سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (29)


أ.د/ سعيد جاسم الزبيدي – جامعة نزوى


سألني التلميذ النجيب: هل اختلف النحويون والمفسرون في ماهية (هيهات) من قوله تعالى: (هيهات، هيهات لما توعدون. الآية 36 من سورة المؤمنون)؟
لا بدّ لنا – يا ولدي – قبل أن نجيب على سؤالك أن نلحظ بدءاً الأمور الآتية:
أولاً: إنّ موضوع (أسماء الأفعال) قد حظي باهتمام الباحثين المحدثين، فأفردوا له أبحاثاً، ودراساتٍ علمية، وكان منها:
    سليم النعيمي: اسم الفعل – دراسة وطريقة تيسير، بحث منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السادس عشر، من ص60-89، سنة 1968م.
    علي النجدي ناصف: رأي في اسم الفعل، بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية/القاهرة، المجلد 23، سنة 1968م.
    عبد الهادي الفضلي: أسماء الأفعال والأصوات – دراسة ونقد، رسالة ماجستير في كلية الآداب/بغداد، سنة 1970م.
    هاشم طه شلاش: كلمة في أسماء الأفعال، بحث منشور في مجلة الدراسات الإسلامية، العدد (4)، سنة 1972م.
    أحمد محمد أحمد عويش: أسماء الأفعال في اللغة والنحو، رسالة ماجستير، كلية اللغة العربية/جامعة أم القرى/السعودية، سنة 1982م.
    مريم حسن إبراهيم: أسماء الأفعال بين النظرية والتطبيق، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، سنة 2003م.
    سلوى إبراهيم الحاج: أسماء الأفعال والأصوات في العربية، دراسة تطبيقية وتحليلية ونحوية، رسالة ماجستير، جامعة أم درمان/السودان، سنة 2004م.
    محمد عبد الله المالكي: اسم فعل الأمر في القرآن الكريم، دراسة تركيبية دلالية، بحث منشور في مجلة كلية اللغة العربية/جامعة المنصورة/مصر، المجلد الثاني، العدد 29، سنة 2010م.
    فاطمة عبد الرشيد عبد الله: اسم الفعل وحكم تقديم معموله عليه، بحث منشور في سلسلة دراسات عربية وإسلامية، المجلد 37، سنة 2012م.
هذا ما استطعت الوقوف عليه، وربما فاتني منها بحث أو دراسة، ولاحظ – يا ولدي – هذه الجهود المتكررة التي لو ارتبطت الجامعات، ومؤسسات البحث، بمنظومة لوفرنا على باحثينا الجهد والوقت، ولتجلّى الرأي الجديد، أو الدراسة التي تستوفي ما قالة القدماء، وما أضاف إليها المحدثون(1).
ثانياً: إنّ القدماء قسّموا (أسماء الأفعال) على ثلاث مجموعات هي: مرتجلة، ومنقولة، ومعدولة، وتؤدي معاني الأفعال: ماضية، ومضارعة، وأمراً، ومصدراً، وهي مبسوطة في كتب النحو التعليمي(2).
ثالثاً: إنّ لفظة (هيهات) لم ترد في القرآن إلّا في هذه الآية.
تعددت قراءتها(3):
-    هيهاتَ، هكذا ضُبطت في المصحف، وقرئت بتنوين الفتح.
-    هيهاتِ (بالكسر) وهيهاتٍ بتنوين الكسر.
-    هيهاتُ (بالضم)، وهيهاتٌ بتنوين الضم.
-    هيهاتْ (بالسكون).
-    هيهاه (بالوقف والوصل).
-    أيهاه (بالإبدال والهاء موقوفة).
-    هيهاتُ – هيهاتٌ (بضم الأولى وتنوين الضم للثانية).
ولكلٍّ وجهٌ. وفيها لغات، أحصاها مجدالدين الفيروزأبادي (ت817ه) "إحدى وخمسين لغة"(4)، وقيل فيها: "وهذا كله وهم وتخمين"(5).
واختلف النحويون قدامى ومحدثين في مفهومها:
فالقدماء:
قال سيبويه (ت نحو 180ه): "هذا باب من الفعل سُمّي بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث"(6).
وذهب الفرّاء (ت207ه) إلى أنها "أداة ليست بمأخوذة من فعل"(7). ونسب إلى الكوفيين أنهم يرونها أفعالاً حقيقية.
ووردت في كتب النحو بعنوان (أسماء الأفعال والأصوات) وشاع هذا المصطلح المضطرب في كتب النحو التعليمي حتى يومنا.
واجترح أبو جعفر أحمد بن صابر الأندلسي (ت نحو منصف القرن السابع للهجرة) مصطلحاً سمّاه (الخالفة)(8). ورأى الرضي الاستراباذي (ت686ه) أنها مرّت بمراحل فقال: "والظاهر في بعضها أنها كانت أصواتاً، ثم نقلت إلى المصادر ثمّ منها إلى أسماء الأفعال"(9). وعدّها الخضري (ت1287ه) أسماء حقيقية(10).
واختلف المعاصرون فيها:
فأستاذنا مصطفى جواد (ت1969م) سأل: "لماذا لا تضاف أسماء الأفعال إلى الأفعال الجامدة"(11). وعدّها علي النجدي ناصف (ت1982م) فعلاً جامداً قاصراً(12). ورأى سليم النعيمي (ت1984م) أنها أصوات على أصلها(13).
أما أستاذنا مهدي المخزومي (ت1993م) فيرى أنها أفعال بدائية متخلفة(14). وتوسط أستاذي فاضل صالح السامرائي – مدّ الله في عمره – فقال: :إنها تؤدي معاني الأفعال سواء قلنا باسميتها أم بفعليتها(15).
واختلفوا في إعرابها:
    فالأخفش الأوسط (ت215ه) رأى أنها أسماء، والمكسور منها منوّن وغير منوّن غير متمكن مثل: أمسِ(16).
    والمبرد (ت285ه) قال: "وأما (هيهات) فتأويلها: في البعد، وهي ظرف غير متمكن؛ لإبهامها؛ ولأنها بمنزلة الأصوات(17).
    والزجاج (ت311ه) قال: إنّ "موضعها الرفع، وتأويلها: البعد"(18).
    وابن الأنباري (ت328ه) قال: "(هيهات هيهات لما توعدون) معناه: بعيدُ ما توعدون(19).
    والنحاس (ت338ه) ذكر أنها "بُنيت على الفتح، وموضعها الرفع، لأن المعنى: البعدُ"(20).
    وكرر أبو علي الفارسي (ت377ه) ما قاله المبرد بعبارة أخرى فقال: "إنّ (هيهات) ظرف سُمّي به الفعل فهو منتصب انتصاب الظرف"(21).
    وذكر مكي بن أبي طالب القيسي (ت437ه) أنّ: "موضعه نصب، كأنه موضوع موضع المصدر، كأنّك قلت: بُعداً بُعداً لما توعدون(22).
    ورأى الزمخشري (ت538ه) أنّ "ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أن يرتفع بهيهات"(23).
    ونقل ابن يعيش (ت643ه) في إعرابها فقال: "فأما قوله (هيهات هيهات لما توعدون) فقيل اللام زائدة، وما الفاعلة، والتقدير: هيهات هيهات ما توعدن، وقيل: الفاعل محذوف والتقدير: بَعُد الصدق لما توعدون، فاللام على بابها؛ لأنه لم تؤلف زيادة اللام في نحو هذا(24).
    ونُسِبَ إلى ابن مالك (ت672ه) والجمهور أنّ أسماء الأفعال لا موضع لها من الإعراب(25).
    وسلّم تاج الدين الأسفراييني (ت684ه) بأنها "أسماء سُدّ بها مسدّ مصادر سادّة مسدّ أفعالها"(26).
    ويرى الرضي الاستراباذي (ت686ه) أنّ "كلّ ما هو (أي اسم فعل) بمعنى الخبر ففيه معنى التعجب، فمعنى هيهات أي ما أبعده"(27).
    ووصف السمين الحلبي (ت756ه): هيهات بأنها اسم فعل قاصر(28).
هذا أشهر ما قيل في إعرابها، ولعلّ سرد هذا الاختلاف مبنيّ على أمرين:
1- المعنى الذي تؤديه هذه الألفاظ في السياق.
2- صورتها اللفظية أنها غير داخلة في أقسام الكلم المعروفة.
رابعاً: رأينا في دراستها:
إنّنا نرى في هذه الأفاظ التي جمعها النحويون في هذا المصطلح (أسماء الأفعال) على وفق أصولها:
أسماء الأصوات – وهو الغالب – بغضّ النظر عن دلالته، وسنقترح في آخر البحث ما نراه.
ما كان منقولاً، قال الرضي الاستراباذي (ت686ه): "وكان القياس ألّا يقال لاسم الفعل الذي هو الأصل جار ومجرور نحو: عليك، وإليك، اسم فعل... بالنظر إلى أصله... إلا أنّهم طردوا هذا الاسم في كلّ لفظ منقول إلى معنى الفعل نقلاً غير مطّرد كالمطّرد"(29). وعلّق سليم النعيمي (ت1984م) فقال: "ومن الواضح أنّ هذا الاستعمال اختصار لجملة"(30). وأضاف مهدي المخزومي (ت1993م): "يبدو أنّ النحاة أدخلوا في هذا الباب ما ليس منه... ما كان ظرفاً، أو مضافاً إليه بأداة نحو: دونك، ومكانك، وإليك، وعليك(31). فنقترح أن تدرس هذه العبارات في الأساليب، أعني أساليب الطلب.
-    الصيغة المعدولة على زنة (فعالِ)، وهي مطردة في الأمر الثلاثي قياساً لكثرته عند سيبويه (ت نحو180ه)(32)، وقال الرضي الاستراباذي: "ولو قيل على مذهبه: إنّ هذه الصيغة من الثلاثي فعل أمر، لا اسم فعل لم يكن بعيداً"(33). وطالب سليم النعيمي أن تُعدّ صيغة (فعالِ) فعل أمر لاسم فعل(34)، ويعدّها مهدي المخزومي "صيغة أخرى لفعل الأمر"(35). وبهذا تخرج صيغة (فعالِ) من دائرة ما سُمّي بـ (أسماء الأفعال)، أي تدرس صيغة من صيغ فعل الأمر.
وأخيراً نرى أن (هيهات) وأخواتها المرتجلة أصوات تؤدي معاني مختلفة مثلها مثل حروف المعاني، وعلى هذا نخلّص هذه الألفاظ من لا جدوى فيه.
وأخيراً: فالآية عندي: هي خبر واقع موقع البعد المؤكد للتيئيس، وهذا ما أطمئن إليه، والله الموفق للصواب.
.....................
المصادر:
(1)    في الجامعة الأردنية موقع ألكتروني للرسائل العلمية في الوطن العربي: Theses website
    Http:/theses.Ju.edu.jo
(2)    ينظر: مصطفى الغلاييني: جامع الدروس العربية، المكتبة العصرية/صيدا-بيروت، ط39، 2001م، 1/155-160
(3)    ينظر: أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم: معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء، عالم الكتب/القاهرة، ط3، 1997م، 3/330-331 .
(4)    ينظر: القاموس المحيط، تحقيق أبو الوفا نصر الهوريني (ت1291ه)، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1، 2004م، مادة (الهيه)، باب الهاء فصل الهاء، 4/314 .
(5)    ينظر: الرضي الاستراباذي: شرح الكافية، تحقيق يوسف حسن عمر، مطبوعات جامعة قار يونس/بنغازي، ط2، 1996م، 3/102 .

(6)    الكتاب، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي/القاهرة، ط2، 1982م، 1/241  .
(7)    معاني القرآن، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط، 2000م، 2/235 .
(8)    ينظر: أبو حيان الأندلسي: ارتشاف الضرب من لسان العرب، تحقيق مصطفى أحمد النماس، المكتبة الأزهرية للتراث/القاهرة، د.ط، 2005م، 1/12، 3/197 .
(9)    الرضي الاستراباذي: شرح الكافية، 3/84 .
(10)    تنظر حاشية الخضري، طبع شركة ومكتبة مصطفى الحلبي وأولاده/مصر، د.ط، 1940م، 1/24-25 .
(11)    مصطفى جواد: المباحث اللغوية ومشكلة العربية العصرية، الدار العربية للموسوعات/بيروت، ط1، 2012م، ص11 .
(12)    علي النجدي ناصف: رأي في اسم الفعل، بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المجلد 23، سنة 1968م، ص11 .
(13)    سليم النعيمي: اسم الفعل-دراسة وطريقة تيسير، بحث منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد 16، 1968م، ص79 .
(14)    مهدي المخزومي: في النحو العربي قواعد وتطبيق على المنهج العلمي الحديث، بدون دار طبع، ط3، 1985م، ص134 .
(15)    فاض صالح السامرائي: معاني النحو، دار الفكر/الأردن، ط2، 2002م، 4/35 .
(16)    ينظر: معاني القرآن، تحقيق هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي/القاهرة، ط1، 1990م، 2/422 .
(17)    المقتضب، تحقيق محمد عبدالخالق عضيمة، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي/القاهرة، د.ط، 1399ه، 3/182 .
(18)    معاني القرآن وإعرابه، تحقيق عبدالجليل عبده شلبي، دار الحديث/القاهرة، ط1، 1994م، 4/11-12 .
(19)    شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق بركات يوسف هبّود، المكتبة العصرية/صيدا-بيروت، د.ط، 2011م، ص361 .
(20)    إعراب القرآن، تحقيق زهير غازي زاهد، عالم الكتب/بيروت، ط1، 2005م، مجلد واحد، ص635 .
(21)    الإغفال، وهو المسائل المصلحة من كتاب (معاني القرآن الكريم وإعرابه) لأبي إسحاق الزجاج (ت311ه)، تحقيق عبدالله عمر الحاج، طبع مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث/الإمارات، د.ط، 2003م، 2/478. وينظر: محمد عماد سمير بيازيد: تعقبات الفارسي لشيخه الزجاج في الإغفال، دار النوادر/سوريا، لبنان، الكويت، ط1، 2012م، ص250-256. وينظر: سيف بن سالم بن فضيل المسكري: موقف أبي علي الفارسي من الزجاج في كتابه الإغفال-دراسة تحليلية، دار كنوز المعرفة/الأردن، ط1، 2016م، ص113 .
(22)    مشكل إعراب القرآن، تحقيق ياسين محمد السواس، اليمامة للطباعة والنشر/بيروت، ط3، 2002م، ص502 .
(23)    الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض، مكتبة العبيكان/الرياض، ط1، 1998م، 4/230 .
(24)    شرح المفصل، تحقيق أحمد السيد سيّد أحمد وإسماعيل عبدالجواد، المكتبة التوفيقية/القاهرة، د.ط، د.ت، 2/185 .
(25)    ينظر: شرح الأشموني، تحقيق أحمد محمد عزوز، المكتبة العصرية/صيدا-بيروت، ط1، 2010م، 2/364 .
(26)    فاتحة الإعراب بإعراب الفاتحة، منشورات جامعة أم القرى/معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي/السعودية، ط1، 2010م، 2/576 .
(27)    ينظر: شرح الكافية، 3/90 .
(28)    ينظر: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبدالموجود وجاد مخلوف جاد وزكريا عبدالمجيد النوتي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية/بيروت، ط2، 2013م، 5/183 .
(29)    شرح الكافية، 3/86 .
(30)    اسم الفعل – دراسة وطريقة تيسير، ص70 .
(31)    في النحو العربي قواعد وتطبيق، ص141 .
(32)    الكتاب، 3/280 .
(33)    شرح الكافية، 3/107 .
(34)    اسم الفعل –دراسة وطريقة تيسير، ص89 .
(35)    في النحو العربي نقد وتوجيه، دار الرائد العربي/بيروت، ط2، 1986م، ص206. وينظر: في النحو العربي قواعد وتطبيق، ص141 .

 

تعليق عبر الفيس بوك