروح على فصوص الحكم منذ يوم صدوره حتى بلغت قرابة 110 شرحاً.
-    قال يقظان مذهولاً: كلُّ هذه الشروح لكتاب واحد؟.
-    نعم. سكت السيِّد ماهر وتمتم مترحِّمَاً على الشيخ الأكبر.

10: الفلسفة وعلم الكلام يتبادلان الأثواب

-    أكمل السيِّد ماهر حديثه قائلاً: ظلَّت الفلسفة الإسلاميَّة في العالم العربيِّ في حالة احتضار بالرغم من أن ابنَ رُشدٍ كان قد مَدَّها بالدواءِ عندما ألَّف تهافت التهافت ردَّاً على شبهات الإمام الغزاليِّ. لكنَّ تأثيرَ الغزاليِّ كان قويَّاً جِدَّاً، وزاد في مرض الفكر الفلسفيِّ ظهورُ فخرِ الدينِ الرازيِّ المتوفى العام 1209م.
-    سألت إيمان: كيف؟.
-    السيِّد ماهر: فخر الدين، الذي كان فقيهاً وكلاميَّاً، ومفسِّراً للقرآن، كتب شرحاً على كتاب الإشارات والتنبيهات للشيخ الرئيس ابن سينا، ولكنَّ الشرح لم يكن في الواقع إلا جرحاً؛ كان نقداً شديداً لفكر ابن سينا ولابن سينا نفسه. لقد كان لهذا النقد الشديد دوره القويُّ في إضعاف قيمة الفكر الفلسفيِّ في نظر عامَّة الناس.
-    وبعد؟، سأله يقظان.
-    السيِّد ماهر: تعلمانِ أنَّ العالمَ الإسلاميََّ قد تعرَّض لأحداثٍ عظيمة بالغةِ الشدَّةِ، مأساويةٍ جِدَّاً بهجمة المغول أوالتتار، الذين أحرقوا البلادَ الإسلاميَّةَ، وقتلوا الألوف من المسلمين، وهدموا البِنَى التحتيَّة للعالم الإسلاميِّ، وأهلكوا الحرث والنسل ... كانت هجمةً شعواءَ شَرِسَةً، لا تترك ولا تذر ... قادَ الحملةَ رجلٌ متوحِّشٌ سفَّاك للدماء يُدعى جنكيزخان.
في تلك الفترة ظهر رجلٌ لَعِبَ دوراً خطيراً جِدَّاً في العالم الإسلاميِّ المتمزِّق آنذاك. إذ عمل على إعادة ما تهدَّم من البِنَى التحتيَّة، وإعادة الحضارة العلميَّة للمسلمين، لاسيما الفلسفة الإسلاميَّة.
-    من هو هذا الرجل؟، سألت إيمان بكلِّ شغفٍ.
-    السيِّد ماهر: إنَّه محمَّدُ بنُ محمَّدٍ الحسنُ الطوسيُّ، المعروف بـ نصيرالدين الطوسيِّ. وُلد بطوس من إيران، وتُوفِّيَ العام 1274م ببغداد. كان متبحِّراً في الرياضيَّاتِ والفلكِ والفلسفةِ والفقه وعلمِ الكلامِ. لجأ الطوسِيُّ إلى الإسماعيليِّين الذين كانوا يقاتلون المغولَ بعنف من قلاعهم الحصينة، فبقيَ محتمياً في أقوى قلاع الإسماعيليِّين التي كانت تُعرف بقلعة الموت، يؤلِّفُ في العقيدة والأخلاق والتصوُّف والفلسفة والرياضيَّات والفلك، إلى أن سقطت القلعة الحصينة على وقع ضربات المغول.
-    يقظان (متلهِّفاً): وماذا فعل المغولُ بنصيرالدين؟.
-    السيِّد ماهر: بالغ هولاكو في احترامه وتعظيم مقامه، بل اتَّخذه وزيراً له يلازمه في حلِّه
         وترحاله.
-    إيمان: هولاكو حفيد جنكيز خان؟!.
-    السيِّد ماهر: نعم. لقد أستغلَّ الطوسِيُّ مكانته من هولاكو، فأقنعه بإعادة الإعمار، فرضخ هذا الأخير له، وفوَّضه أمر الأوقاف. فأعاد نصيرالدين إنشاء وترميمَ المدارس والمعاهد، وجمع العلماء والحكماء والأطبَّاء والمهندسين، ونادى في أرجاء البلاد يدعو كافة العلماء الذين هربوا من بطش التتار للعودة إلى بلادهم، ووضع لهم رواتب جيِّدة. كان يُنفق على الفلاسفة ثلاثة دراهم يوميَّاً، وعلى الأطبَّاء درهمين، وعلى الفقهاء درهماً واحداً، بينما يصرف نصف الدرهم للمحدِّثين.
-    يقظان: رائع فعلاً.
-    إيمان: وهل عاد هؤلاءِ العلماء والحكماء والأطبَّاء والمهندسون الذين هربوا من بطش
         التتار سابقاً؟.
-    بلى، والتفُّوا حول نصيرالدين كالفراش التي تلتفُّ حول النار. واستطرد السيِّد ماهر: وأقنع نصيرالدين المغولَ بإنشاء مرصدٍ فلكيٍّ ومكتبةٍ ضخمةٍ كانت تضمُّ أكثرَ من 400,000 عنوان.
-    يا له من رقم ضخم، قال يقظان متعجِّباً.
-    السيِّد ماهر: ثمَّ عكف الطوسِيُّ يدرس الفلسفة السينويَّة بشغف.
-    يقظان: عفوا ... ما الفلسفة السينويَّة؟.
-    السيِّد ماهر: فلسفة ابن سينا. لقد قام بكتابة شرح على إشارات وتنبيهات ابن سينا، على غرار ما فعله الفخر الرازيُّ، ولكن على عكس الرازيِّ، كان شرح الطوسيِّ نقداً شديداً للرازيِّ، وانتصاراً لابن سينا، وللفلسفة الإسلاميَّة. لقد تلقَّى العالَم شرحَه هذا، أو قل نقده للرازيِّ وانتصاره لابن سينا، بنهمٍ كبيرٍ، فقد طُبع الشرح لأوَّل مرَّةٍ في حياة الطوسيِّ، وبعد ذلك طُبع في الهند سـ1864م، وظهر بعد ذلك في تركيا سـ1873م، وأُعيد طبعه في الهند سـ1876م، وفي إيران طبع مرتين، سـ1884م و سـ1887م، وطبع في ليدن سـ1892م، وأخيراً طبع في القاهرة عام 1960، وكانت الآنسة غواشون قد نقلته إلى الفرنسيَّة.
-    يقظان: كل هذه الطبعات؟!، لقد كان له تأثيرٌ شديدٌ فعلاً.
-    السيِّد ماهر: لقد منح شرحُه على إشارات وتنبيهات ابن سينا التفكيرَ الفلسفيَّ قوَّةً استطاع على إثرها أن ينهض من فراش المرض بعد رقود طويل. لم يكتفِ نصيرالدين بنقد الفخرِ الرازيِّ هنا، بل طارده في كتاب آخر له هو محصل أفكار المتقدِّمين من الفلاسفة والمتكلِّمين، فقام نصيرالدين بتلخيصه ونقده تحت عنوان تلخيص المحصل.
-    يقظان: إذن بين الرجلين معاركُ فِكْرِيَّةٌ قويَّة.
-    السيِّد ماهر: نعم. لم يتصدَّ الطوسيُّ للفخر الرازيِّ فحسب، بل انبرى يصارع محمد عبد الكريم الشهرستانيَّ أيضاً، الذي كان قد ألَّف كتاباً أسماه مصارع الفلاسفة عرَضَ فيه آراء الفلاسفة قادحاً ومفنِّداً. فما كان من الطوسِيِّ إلاَّ أنْ ردَّ عليه بـ مصارع المصارع، كشف فيه عن ضعف آرائه وهشاشتها وسطحيَّته في الفكر الفلسفيِّ.
-    إيمان: وهل قامت الفلسفة وعادت مثل سابق عهدها؟.
-    كلا، ليس إلى ذلك الحدِّ الذي كانت عليه أيام ابن سينا بالطبع، ولكن تحسن وضعها على أيَّة حال، ردَّ السيِّد ماهر. إنَّ لنصير الدين عملاً ثالثاً لا يقلُّ أهمِّيَّةً وخطورةً عن العملين المذكورين.
-    عذراً، ما هما اللذان تمَّ ذكرهما يا سيِّد ماهر؟، سألته إيمان.
-    السيِّد ماهر: إعادة الإعمار، وحماية العلماء، وإعادة النهضة العلميَّة والنهضة الفلسفيَّة، وهذا نعتبره أوَّل أعمال نصيرالدين، وثاني أعماله ردُّه على الفخر الرازيِّ.
-    نعم، ردَّت إيمان وهي تسجل في دفترها ذلك.
-    السيِّد ماهر: أمَّا عملُه الثالث فهو توظيفه الفلسفةَ لتقوية عمودِ الفكر الكلاميِّ. تَعلمانِ أنَّ علم الكلام هو العلم الذي يدافع عن العقائد الدينيَّة، ويستخدم في دفاعه الجدلَ والبرهانَ العقليَّ. لقد كان شيخ الإسلام الغزاليُّ والإمام الرازيُّ قد فكَّا روابط علم الكلام بالفلسفة كلِّيَّاً، فجعلا علم الكلام هو العلمَ المدافعَ عن العقيدة الصحيحة، بينما جعلا الفلسفةَ كفراً وزندقة. فما كان من نصيرالدين إلاَّ أنْ أعاد الفلسفةَ في عمق هيكل علم الكلام، أو لنقل ألبس علم الفلسفة ثوب علم الكلام.
-    إيمان: كيف تسنَّى له ذلك؟.
-    السيِّد ماهر: لقد كان نصيرالدين الطوسِيُّ يُتقن فلسفةَ ابن سينا إتقاناً تامَّاً، كما كان ابن رشد يُتقن فلسفةَ أرسطو. وكان في الوقت ذاته متمكِّناً من علم الكلام، فألَّف كتاباً صغير الحجم أسماه التجريد، بثَّ فيه عقيدتَه الدينيَّة في وجود الله –تعالى-، وتوحيده، والنبوات، والخلافة، والمعاد، وعالج هذه الاعتقاداتِ بطريقة علم الكلام، ولكن بمادَّةٍ فلسفيَّةٍ، جاعلاً الفلسفة تخدم علم الكلام.
-    يقظان: إنَّه عبقريٌّ فذٌّ.
-    إيمان: ولكن ما الذي يقصده بـ"التجريد"؟.
-    السيِّد ماهر: سؤالٌ ذكيٌّ جِدَّاً، لست أدري إجابته ياإ يمان. ولكن توجد احتمالاتٌ عِدَّةٌ، أشهرها أنَّه قد جرَّد عقيدتَه الدينيَّةَ وكشفها كما هي في حقيقتها.
-    ولكنَّه لم يجرِّدْها عن الفلسفة!، علَّقت إيمان متسائلةً.
-    ولم يجرِّدْها عن الكلام أيضاً!، قال يقظان.
-    السيِّد ماهر: صحيح. لذلك قالوا إنَّه جرَّدها بمعنى كشفها. لنترحَّمْ على الشيخ نصيرالدين
         الطوسيِّ.

11: الحكمة المتعالية وصلتها بـ نهج البلاغة

-    السيِّد ماهر: هانحن الآن نصل إلى آخر محطات رُوَّادِ الفكر الفلسفيِّ في الإسلام؛ سنقف عند رجل قُدِّر له أن يتمكن إلى أبعد الحدود من إقامة مشروع التوافق، بتأسيس الحكمة المتعالية، إنَّه صدر الدين الشيرازيُّ، و يُلَقِّبُه أتباعُه بـ"صدرالمتألِّهين". اسمه محمَّدُ بنُ إبراهيمَ، تُوُفِّيَ سـ1641م، وُلِدَ في شيراز، عكف على التراث الفلسفيِّ الضخمِ الذي خلَّفه أسلافُه يتزوَّد منه، حتَّى تمكَّن تمكُّناً تامَّاً من آراءِ كبار فلاسفة اليونان، وأفكار الفلاسفة المسلمين. يندهش المرء حقَّاً عندما يقرأ موسوعتَه الفلسفيَّة المسماة بـالحكمة المتعالية، وذلك لكثرة آراء الفلاسفة القدماء فيها، لدرجة أن سيد حسين نصر، الباحث المشهور، عدَّ موسوعة الحكمة المتعالية مصدراً من مصادر التاريخ الفلسفيِّ القديم.
-    يقظان: وهل هذه الموسوعة هي عمله الكتابيُّ الوحيد؟.
-    السيِّد ماهر: كلا، فقد ألَّف العديدَ من المؤلَّفات. لكنَّ أشهرَها على الإطلاق، وأضخمها في الوقت نفسه، هي هذه. وفيها أودعَ معظمَ جوانبِ فلسفتِه. المُهِمُّ أنَّه بعد مرحلة التحصيل العلمي انزوى صدرالدين في قرية نائية، يتعبد ليلاً ونهاراً، يريد بلوغ وادي النور والعرفان، حتى انكشفت له الكثير من الحقائق، والعديد من العلوم، فقرَّر أن يُؤلِّف موسوعةً يُسجِّل فيها مكاشفاتِه، بعد أن يصبغها بلغة البرهان، ويبحث عن مؤيِّدات لها في الظواهر الدينية من آيات الكتاب الإلهيِّ والسنة النبوية.
-    علَّق يقظان: إذن صدرالدين أيضاً منطلقُه القلبُ والمعارفُ الشهوديَّةُ.
-    السيِّد ماهر: نعم يا يقظان. وهذا يمكن عدُّه دليلاً على أنَّ مشروعَ صدرِالدينِ لم يكن لأجل تلبيس عِرفانيَّات ابن عربيٍّ لباسَ البُرهانِيَّات.
-    إيمان: ذكرت هذا سابقاً، وهي نقطة جديرة بالالتفات حقَّاًً.
-    السيِّد ماهر: يعتقد صدرُالدين أنَّ للإنسان أسفاراً أربعة باتِّجاه الحقيقة. أوَّل هذه الأسفارِ هو سفرُ الإنسان إلى الله –تعالى- من الخلق؛ أي من الخلق تكون الانطلاقة، وإلى الحق تكون الخاتِمة. في هذا السفر يُحيط المسافر قلباً، بالخلق عِلماً إلى أنْ يَصِلَ إلى معرفة الحقِّ. ومن هنا، فإن ما يقابل هذا الكشفَ القلبيَّ في البحث العقليِّ، هو معرفة شؤون الوجود وأحكامه قبل الولوج في وادي معرفة الله –تعالى-.
-    يقظان: تقصد أن هناك سفرين، أحدُهما روحيٌّ والآخَرُ عقليٌّ؟.
-    السيِّد ماهر: بلى، فالسفرُ العَقْلِيُّ يتمثل في البحث الفلسفيِّ الذي يجب أن يكون ترجماناً للسفر القلبيِّ.
-    إيمان: والسفر الثاني؟.
-    السيِّد ماهر: السفر من الحقِّ إلى الحقِّ.
-    ما معنى هذا؟، سأل يقظانُ مستغرباً.
-    السيِّد ماهر: بعد أن بلغ السالك المسافر بالقلب معرفة الله –تعالى-، يبدأ سفرَه الثانيَ في الغور في هذه المعرفة والاستزادة منها ولكن هذه المرة بالله –تعالى-. ويقابله في البحث العقليِّ معرفةُ العقلِ لصفات الله –تعالى- وأسمائه بعد معرفة العقلِ له –تعالى-.
-    يقظان: رائع جِدَّاً.
-    السيِّد ماهر: والسفر الثالثُ يكون من الحقِّ –تعالى- إلى الخلق ولكن بالحقِّ.
-    إيمان: كيف؟.
-    السيِّد ماهر: بعد أنْ تزوَّدَ السالك بأداة القلب من معرفة الله –تعالى- مستعيناً به –سبحانه، يعود لمعرفة الخلق من جديد ولكن بتعليم الله –تعالى- له. ويقابله في البحث العقليِّ معرفة فِعْلِ الله –تعالى- بعد معرفة الله –تعالى-.
-    علَّقت إيمان: رائع حقَّاً. فعند السفر الأوَّل، نظر العارف في الخلق، لكنَّه لم يكن قد بلغ أفقَ الحقِّ. إلاَّ أنَّه في السفر الثالث ينظر في الخلقِ بوصفه فعلَ الله –تعالى-.
-    السيِّد ماهر: هو هكذا كما ذكرتِ. عندما يقطع السالك سفرَه الثالثَ، يُصبح نبيَّاً ولكن دون رسالة. أما السفر الأخير، فيُؤَهِّلُه لحمل الرسالة، لأنَّه سفرٌ في الخلقِ بالحقِّ –تعالى-.
-    كيف؟، سأله يقظان.
-    السيِّد ماهر: في السفر الأوَّل، تحرَّك السالكُ إلى الله –تعالى- من الخلق. مرَّ بالخلقِ وحده إلى أنْ بلغَ أفقَ الحقِّ. وبعد ذلك، غاص في معرفة الحقِّ بالحقِّ –تعالى- وأكملَ سفرَه الثانيَ. بعد ذلك، يَمَّمَ وجهَه تلقاءَ الخلقِ، وتَوَجَّهَ إلى العالَمِ من جديدٍ لكن بمَعِيَّةِ الحقِّ –تعالى- وأكمل سفرَه الثالثَ.
أمَّا السفرُ الأخيرُ فيتمثَّل في العودة إلى الله –تعالى- من الخلق بمَعِيَّتِه –تعالى-. الفارقُ بين السفرين الأوَّلِ والرابعِ أنَّ الأوَّلَ كان من الخلقِ لكن قبل بلوغ الأفقِ الأعلى، بينما السفرُ الرابعُ يكون أيضاً من الخلق إلى الحقِّ ولكن بمَعِيَّة المنظر الأعلى -تبارك وتعالى. ويقابله في البحث العقليِّ معرفةُ الإنسان لعلوم المعاد، وكيفيَّة عودة الكائنات إلى باريها كما جاءت منه –تعالى-.
-    أسفار مُذهِلة حقَّاً، علَّق يقظانُ.
-    هذا يُشبه قصَّةَ العابد على الجبل مع طفل القرية، علَّقت إيمان.
-    أسمعينا القصّةَ يا إيمان، قال السيِّد ماهر.
-    إيمان: بكلِّ سرور. ذات يوم، كان في إحدى القرى النائية عابد يقطن أعلى الجبل ليتعبَّد. شاهده طفل من أطفال القرية وقرر اللحاق به أعلى الجبل. وفعلاً، تحرَّك الطفل من القرية تلقاء الجبل الكبير، ثم بدأ يصعد إلى أن بلغ القِمَّة. وهناك التقى بالعابد، الذي أراد أن يكافئه على شجاعته فاصطحبه معه ليريه أسرار القِمَّة وما عليها من نبات وحيوان. وعندما أتقن الطفل ما في القمَّة، أراد العودة إلى القرية، فقرَّر العابد مرافقته، وكشف العابد للطفل طريقاً أسهل لبلوغ الأرض، وظلَّ العابد يتحدَّث مع الطفل طوال الوقت عن كلِّ ما يقع عليه بصرُ الطفل من الأشياء أسفل الجبل. ذهب الطفل إلى أبويه وأسرته وأبلغهم عن صعوده أعلى الجبل وتعلُّمه من العابد ولكن القليل منهم صدقَّه. وبعد برهة من الزمن، قرر الطفل العودة إلى قمَّة الجبل، ولكن هذه المرَّة برفقة العابد، الذي وعده بأن يكشف له مزيداً من أسرار الجبل أثناء الطريق.
-    ما أروعَها من قصَّة يا إيمان. ممن سمعتيها؟، سألها السيِّد ماهرٌ مُتَعَجِّبَاً.
-    إيمان: لم أسمعْها من أحد. بصراحة ... لقد ابتكرتُها وأنا أستمع لشرحك الأسفارَ الأربعةَ
          يا سيِّد ماهر.
-    أليست أختي عبقريَّةً يا سيِّد ماهر؟، علَّق يقظانُ مبتسماً.
-    السيِّد ماهر: بلى هي كذلك حقَّاً.
-    إيمان (مبتسمة): شكراً على الإطراء. لقد انتهيتُ من القصَّة، فهل نرجع إلى الدرس يا سيِّد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: بكلِّ تأكيد. أفاد صدرُالدين من التراث الفلسفيِّ الضخم الذي كان قد انتهى عنده، فأعمال اليونانيِّين، والهندوس، ومصر القديمة، وحكماء الفرس القدماء، والتراث الفلسفيّ الإسلاميّ الشديد التنوُّع، فأفكار الكنديِّ والفارابيِّ وابن سينا، ومنظومات السهرورديِّ وابن عربيٍّ، وأعمال المتكلِّمين على أنواعهم وطبقاتهم، مع التعاليم القرآنية والنبويَّة، فضلاً عن كشوف صدرِالدين العرفانية الشخصيَّة― كلُّ هذا الزخم المعرفيِّ المتنوِّع العجيب وضع بين يديه إمكانيَّاتٍ عديدةً لصياغة مشروعه الجبَّار؛ أعني الحكمة الجامعة لسائر أنواع المنظومات الفكريَّة الفلسفيَّة والعرفانية، في بوتقةٍ واحدةٍ، ليُطلق عليها بعد ذلك الحكمة المتعالية. وإذا كان هناك من استند عليه الشيرازيُّ أكثر من غيره في إعداد موسوعته فذاك هو كتاب نهج البلاغة.
-    نهج البلاغة؟!، صاح يقظانُ مندهشاً. أليس هو الكتاب الذي فيه خُطَبُ ورسائلُ وحِكَمُ أميرِالمؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب -كرم الله وجهه-؟.
-    السيِّد ماهر: بلى. إنَّ هذه الخطبَ العظيمةَ منها ما يقرب من 50 خطبة في التوحيد وشؤون الألوهيَّة. لقد استند عليها الشيرازيُّ كثيراً إلى درجة أنَّ باحثاً كبيراً في الحكمة المتعالية، الذي سبق أن ذكرناه، أعني حسن الآمليّ، يقول إنَّ الشيرازيَّ استند على نهج البلاغة وخطب أميرالمؤمنين فيه في تطوير برهان الصِدِّيقين. ليس حسن آملي فحسب، بل محمد حسين الطباطبائي ومرتضى المطهري كذلك.
-    لم أكن أعلم أن كتاب نهج البلاغة يتناول التوحيد بهذه الكثرة التي أشرت لها ياسيِّد ماهر. 50 خطبة في التوحيد؟!، قال يقظان في ذهولٍ وتعجُّبٍ.
-    السيِّد ماهر: تدور خطب التوحيد في نهج البلاغة حول قاعدة واحدة أساسيَّة هي إنَّ ذاتَ الحقِّ القيوم حقيقةٌ مطلقةٌ ساقطةٌ عنها كلُّ الحدود. يقول أميرالمؤمنين -ع-: "الذي ليست له في أوَّلِيَّتِه نِهَايَةٌ، ولا في آخِرِيَّتِه حدٌّ ولا غايةٌ، الذي لم يسبْقه وقتٌ ولم يتقدَّمْه زمانٌ، ولم يتعاورْه زيادةٌ ولا نقصان"(1) ويقول: "الذي سُئِلَت الأنبياءُ عنه فلم تصفْه بحدٍّ ولا بنقصٍ(2) ويقول مُؤَسِّساً لقاعدة الإطلاق الوجودي بنفي النقص: "ليس له حَدٌّ ينتهي إلى حَدِّه"(3)، ويقول: "الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان"(4).وتتفرَّع على هذا الإطلاق الوجوديِّ، الإحاطةُ الإلهيَّةُ بسائرِ الوجودِ، والقيموميَّةُ الإلهيَّةُ على جميع الكائنات. تناولت هذه الخطب الجليلة بساطة الخالق من جميع الجهات وخلوَّ ذاته المتعالية من التكثر، ووحدتَه –تعالى- مع صفاته العليا. وأشار الإمامُ عليٌّ –ع- في خطبه تلك إلى وحدته –سبحانه- المتوافقة مع القول بتوحيده. هذه الوحدة ليست وحدة عددية على الإطلاق. وهكذا فخطب نهج البلاغة في التوحيد تتطرَّق إلى كمٍّ جيِّد عميقٍ جدَّاً في الإلهيَّات. الوحدة اللاعدديَّة، والوجود الساقطة عنه الحدود، والقدم اللازمانيّ، وعينيَّة صفاته مع ذاته، وعينيَّة فعله مع كلامه، وغير ذلك من المسائل التوحيديَّة، تطرَّق إليها أميرالمؤمنين –ع- في خطبه.
-    إيمان: هلَّا ذكرتَ لنا مزيداً من أقوال أميرالمؤمنين في التوحيد يا سيِّد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: نعم. تأمَّلا قوله –ع- (وهنا أخرج السيِّد ماهر كتاب نهج البلاغة وبدأ يقرأ منه): "الذي ليس لصفته حدٌّ محدودٌ"(5). هُنا أسقط الحدَّ عن الصفات الإلهيَّة، لأنَّه كان قد أرجع الصفاتِ إلى الذات فقال:"وكمال الإخلاص له نفيُ الصفات عنه لشهادة كلِّ صفةٍ أنَّها غيرالموصوف"(6).
-    إيمان: ما معنى ذلك؟.
-    السيِّد ماهر: ليست له صفاتٌ خارجة عن الذات. صفاتُه وذاتُه أمرٌ واحِدٌ، سيأتيكما تفصيله لاحقاً. وقال –ع-: "كائنٌ لا عن حَدَثٍ، موجودٌ لا عن عَدَمٍ، مع كلِّ شيءٍ لا بمقارنةٍ، وغيرُ كلِّ شيءٍ لا بمزايلةٍ، فاعلٌ لا بمعنى الحركاتِ، بصيرٌ إذ لا منظورَ إليه من خلقه، مُتَوَحِّدٌ، إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده، أنْشَأ الخَلْقَ إنْشَاءً بلا رَوِيَّةٍ أجالها، ولا تجربةٍ أستفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامة نفسٍ أضطرب فيها، أحال الأشياءَ إلى أوقاتها، عالِماً بها قبل ابتدائِها"(7)
-    إيمان: ياإلهي، ماهذا العمق؟.
-    عجيبٌ حقَّاً. توجد في الخطبة مصطلحاتٌ لم أكنْ أخالُ أنَّ أحَداً كان قد نطق بها في ذلك الزمن الأوَّل من صدر الإسلام، قال يقظانُ ذلك والدهشة بادية عليه.
-    السيِّد ماهر: مثل ماذا يا يقظان؟.
-    يقظان: مثل "حدث"، و"موجود" و"عدم" و"فاعل" و"حركة" و"تجربة". كنت أظنُّ المسلمين مارسوا هذه اللغة بعد ترجمة الآثار الفلسفيَّة اليونانية إلى العربيَّة.
-    السيِّد ماهر: ثَمَّةَ مصطلحاتٌ أخرى جاءت في نهج البلاغة؛ قال الإمامُ –ع-: "الأحدُ بلا تأويل عددٍ"(8)، وقال أيضاً: "من أشار إليه فقد حدَّه"(9)، وقال: "الحمدُ للهِ الذي لم يسبقْ له حالٌ حالا فيكونَ أوَّلا قبلَ أنْ يكونَ آخِراً، ويكونَ ظاهراً قبلَ أنْ يكونَ باطِناً"(10)، وقال –ع-: "لا تصحبه الأوقاتُ، سَبَقَ الأوقاتَ كونُه، والعدمَ وجودُه، والابتداءَ أزلُه"(11)، وقال: "سبق في العلوِّ فلا شيءَ أعلى منه، وقَرُبَ في الدنوِّ فلا شيءَ أقربُ منه. فلا أستعلاؤُه باعدُه عن شيءٍ من خلقِه، ولا قربُه سواهم في المكان به"(12).
-    إيمان: إنَّ هذهِ النصوصَ تحتاج إلى شرحٍ دقيقٍ ياسِّيد ماهر. هل يُمكِنُنَا أنْ نَعُدَّ نهج البلاغة أوَّلَ كتابٍ للمسلمين يشتمل على مسائل التوحيد؟.
-    السيِّد ماهر: الحقُّ يا إيمان أنَّ أوَّل من تطرَّق إلى مسائل التوحيد وأسرار الإلهيَّات بهذا العمق الكثيف هو أميرُالمؤمنين عليٌّ –ع-؛ إذْ لم يعهد المسلمون قبله هذه اللغة على الإطلاق، ولم يسبقْه في الإسلامِ أحدٌ تحدَّث في الذات الإلهيَّة الحقَّة إلى مستوى القول: "هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج عنها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، وأمام كل شيء فلا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج من الأشياء لا كشيء من شيء خارج"(13). وقال –ع-: "إنْ قيل كان فعلى تأويل أزليَّة الوجود، وإنْ قيل لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم"(14).
ثمَّ أضاف السيِّد ماهر: عكف صدرُ الدين على هذا الإنتاج الهائل من نهج البلاغة يَدْرُسُه ويقوِّم نظرياته وفقه قبل أيِّ كتابٍ آخَرَ.
-    إيمان: و هل نجح الشيرازيُّ فيما أراد؟.
-    السيِّد ماهر: نجح في تصميم القاعدة التي سيتَّكِئُ عليها هو، وغيره ممن يريدون المُضِيَّ بعملية التوافق إلى الأمام.
-    يقظان: وما هي هذه القاعدةُ؟.
-    السيِّد ماهر: تتكوَّنُ القاعدةُ من أصلٍ واحدٍ، يمكن أن يُنظرَ إليه برؤيةٍ أخرى فيبدو من خلالها أصلين لاأصلاً واحِداً.
-    وما هو؟ أو ما هما؟، سأله يقظانُ.
-    الأصلُ الجوهريُّ لمنظومةِ الحكمة المتعالية هو أصالة الوجود؛ أي أنَّ الوجودَ حقيقةٌ واقعيَّةٌ، قائمةٌ بذاتها، تتمتَّع بالغنى المطلقِ، والاستقلالِ التامِّ. و هذا الوجود الأصيل له مراتبُ تقبل الشدَّة والضعفَ، وما العالمُ وسائرُ الكائناتِ إلاَّ مراتبُ ضعيفةٌ من الوجود.
-    أليس هذا نمطاً من القول بـ وحدة الوجود؟، سألته إيمان.
-    السيِّد ماهر: نعم، وحدة الوجود التي يتمُّ إثباتُها بعد ثبوت أصالة الوجود وأنَّ حقيقتَه توأمُ
         الغنى الإطلاقيِّ.
-    إيمان: هل تشرح ذلك أكثرَ يا سيِّد ماهر؟.
-    السيِّد ماهر: بكلِّ سرورٍ، ولكن في الدرسِ المخصَّصِ له، وفي الوقت المخصَّصِ أيضاً.
-    يقظانُ (مبتسماً): طيِّب. اللهُمَّ أفرغْ علينا الصبرَ.
-    تابع السيِّد ماهر: لقد ساعدت نظريَّة أصالة الوجود صدر الدين في ابتكار حلولٍ جوهريَّةٍ ونهائيَّة لعدَّةٍ من المشكلات العقليَّة الكبرى، ظلَّت عالقةً منذ فجر تاريخ التفكير العقليِّ.
-    إيمان: من قبيل ...؟.
-    السيِّد ماهر: لقد تمكَّن من ابتكار برهان جديد يثبت وجود الله –تعالى- دون تقسيم الوجود إلى واجب و ممكن، بل و دون الاستناد إلى قاعدة استحالة تسلسل العلل إلى ما لا نهاية. وتمكَّن من الكشف عن حقيقة نظام العِلَّة و المعلول في واقعه كما هو، إذ ليس المعلول إلاَّ ظهوراً للعِلَّة و بروزاً و إشراقاً لها. و تمكَّن من اكتشاف الحركة الجوهريَّة في صميم الطبيعة، وبواسطتها هذَّب برهان المُحَرِّك الأوَّل، وحلَّ معضلة علاقة القديم بالحادث، ومشكلة قدم العالم و حدوثه، بل ووصل إلى علاقة الروح بالجسد أيضاً.
-    عَلَّقَ يقظانُ: حقَّاً تعتبر هذه المشكلات عويصةً جِدَّاً.
-    حلَّ أيضاً موضوع حشر الأجساد وإشكال إعادة المعدوم، وعلم الله –تعالى- بالجزئيات،
         وغير ذلك.
-    إيمان: وهل تلك الحلول ناجعة؟.
-    السيِّد ماهر: بلى، لأنَّها كلّها تستند على قواعد فلسفيَّة محكمة جِدَّاً.
-    يقظان: وهل تراث صدر الدين معروف عالَميَّاً؟.
-    السيِّد ماهر: نعم. كُتِبَ في فلسفته العديد من رسائل الماجستير و الدكتوراه، شرقاً و غرباً، وانبرى العديد من المحقِّقين، منذ زمانه إلى يومنا هذا، يشرح فلسفته وأصولها العقليَّة. ولكنَّ أعظمَ شُرَّاح فلسفته هم هادي السبزواريّ؛ أوّل الشارحين لـ الحكمة المتعالية، و محمَّد حسين الطباطبائيّ؛ وهو فيلسوف ومفسِّر للقرآن، من أروع أعماله موسوعة في تفسير القرآن تقع في 20 مجلَّداً، ملئت بشتى البحوث الفلسفيَّة والأخلاقيَّة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة وغيرها. وله تأليف لا نظير له في الأعمال الفلسفيَّة يُعرف بـأصول الفلسفة والمذهب الواقعيِّ؛ يلخِّص هذا المشروع تاريخَ الفلسفة الإسلاميَّة وإنجازاتها، و يقدِّم مادَّتها إلى القارئ المثقَّف بلغةٍ سلسةٍ. أمَّا آخِرُ أكبر شُرَّاح الحكمة المتعالية فهو عبد الله جواد الطبريّ، الذي صنَّف مؤخَّراً أضخم شرح لـ الحكمة المتعالية أسماه الرحيق المختوم.
أيها العزيزان؛ يقظان وإيمان، أنتما على موعد لمعرفة بعض جوانب هذه الحكمة العظيمة.
-    قالت إيمان فرحة: إنْ شاءَ اللهُ –تعالى-.
-    علَّق يقظانُ مبتسماً: يوفِّقنا الله لفهمها.
-    لا أجد داعياً لتلخيص ما مرَّ أكثر مما هو عليه، قال السيِّد ماهر.
-    إيمان: لقد نسيت إخبارك يا سيِّد ماهر أنَّ أبي طلب مني تسجيلَ ما تُلقيه من دروس، في أشرطةٍ سمعيَّة، حتَّى تبقى مرجِعاً لنا في المستقبل. هل من مانع؟.
-    السيِّد ماهر: لا أجد مانعاً من ذلك يا إيمان.
-    يقظان: ولكنَّنا لن نكون في البيت غداً. لقد وعدنا السيِّد ماهراً بأنْ نأخذَه معنا لمشاهدة معالم السلطنة السياحيَّة. هل نسيت يا إيمان؟.
-    آه نعم نسيت فعلاً. ولكن لا تهتمَّ بذلك يا يقظانُ، سأصطحب معي مسجِّلي الصغير.
..............................
المصادر:

(1)    الصدوق، محمد بن علي: التوحيد ص 31.
(2)    المصدر السابق ص 32.
(3)      المصدر السابق ص33
(4)     المصدر السابق ص41
(5)      التميمي، أركان: نهج البلاغة،صفوة الشروح: ص23.
(6)      المصدر السابق ص25
(7)      المصدر السابق ص26
(8)      المصدر السابق ص 80
(9)      المصدر السابق ص31
(10)      المصدر السابق ص65
(11)      الصدوق، محمد بن علي: التوحيد ص37.
(12)      التميمي، أركان: نهج البلاغة، صفوة الشروح ص123
(13)      المصدر السابق ص121
(14)      الصدوق، محمد بن علي: التوحيد ص73

 

تعليق عبر الفيس بوك