جولة تاريخية لطفلين في عُمان

 

د. سيف بن ناصر المعمري

لا يزال التاريخ وبناء الهوية الوطنية يشغل جزءا كبيرا من تفكيرنا؛ لأننا نُريد أن نجعل الجذور التي تربط الأحفاد بالأجداد متينة ومُتصلة لا تضعف أو تنقطع نتيجة التفاعل في إطار ثقافة عالمية تعمل على توسعة الآفاق أمام أطفالنا لكن في إطار عالمي لا وطني، فنجد هؤلاء الأطفال مبهورين بأبطال ينتمون إلى مُجتمعات أخرى نتيجة الترويج لهم عبر الأفلام المرئية وما يصاحبها من منتجات اقتصادية، في وقت لا يعرفون كثيراً من رموز هويتهم الوطنية وتاريخهم الطويل، لأنهم لم يدرسوا عنهم في كتبهم المدرسية، ولم يقرأو قصة عنهم، أو يشاهدوا مسرحية أو مسلسلا تلفزيونيا عنهم، ولم يجدوا فيلما سينمائيا يجسد نضالهم وحركتهم التاريخية والإنجازات التي حققوها.

وبالتالي نعود ونسأل أنفسنا لمن يجب أن نوجه جهدنا التاريخي هل للكبار أم الصغار؟ من المستهدف الرئيسي هؤلاء الذين أصبحوا كبارا أم هذه الجموع المتزايدة من الطلبة الذين يتزايد اندماجهم في الثقافة العالمية يومًا تلو الآخر عبر الوسائل التكنولوجية؟ بلا شك أن مثل هذه الأسئلة على قدر كبير من الأهمية في إعادة بعث تعليم التاريخ العماني، وإنعاش دراساته وكل ما يتعلق به، خاصة في ظل التحديات المتنامية التي تواجهنا، فلايُمكن أن نمضي بثبات للمستقبل دون أن يكون لدينا فهم لتاريخنا جوانبه المشرقة أو تلك التي مثلت كبوات وطنية حفزت عملية المبادرة في التصحيح والانطلاقة للبناء مرة أخرى.

لنا أن نتخيل قيام طفلين عُمانيين بجولة إلى عمان يتم توثيقها مرئياً لتعرض لبقية أطفال عُمان، أي أن يكونوا بمثابة مكتشفين لجغرافية عمان وتاريخها، يمرون فيها بين الأزمنة والأمكنة، ويقدمون الروايات والحكايات المرتبطة بهذه الأمكنة والآثار والقلاع والحصون المختلفة، فيثيرون فضول من في سنهم من الأطفال عن تاريخ بلدهم، ويحفزون تفكيرهم، ويبعثون فخرهم بإنجازات إجدادهم، ويمضون يتحركون مع منطقة لأخرى، يتحاورون مع الناس والكتب بحثًا عن التفاصيل التي عاشتها عُمان، ويطرحون الأسئلة على المتابعين، ويوجهونهم إلى القراءة والرسم والتخيل، ويجذبون أطفالاً آخرين معهم في رحلة تصل إلى كل الأمكنة التي وصل إليها الحكم العماني أو وصل إليها العمانيون وساهموا في صناعة حضارتها وواقعها، يركبون الجمال، والخيول، والقوارب، ويتسلقون الصخور، والنخيل، ويركبون السفن التقليدية، ويرتدون زي المحاربين تارة، وتارة زي التجار، وتارة أخرى يرتدون زي النواخذة أو البحارة، ويتقمصون شخصية أحمد بن ماجد أو الخليل بن أحمد في بعض الأحيان، ويسردون الأمثال، ويحاكون ما قام به البناؤون والمهندسون في بناء الأفلاج أو القلاع، ويمضون في رحلة تاريخية لا تنتهي، يتنقلون من مغامرة إلى أخرى، يقدمونها بأسلوب شيق جذاب تتقبله الأفكار، وحين يثيرون الفضول، يمكن بعد ذلك أن تكمل دورهم المدرسة أو الأسرة أو المكتبات، لكن هل هناك إمكانية لقيام هذه الجولة خلال هذا العام، وما المؤسسة الرسمية أو الخاصة التي لديها استعداد لدعم الرحلة وتمويلها من أجل ترسيخ صلة الأطفال بجذورهم التاريخية.

كم من الأطفال الذين يمكن أن تحفزهم الرحلة التاريخية على الفخر بجذورهم وتعمل على توسعة أفقهم ومعرفتهم بتاريخهم، وذلك أساس قوي لإثارة دافعيتهم للعمل من أجل تعزيز مكانة بلدهم، كم من الأطفال المفتونين اليوم بالأبطال الوهميين سواء كانوا من واقعهم أو خارجه لكن من منهم مفتون بعلم البحار وأحمد بن ماجد، من منهم مفتون بناصر بن مرشد أو أحمد بن سعيد أو سعيد بن سلطان أو الخليل بن أحمد وغيرهم من الذين صنعوا الأمة العُمانية وحافظوا على وجودها، وضحوا من أجل قوتها، حين لا يوجد ما ينبهر به أطفالنا من تاريخنا فعلينا أن ندرك أن هناك شيئاً آخر يحتل اهتمامهم وعقولهم من أجل أن يملأ الحاجة إلى أبطال ومؤثرين يثير اهتمام هذه الأعمار، هل سنتردد في أن نساعدهم على تحقيق ذلك عبر الجولات التاريخية واستنطاق ما تخبئه الأمكنة؟ والتي ستقود إلى إعادة إحياء التاريخ والقوة الكامنة فيه، بدلاً من أن نترك أطفالنا ضحية لتزوير التاريخ الذي يبدو أنه يمضي بقوة من أجل صناعة تاريخ مختلف وبالتالي واقع مختلف.

يمكن أن تنطلق رحلات الأطفال التاريخية في مختلف المحافظات التي تعد غنية في تاريخها، ولاحقاً تنظم رحلة إلى الأرض العمانية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وبعد ذلك تنطلق رحلة إلى خارج الحدود إلى السواحل والمدن التي استقر فيها العمانيون خلال فترات زمنية، ولا يزال بعضهم يستقر فيها، وتنقل هذه الرحلة مرئياً إلى بقية الأطفال في عمان، وتنظم المعارض للصور التي تلتقط فيها، والمسابقات لأفضل تعبير تاريخي، وتنشر الملاحظات والتأملات في كتب توجه للأطفال، وكما نجحنا في تنظيم معرض رائع ومؤثر بعنوان رسالة الإسلام، يمكننا دعم قيام رحلات الأطفال التاريخية، وكما تنظم عدة مراكز رحلات إلى الدول الأوروبية للأطفال والشباب في الصيف لمعايشة اللغة والمجتمع الغربي يمكن أن توجه هذه الرحلات إلى حواضن التاريخ العماني، مما سيعكس روحاً أخرى، ويعزز من الوعي التاريخي لدى الفئة الصغيرة التي يقودها الفخر بشخصيتها إلى الإبداع والتجديد.