مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (3)


ناصر أبو عون

 

الجزء 30 - سورة  النبأ – الآيات من (18 -25)
{يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿١٨﴾ وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَٰبًا ﴿١٩﴾ وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿٢٠﴾ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿٢١﴾ لِّلطَّٰغِينَ مَـَٔابًا ﴿٢٢﴾ لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا ﴿٢٣﴾ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴿٢٤﴾ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴿٢٥﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
في هذا اليوم المشهد عصيب، والموقف مهيب"يجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له المولود، وتنزعج له القلوب، فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، وتنشق السماء حتى تكون (أبوابا)، ويفصل الله بين الخلائق بحكمه الذي لا يجور، وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآبا، وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة"(1)
 (المشهد التصويريّ):
تعالوا"نتصوَّر مشهد هذه الخلائق جميعا.. أفواجا.. مبعوثين قائمين آتين من كل فجّ إلى حيث يحشرون. ونتصوّر الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة. ونتصوّر الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قطُّ في وقت واحد، وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم.. أين؟ لا ندري.. ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام: السماء المبنيّة المتينة.. (وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَٰبًا).. فهي منشقة. منفرجة. كما جاء في مواضع وسور أخرى. على هيئة لا عهدَ لنا بها. والجبال الرواسي الأوتاد سُيرت (فَكَانَتْ سَرَابًا). فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء، يحركه الهواء - كما جاء في مواضع وسور أخرى. ومن ثم فلا وجود لها فهي كالسّراب الذي ليس له حقيقة. أو أنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب! ثم يمضي السِّياق خطوة وراء النفخ والحشر، فيصوّر مصير الطغاة ومصير التقاة. بادئا بالأولين المكذِّبين المتسائلين عن النبأ العظيم: إن جهنم خُلقت ووُجِدت جَهَنَّمَ (كَانَتْ مِرْصَادًا لِّلطَّٰغِينَ) تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدَّة لهم، مهيأة لاستقبالهم. وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل! وهم يرِدُون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا)، ثم يستثني؛ فإذا الاستثناء أمَرُّ وأدهى: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا).. إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون. فهذا هو البرد! وإلا الغسَّاق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل. فهذا هو الشراب!" (2)
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
(يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ) "بدل من (يوم الفصل)، أو عطف بيان، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة، كما قال القاشاني والشهاب" (3)، أو "منصوبا بإضمار "أعني" (4)
(وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ) "إنّ مجرد تعلّق الفتح بالسماء مشعر بأنه فتح شديد"، و"في الفتح عِبرة; لأن السماوات كانت ملتئمة، فإذا فسد التئامُها وتخللتها مفاتِحٌ كان معه انخرامُ نظام العالم الفاني، والتفتّح والفتح سواء في المعنى المقصود، وهو تهويل يوم الفصل. "وفرع على انفتاح السماء بفاء التعقيب فكانت أبوابا، أي: ذات أبواب. فقوله: "(أبوابا) تشبيه بليغ، أي: كالأبواب، وحينئذ لا يبقى حاجز بين سكان السماوات وبين الناس" و"الإخبار عن السماء بأنها أبواب جرى على طريق المبالغة في الوصف بذات أبواب للدلالة على كثرة المفاتح فيها". (5)
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) "المرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومِفعال يكون كذلك على ما صرَّح به [الرَّاغِب والجوهري وغيرهما]، كما يكون اسم آلة، وصفة مشبهة للمبالغة، والظاهر أنه حقيقة في الجميع؛ أي: موضع رصد وترقّب ترصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم". (6)
(لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) "الاستثناء منقطع، يعني: لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حرَّ النار، ولا شرابا يُسكِّن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا وقيل "البرد" النوم" (7)
............................
المصادر:
(1)    (تفسير السعدي  - الجزء 8، [ص: 1929]).
(2)    (سيد قطب - في ظلال القرآن – الجزء 6 [ص: 3807 ]).
(3)    (محمد جمال القاسميّ – تفسير القاسمي - [17 - 18]).
(4)    رأي قاله الحلبي صاحب "الدر المصون".
(5)    (الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير – الجزء 31 [ص: 33]).
(6)    (تفسير الألوسي: الجزء 30).
(7)    (الزمخشري – الكشاف - الجزء 6 [ص: 300 ])

 

 

تعليق عبر الفيس بوك