الفلسطيني المقاتل في "وجوه" وليد أبو بكر

أمين دراوشة – ناقد وأديب فلسطيني – رام الله


ينتمي جميل الحيّاني إلى أسرة ريفية كبيرة، توزّعت في مجموعة من القرى الحدودية بعد أن استولى الاحتلال على أراضيها. اهتمت الأسرة بتعليم أبنائها، لأن الجهل كان أحد أسباب الهزيمة الكبرى في العام 1948م. لذلك لجأ أغلبية الشعب الفلسطيني لتحصيل العلم، باعتباره أحد الطرق إلى تحقيق الحلم بالعودة المظفرة إلى فلسطين.
وجميل هو المدرس الجديد القادم إلى رام الله، والذي يمتلك الثقافة والحسّ الوطني. ولم يكد يقضي في رام الله بضعة شهور، حتى باتت رام الله كلّها تعرفه.
يقول شريف الزوري عنه: "أحبه طلبته، وأحبه أهلهم، فانتقل الحبّ إلى الجميع، جميل الحيّاني، بسبب روح الحبّ التي ينشرها، صار ـ بالنسبة لنا  ـ موضوع شبهة" (ص44). إن له تأثيرا عميقا على الناس، عدا أنه صاحب أخلاق ومبادئ، وهو "شاب يلفت النظر بطوله وصحته، وبخطواته القوية فوق الرصيف، وبحركة عينيه وهما تحاولان الاستطلاع" (ص48). وهو يقيم علاقات مع كل الناس، "لا يفرق بين بريء ومشبوه. ولا بين مشبوه ومشبوه..وكأنه يرى نفسه فوقهم جميعا" (ص49).
المصادر الخاصة للحكومة، تقول: "إنه لا يتحدث إلا عن فلسطين" (ص49)، والتقارير الواردة حوله كلها تشير إلى أنه يبدو "نشيطا جدا، قادرا على الاتصال بالناس، وكسب ثقتهم. وهو حذر جدا، يخفي نشاطه وراء شبكة واسعة من العلاقات..ويقول التقرير إن كل الرقابة التي حاصرته لم تستطع أن تثبت شيئا، رغم أن الجميع على ثقة من أنه يفعل شيئا خطيرا" (ص45)، فحديثه إلى الناس له نغمة خاصة ومميزة، تنبئ بما يزعج، ويعرف شريف هذه النغمة جيدا، فهي "نغمة الناس الذين ينظمون أنفسهم ويتسلحون" (ص50)، لمقاومة ما يعتقدون أنه سبب الهزيمة والنكبة.
أخذ شريف، ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على جميل ورفاقه، انتقاما منه لأنه تسبب في تلويث عقل ابنته الحبيبة، وجعلها تنفر من عمله وتنبذه. وبعد أن اعتدى جيش الاحتلال على بلدة حدودية، وخرجت المظاهرات للتنديد ورفض العدوان، جاءت الفرصة المنتظرة، فتمّ اعتقال كثيرين، ومن ضمنهم جميل، وأذاقه شريف مختلف ألوان التعذيب، ليكتشف أثناء الانتقام منه وتعذيبه "أن ابتسامة جميل الحيّاني، لم تكن تظهر عند الحاجة إليها ـ كانت تتسع فقط ـ لأنها دائمة، ولأن شيئا ما كان يربطها بداخله، بشيء يقول إنه الكرامة، ويقول إنه الثقة بالمستقبل، بشيء كان يشعرني بأنه أقوى مني، وهو بين يدي" (ص57).
جميل البطل الفلسطيني المقاوم والمثقف، يظهر قويا ومتماسكا وهو تحت السياط، يعينه على الصمود إيمانه بالغد الجميل. وبعد أن ترزح الحكومة تحت الضغوط الشعبية، تطلق سراح الشباب، ويتأثر شريف لأن جميل سيرجع إلى الشارع، "كبيرا هذه المرة، واضحا كزعيم" (ص62). ولم تمض فترة طويلة، حتى التف الشباب حوله، وظهر السلاح بين أياديهم.
جميل إذن يتصف بالشهامة والإقدام والالتزام بقضية شعبه ويفعل ما يقول. وتقول نبيلة لأبيها عن ذلك "هو لا يقدر على الغدر، وحين يفكر بالإقدام على عمل، فأن ذلك يكون معلنا من قبل، وهو رجل منضبط" (ص64).
وهناك ما يشير إلى أن ثورة ستنطلق، فالشباب الفلسطيني الرافض للنكبة، شرع يحمل السلاح، مؤمنا بأن الحقّ لن يعود دون أن يتسلح بالقوة.
يحظى جميل بالحب والإعجاب من الجميع، حتى أنيسة التي ارتمت في أحضان العقيد حامد أبو رسن، وبعد هروبه في العام 1967م، لجأت إلى حضن شريف، عبرت لشريف بطريقة مواربة أكثر من مرة عن رغبتها فيه، ما جعله يزداد حيرة، ويسأل نفسه: "ما الذي يملكه جميل الحيّاني، ولا أملكه، وأنا أملك رام الله دون منازع" (ص84 ).
وبعد احتلال رام الله من قبل الإسرائيليين، وانخراط شريف في العمل معهم، يعود لأنيسة بعد انقطاع، وفي بيتها يسمع اسم جميل لأول مرة بعد الاحتلال، وتقول له: إن اسمه يتردّد في كل مكان في العالم كبطل للمقاومة.
يخاف شريف ويحدث نفسه: "جميل الحيّاني لم يكن شخصا عاديا إذن. جميل الحيّاني يرتفع كاسم يقود. جميل الحيّاني لم يمت، ولم يسجن، ولم يخن وعده، إنه يبني شيئا جديدا ـ كنا نحسّه ونقاومه ـ في زمن لم يعد أحد فيه قادرا على البناء" (ص114).
في لحظة صدق نادرة، يعبر شريف الزوري عن إعجابه بجميل، ويغدق عليه كثيرا من الصفات الإيجابية، ويحسده على ما وصل إليه، وعندما تقول له أنيسة: "من يستطيع أن يصدق أن هذا الرجل البسيط الذي عرفناه جميعا، يملك بين يديه كل هذا الطموح إلى المستقبل؟" (ص114).
شعر بالقلق: "إنهم يحلمون، فإذا كانت الجيوش القوية لم تصمد، فهل يصمد بضعة رجال؟" (ص114)، ولكنه بعد فترة، بدأ يشعر بقوة المقاومة، فالحاكم العسكري لرام الله، الذي ظهر بادئ الأمر لشريف صارما، وقويا، ومبتسما، وساخرا من المقاومة الفلسطينية، وواثقا من قدرته على وأدها، أصبح عصبيا، ومكشرا، وخائفا، وغابت الثقة في كلامه. وهنا يتذكر شريف ما قاله جميل: "هل تتصور أنهم مرتبطون بشيء. إنهم إذا خافوا سيهربون إلى المكان الذي جاءوا منه" (ص116).
يسافر شريف إلى الأردن، بناء على طلب الحاكم العسكري في رام الله، ليحضر ابنته، ولكنه يقبض عليه ويقابل جميل، الذي يأمر رفاقه الذين عذبهم شريف قبلا بضربه فلقة بالعصا، كتذكير له بما ارتكبه من جرائم. وترجع الصورة بشريف إلى الأيام التي اعتقل فيها جميل، وأطعمه مختلف صنوف التعذيب من الصفع إلى الجلد إلى وضع وجهه في التبن وبراز الخيل إلى جلب عملاقين "كانت قدم عملاق تضغط على رأسه، وقدم تضغط على ظهره" (ص147)، فيطلب شريف منهما أن يزيدا، لأنه يشتهي أن يسمع آلامه، ويعبر عن ذلك قائلا: كنت أريد "أن أسمع آلامه بقوة، وكانت ابتسامته لا تزال، كانت ركلتي في الوجه تحاول أن تشوّه هذه الابتسامة، ازدادت حماسة العملاقين، وتفننا في الضغط والقفز فوقه" (ص147).
مع انهيال السوط القادر على أن يخترق اللحم، لم يصدر عن جميل أي أنين أو صرخة، "وظلت ابتسامته تملأ وجهه، وكأنها جزء منه لا يمحى" (ص148)، حتى شعر العملاقان بالتعب، وتعب هو. وجميل لم يظهر عليه التعب، ويقول شريف: "جميل الحيّاني ظلّ يعذبني، ويعذب الذين تناوبوا عليه"
( ص148)، فما كان منه إلا أن ربطه بالجيب العسكريّ وسحبه، وغطى الدم جسده كله، و "لكن ابتسامته وحدها كانت تشع من وجهه متحدية كل ما يغطيه" (ص149).
وبعد مكوثه عدة أيام في الاعتقال في معسكرات الثورة بدأ شريف يشعر بالندم لأنه حاربهم، وعرف أنهم يريدون وطنا أضاعه غيرهم، وأنهم قرّروا تحمل المسؤولية، وأن يغيروا الواقع المزري الذي وجدوا أنفسهم فيه. ويقول: "كان اليأس من كل ما حدث هو الذي فتح لهم باب الأمل الجديد، فقرروا أن يواجهوا عدوهم" (ص151).
ويطلق سراحه، ويعود ذليلا وخانعا إلى رام الله، ويبدأ يهتمّ بالأخبار المتعلقة بالمقاومة وشراسة الاحتلال في محاولة قمعها، وفشله في ذلك. ويتذكّر صوت جميل ونبيلة، وهما يقولان له: "إن الناس لا يموتون، والحق بهم لا يموت أيضا" (ص153).
وكان هو يسخر منهم ويستهزئ ويضحك متسائلا عما يمكن أن يحققوه، إذا كانت الجيوش الكبيرة انكسرت، ولكن "حين انهار الحلم، ظلوا يحلمون" (ص153). وبعد حين أحس بالدهشة، وشعر "أن حلمهم يكبر" (ص153). وبعد تجاربه المريرة، يقتنع "أنهم كانوا يعرفون ما يفعلون، وإلى من يستندون حتى يحققوا حلمهم. الآن أعرف أنهم كانوا يتطلعون إلى صحوة ما، وأن الصحوة حدثت، وأن أية خطوة إلى الوراء لن تكون، لأنها ستكون الموت، وهم قاموا الموت، وما زالوا ضده" (ص154).
وينفجر الغضب الشعبي في وجه الاحتلال الإسرائيلي في رام الله ونابلس وغزة وفي كل مكان، وكل الناس يشاركون في المقاومة في المدن والقرى يواجهون بصدورهم العارية النار، ويتساءل شريف: هل "يستطيع أحد أن يقف في وجه كلّ الناس؟" (ص181). وكشفت الانتفاضة الفلسطينية العظيمة في العام 1987م عن قوة شعب لا حدود لها، وعن إيمان لا يتزعزع بالنصر، وهزيمة أبغض وأقسى احتلال في العالم.

شريف الزوري والطريق إلى الجحيم
تربى وهو محاط بعناية فائقة غير عادية من والدته، التي كانت تخاف عليه كثيرا، فتقدم له الحماية من كل شيء، من التعرض إلى الشمس، ومن المدرسة التي لا يحبّها، وتشكل عبئا عليه فيتركها. ونتيجة لهذه الرعاية، أصبح يخاف من عدة أمور: يرتعب من أفعال والده، الذي يحضر إلى البيت حية قتلها. ويقول شريف عن ذلك: "ويأتي يلاعبني بها فأهرب، بينما يتجمع أولاد الجيران حوله ليتفرّجوا عليها. ويضحكون من خوفي" (ص69). وهو يعيش في خوف دائم، يرهبه سماع صوت في الليل خوفا من ضبع يأتي إليه ويلتهمه رغم إن والده لا يخشى الضباع، بل يدخل عليها في مغاراتها. وسوف ينعكس عليه الشعور بالخوف مستقبلا، ويؤدي به لارتكاب أخطاء قاتلة.
وعندما كبر، ومرّ بأزمات حادة، تذكر خوفه السابق، وأرجع السبب في تهاوي حياته إلى الأحداث التي خاف منها، وهو يقول عما سببته له هذه الأحداث: "وارتجفت، وعرقت، وبلت في ملابسي، وأسرعت والدتي إليّ بطاسة الرعبة واقتنعت بأنني رقيق، وأن صحتي لا تحتمل، وأن أعصابي خفيفة، حتى أقنعتني بذلك" (ص69). وصار يبرّر كل ما يفعل، بأنه رقيق وهش، فالليل بارد ومخيف، والشمس تجعله يمرض، والواجبات الدراسية ترهقه، "والحياة كلها داخل المنزل، وعند حضن الأم" (ص69). وعندما كان والد يعترض، ويسأل زوجته، لماذا لا يفعل ما يفعله أولاد الناس؟ كانت تجيبه: "ابنك غير أولاد الناس" (ص69)، حتى بدأ شريف يؤمن بأنه يختلف عن الآخرين، وأن طريقه في الحياة مختلفة.
تملكت شريف رغبة عارمة في الالتحاق بسلك الشرطة الحكومية (قبل العام 1967م)، ويقول عن هذه الرغبة التي جعلت والده ينفر منه ويبعده عنه، أنها كانت المهنة التي لا تحتاج إلى شهادة مدرسية، التي لم أستطع الحصول عليها، أو "بسبب البدلة الرسمية، أو بسبب الهيبة التي كان يتمتع بها الشرطي في قريتي الصغيرة" (ص13). الوالد لم يعد قادرا على تحمل ابنه، لأنه كره عمله كشرطيّ، واعتبره خيانة للوطن والأرض التي قضى عمره يزرعها ويحرسها ولا يعرف طعما للحياة إلا إذا رآها مليئة بالثمار.
ويتذكر شريف، عندما اضطر إلى العودة إلى قريته للمرة الأولى بعد مغادرته إياها لفترة طويلة، لأن الظروف تطلبت منه الاختباء، أنه أجبر على رؤية وجه والده "وهو يشتم اليوم الذي أنجبني فيه، لأنه يعتبرني عارا عليه" (ص11). وكان هو يسخر ويضحك من هذا الكلام الفارغ، ويعتبر زمن والده ولّى وأنه لا يفقه شيئا بالدنيا، ويملك وجها لا يكف عن العرق، ويدين خشنتين "من حمل الفأس، رغم أنه يعتز بهما ـ فأضحك ـ حين يقارنهما بيدي الناعمتين اللتين تحسنان الاصطياد، ولا تحسنان التعامل مع الآخرين" (ص11).
وفي أكثر من مرة وصف الأب ابنه بأنه قضى وسيقضي حياته مختبئا كالفأر، ولكن شريف كان يهزأ في سرّه من هذا الوصف، وكان يقول: "أعرف أن الأيام المقبلة لن تكون سوداء، وأن غيري هو الذي سيحاول الاختباء" (ص11).
الوالد الذي تركت الأيام علامات يعجز الزمن عن محوها في ظهره لطول انحنائه، وهو يعتني بأرضه، كانت أمنيته قبل موته أن يورّث ابنه الأرض والفأس وحبّها والحنو عليها، لكنه حين أقتنع أن لا فائدة مرجوة منه، وأنه لا يريد سوى الأرض وحسب، أوشك أن يتبرأ منه، ويقول شريف عن موقف والده هذا، "لأنه يخاف على أرضه لو ورثتها، وأحسست بأنه يصرّ على الحياة، ويتمسك بها، من أجل الفأس قبل الأرض" (ص12).
وعندما يقتنع الأب بشكل قاطع، أن ابنه سار في طريق تبعده عن الأرض والفأس والناس، يقرر أن يبيع الأرض لابنته المتزوجة (حورية)، لأنها الأقدر والأجدر على المحافظة على الأرض ونقائها. ولا يشعر شريف بالخسارة، لأنه يسير سريعا من نجاح إلى آخر؟ النجاح الذي وقف والده في طريقه ليعيقه عن تحقيق طموحاته، لأنه كان يعتبر الطريق الذي يسير فيه خسارة شخصية له. وحتى عندما مات، ظلّ وجهه يطارد شريف في كل مرة يزداد فيها صعودا في عمله. ويتحدث شريف عن ذلك قائلا: لم "يكن غريبا أن يطلّ وجهه عليّ مع كلّ ترقية أحققها، فأحاول أن أتجاهله، لكنني لا أنكر أنه كان ينغص عليّ فرحتي" (ص12). وهو يعزو خلافه مع والده إلى اختلاف في وجهات النظر بينهما، وبالتأكيد يقول: "أن وجهة نظري هي الصحيحة، لأنني تحركت، وبقي مكانه، ولأنني عرفت، ولم يعرف" (ص13).
الأم، وبالتأثير من الأب، تبدأ فهم مدى خطورة عمل ابنها، فتعبر عن رفضها له، ويرجع شريف موقف أمه إلى إقناع والده لها بأنه يقوم بعمل لا يرضي الله ولا الرسول، و"لأنني أضرّ بأولاد خلق الله دون سبب" (ص14).
ويموت الأب غاضبا على ابنه، واصفا إياه بأنه جاسوس على أهله. ويبتعد كل الناس عن شريف، ويشعر بذلك، ففي عزاء والده لم يكن المعزون يعيرونه اهتماما وانتباها، وحديثهم كله كان موجها إلى المختار، وكأنه ابن المرحوم.
يغرق في عمله في رام الله، وعندما يتذكر الأرض، يصمم على العودة إلى قريته للمطالبة بحقه مستغلا منصبه، لكن الأخت مالكة الأرض الآن، ترفض مشاركته، وعندما يحاول الضغط عليها، تتدخل والدته المريضة التي لم يزرها منذ أمد بعيد، لتعبر بقوة عما في قلبها، وتبصق عليه وتعلن برأتها منه. ويعبر هو عن ذلك الموقف الصعب بالقول: إن بصقة والدته أعادته "إلى واقع تمنيت لو لم أعشه، وسمعت صوتها يعود كما كان أيام شبابها: أنت لست ابني، لعن الله البزّ الذي أرضعك، إنني أتمنى لو كان حليبي سمّاً حتى لا أرى هذه اللحظة، أتمنى أن أرى فيك يوما يا شريف، وأن تقف أمام أولادك كما أقف الآن، وأن يتبرأوا منك كما أتبرأ منك أمام الله وخلقه" (ص72). وتضربه بالعكازة التي كان والده يستخدمها، ويحسّ بلسعة عكازه على كتفه، لكنه يرجع إلى عمله في مطاردة الشياطين المزروعة في الأرض، والتي تعمل على تخريبها، واثقا من قدرته على إرعابها وزرع الخوف فيها والقضاء عليها.

"أنا" شريف الزوري والسادية المتضخمة
يتفانى شريف في عمله، ويخدم رؤساءه بكل إخلاص، ويستطيع الحصول على ثقة رئيسه وحاكم رام الله العقيد حامد أبو رسن. أما اسمه فصار يثير الرعب والخوف بين الناس، وهو يقول لنفسه متفاخرا لقد "حققت في بضعة أيام ما يحتاج غيري إلى سنوات في تحقيقه" (ص31). ويشعر بقوة مضاعفة بعد اعتقال الخطرين على الأمن وزجهم في السجن، وممارسة ساديته عليهم بالتفنن في تعذيبهم، ويحس بالخيلاء والزهو عندما يسير في شوارع رام الله، ويعبر عن ذلك بقوله: "أحسست بأن قامتي صارت أطول، وأن صوت خطواتي على الرصيف صار أعلى، وأنني، بكل بساطة، صرت أحكم رام الله كما أشاء، ودون أن يرفع أحد نظره إليّ، ودون أن يجرؤ أحد على الشكوى أو الاحتجاج" (ص31). ويقوم بنشر المخبرين في كل مكان، يحصون على الناس أنفاسهم لمنعهم من أي فعل، ويضيف شريف: "كانت سطوتنا تتخذ موجات متتالية، ما تكاد موجة تفقد قوتها حتى تبدأ موجة جديدة ـ هل كانوا يتوالدون ـ تذكّر الناس بنا وبما نستطيع أن نفعل" (ص32).
وأقبل الحظ مبتسما لشريف، عندما لاحق إنسانا وقبض عليه، وحقق معه بقسوة، ويعبر عن اندهاشه أن المشبوه لم يستخدم مسدسه وقد كان قادرا على قتله، فيجيبه المعتقل: "أعتقد أن لديك أطفالا" (ص33). ويضحك شريف على الإجابة الساذجة. كان الرجل صيدا ثمنينا، لأنه كان ملاحقا من السلطات منذ فترة طويلة، ونال شريف إعجاب رئيسه ومن هم أكبر منه وبعد هذا النجاح، قرر أن ينتقل من بيته المتواضع إلى بيت أوسع وأرحب، لكن البيت الجديد لم يعجب الزوجة، وأدت خلافاتهما المستمرة حول عمله إلى انفصالهما على أرض الواقع. واكتشف شريف أنه يستطيع أن يطرق أبوابا أخرى، ويتعرف على نساء أجمل وأكثر فتنة.
يحس شريف بالعزة والكبرياء والغرور، ويعاني من نرجسية تجعله يطارد نجاحه المزعوم ولذته ولو على حساب أقرب الناس إليه، فالبيت الذي أعجبه، يطلّ على الناس، ليراهم من فوقهم، ويبرر ذلك بكونه يريد أن يشعر بمكانته بعيدا عن وجوه الناس، كما يشعر بها وهو يواجههم. وبعد أن يتعرف على أحدى القوادات التي قالت له: عليك أن "تحميني، وتنال مني ما تريد" (ص37)، يغرق في المتعة واللذة، وينسى أهل بيته، وحتى ابنته التي لا يعرف حبا غيرها، فتخط لنفسها طريقا مختلفا ونقيضا لوالدها، وتلتحق بالعمل النضالي مع جميل الحيّاني.
جميل الحيّاني الذي يرفض عرضا من العقيد أبو رسن إعطاء دروس خصوصية لأخ أنيسة عشيقته (التي كانت تشتهي جميل)، يثير غضب العقيد، ويطلب من شريف مراقبته، فيفرح لهذا التكليف، لأنه أخيرا سيصطاده، ولكنه يقول: "كنت حزينا، لأنني منذ رأيت وجهه، أحسست بابتسامته تعذّبني، وبأنها قوية وواثقة، يصعب أن تغيب" (ص44).
أخذ شريف الضوء الأخضر من العقيد، ليفعل بناس رام الله ما يشاء، فقد أخبره أن يومه جاء ليظهر بطولاته، فأبو رسن كان يدخره للأعمال القذرة، ويقول شريف، وفرحت بذلك "لأنني أحسست بأنني أساهم في نظافة المدينة التي أحبها" (ص18). وقام بعدة حملات أمنية، أدت للقبض على كثير من المناضلين الذين كان يسميهم باللصوص الجدد، بعد أن أقتنع بكلام أبو رسن أنهم يسرقون أمن البلاد.
ويتحدث شريف بإيمان غريب، بأن هؤلاء الأبناء لم يحصلوا على تربية صحيحة، لأن آباءهم أصلا بحاجة إلى تربية، فهم مذنبون، شاركوا في تظاهرات أيام الإنجليز، ومنهم من حمل السلاح أو عمل على تهريبه، "وبعضهم هتف لمن لا يسمح بالهتاف له، أو استمع إلى إذاعة حرّم القانون الاستماع إليها، وبذلك كان خارجا على القانون، وعلّم ولده أن يخرج" (ص19). وهو يبرر لنفسه استعمال القسوة والعنف ضد الثوار أو الجبهة المضادة كما يسميهم، بأنه حاول معهم بالمنطق ودون استفزاز، قائلا لهم، إنهم يخربون أمن البلد "لكن ما فاجأني هو أن نظرة الاحتقار التي وجهوها إليّ كانت أكبر مما شاهدته أيام النفي الأول، مما زاد غضبي عليهم كثيرا، فقمت بعملي على أحسن ما يرضي رؤسائي" (ص28). وهنا ازدادت جرأته، وأقام علاقة وطيدة مع أنيسة عشيقة العقيد، وفي ذروة نجاحه المزعوم، شنت إسرائيل عدوانها على البلدان العربية واحتلت ما تبقى من أراضي فلسطين، ليهرب أبو رسن، وتختفي نبيلة، ويوصد شريف الباب عليه وعلى زوجته.

تعليق عبر الفيس بوك