التبرؤ من الوهابية

 

 زاهر بن حارث المحروقي

    كانت تصريحاتُ الأمير مُحمد بن سلمان ولي العهد السعودي لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية بـ"أنّ انتشار الفكر الوهابي في بلاده يعود إلى فترة الحرب الباردة؛ عندما طلبت دولٌ حليفةٌ من السعودية استخدام أموالها لمنع تقدّم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي"، كانت تلك التصريحات بمثابة "تسونامي" سياسي من القوة بمكان؛ لأنّ ما قاله الأمير كان جريئًا وصادمًا لمُعتنقي ذلك الفكر، لذا فإنّ تبعات ذلك التسونامي مستمرة، وتحتاج إلى وقت حتى تهدأ؛ إذ لم تقتصر تصريحات الأمير فقط على الاستثمار السعودي في المدارس والمساجد حول العالم، واستخدام مالها لمنع تقدّم الاتحاد السوفييتي في العالم الإسلامي؛ بل اعترف بأنّ الحكومات السعودية المتعاقبة "فقدت المسار، والآن نريد العودة إلى الطريق". وأنه "يتوجب علينا اليوم إعادة الأمور إلى نصابها".

يقول الأطباء إنّ التشخيص السليم للمرض يؤدي غالبًا إلى العلاج الناجع، وكذلك فإنّ الاعتراف بالمرض يُعتبر أولى خطوات العلاج؛ وربما هذا ما قام به الأمير محمد بن سلمان بتصريحه ذلك، فقد شخّص المرض واعترف بوجوده، ولم يبق الآن إلا العلاج، ويبدو أنه باهظ التكاليف.

لقد أعطى تصريح ولي العهد السعودي، الضوءَ الأخضر لتناول مسألة الوهابية؛ فقد أتى على الناس حينٌ من الدهر لم يكن يُسمح فيه بتناول الفكر الوهابي، وإلا سيُعتبر الشخصُ المُتناوِل له معاديًا لأهل السُنّة والجماعة أو السعودية، هذا إن لم يتم إخراجه من المِلّة والدِّين؛ فنشأ التعصب الأعمى لدرجة أن تنشأ حركاتٌ دمويةٌ تقتل باسم الله؛ (وعندما كنا نكتبُ عن تلك الحركات كانت التّهمُ تُكال لنا جزافًا، وكأننا متعصبون أو مذهبيون أو عنصريون. رغم أنّ الوهابية اختطفت لنفسها مسمّى أهل السّنّة والجماعة، مُتجاهِلةً بقية مذاهب السُنّة. وهنا أنا أتحدث من الناحية السياسية وليس لي دراية باختلافات المذاهب). هذا غير تشويه صورة الدِّين الإسلامي، حيث ارتبطت كلمة الإرهاب بالإسلام، بسبب ذلك الفكر المتعصب والمنغلق، والذي أيّدته أمريكا بكلِّ قواها؛ إذ استغلته كأداة فقط لمُحاربة الاتحاد السوفييتي، وعندما انتهت المهمة، زجت بالشباب المسلم المغرّر به في سجن "جوانتنامو" سيئ السمعة، والآن يتم التبرؤ والتخلصُ من الوهابية، مثل قطعة محارم ورقية، بعد أن تم استخدامها الاستخدام السيئ. 

ولكننا نتساءل الآن: ماذا عن الفترة الماضية التي انتشر فيها الفكر الوهابي بفضل الدعم السعودي القويّ للمساجد، والمدارس، والدول، والمنظمات، والأشخاص في مشارق الأرض ومغاربها؟ وما هو رأي المتعصبين للوهابية، بعد هذا التغيّر؟. وماذا عن الأرواح التي ذهبت سدى؟! وماذا عن الأحاديث وفتاوى تلك الفترة؟. ليس أصعب على الإنسان من أن يكتشف أنه كان يعيش في خدعة ووهم، ولم يخلّصه من تلك الخدعة وذلك الوهم، إلا من أوصله إلى تلك الحالة. ثم كيف سيكون السبيل إلى العلاج؟. وهذا التساؤل في الواقع تساؤلٌ في محله ويجب أن يُطرح. فهل سيستطيع ابن سلمان أن ينجح في مهمته هذه، وهي العودة إلى "الطريق الصحيح" كما قال، وقد تغلغل الفكر الوهابي في عقول الملايين من الشباب، بفضل المال، والآلة الإعلامية والمنابرية والجامعية الضخمة، التي ظلت تلغي الآخر المختلف، وتبث حقيقة واحدة فقط هي أنّ "الوهابية" هي دين الله الصحيح، وما عداها فهو كفرٌ وزندقةٌ وبدع؟! فماذا كانت نتيجة ذلك؟.

كانت النتيجة أن جمد الفكر الإسلامي، فرفض أيّ جديد، لتطفو على السطح الحركات المشبوهة، ابتداء ممّن عُرفوا بـ"الأفغان العرب"، وليس انتهاء بــ"داعش"، حيث استغل رجال الدين، هؤلاء الشباب، وزرعوا فيهم أنّ أرض الجهاد هي أفغانستان، وهم لم يكونوا يعلمون أنهم مجرد أدوات في يد أمريكا، تنفيذاً لمخطط زبيجينيو بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي، بتطويق الاتحاد السوفييتي والشيوعية؛ وظهرت في تلك الفترة أشرطةُ كاسيت وخطبٌ وكتبٌ ومطوياتٌ تحث الشباب العربي على الجهاد، فيما انبرى علماء يتحدّثون عن أهمية الجهاد في أفغانستان والشيشان والبوسنة، ثم تنكر هؤلاء العلماء أنفسهم للشباب المجاهدين ضحايا فتاواهم، عندما تغيّرت الظروف واستنفدت أمريكا هدفها من الشباب العربي. والغريب أنه تم الإعلان عن تشكيل تحالف إسلامي لمحاربة الإرهاب، فيما الإرهابُ الأصلي موجودٌ في الفكر المنغلق الذي نشأت منه كلُّ حركات الإرهاب؛ والأغرب من ذلك أنّ إسرائيل كانت بعيدةً تماماً عن فكر وجهاد هذه الحركات المشبوهة؛ وهذا دليل على وجود خلل في العقل والفكر والضمير. 

يرى كُثْرٌ ممّن تناولوا تصريح الأمير محمد بن سلمان، أنّ هدفه من ذلك التصريح ليس فكريّا ولا مجتمعيّا؛ وإنما هو سعيٌ من أجل التحكم في زمام السلطة، وبسط سيطرته على الحكم. فيما يعتقد محللون أمريكيون، أنّ تصريحات ابن سلمان الأخيرة شكلت إقراراً صريحاً بأنّ الوهابية جُرمٌ ويجب إيقافه، كما أنه قدّم اعترافاً جديداً بشأن علاقة الوهابية بأمريكا، كسلاحٍ استراتيجي يُشهره النظام السعودي بوجه العدو، بناءً على طلب واشنطن وقت الضرورة. ولكن بغضّ النظر عن هذه التحليلات - إن كانت مصيبة أم مخطئة -؛ فإنّ ما يهمني في مقالي هذا هو أنّ التوجّه نفسه هو توجهٌ محمود وإيجابي، وسيُمثِّل تحولا كبيرًا ليس داخل السعودية فحسب؛ بل في العالم الإسلامي، خاصة في المناطق التي عانت معاناة شديدة من تغلغل الفكر الوهابي في عقول الشباب فيها، فخسروا الدنيا وربما الآخرة. وسيبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الأمير محمد بن سلمان أن ينجح في مهمته هذه، أمام نفوذ ذلك الفكر الذي وقفت الدولة السعودية معه بكلِّ قواها؟ ألا توجد تحديات قد تحول دون تحقيق ذلك النجاح؟.