هُورة مجلس الشورى إلى أين؟

حمد بن سالم العلوي

ليس من أحدٍ يقبل أن يكون مجلس الشورى مجرد واجهة رمزية وحسب، وفي نفس الوقت لا نقبل أن يكون منصة لتفريخ أبطال وهميين على حساب الوطن، ففي كل فترة انعقاد جديدة، ينبري لنا بضع نفر يرغون ويرعدون ويزمجرون باسم الوطنيّة، والإخلاص الذي لا قبله ولا بعده إخلاص صادق كمثل إخلاصهم، وهم منه براء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، ويزعمون أنّهم يتميّزون على غيرهم بوجود مصورين خاصين لهم، يخرجون لهم مقاطع الفيديو الطنانة الرنانة، ويكتبون عليها عبارة المقطع المثير للعضو الفلاني الذي منع بثه في التلفزيون الرسمي، كنوع من التشويق والإثارة، وكلهم يستغلون حرية الرأي والتعبير، ويزعمون في نفس الوقت بعدم وجود حرية في التعبير.

فأحدهم يخاطب وزيرا من الوزراء بالقول: "إذا أردتم أن يستقيم الأمر في وزارتكم، فعليكم أن تفصلوا هذا الجالس خلفكم من وظيفته" وكأنّ الجالس خلفه شيء "نكرة" ليس له اسم ولا صفة رسمية، وقد يكون الشخص المعني بـ"هذا" وكيل الوزارة، ويأتي فطحل آخر فيقول للوزير الضيف على المجلس، عليك أن تستقيل من الوزارة، لأنّك لم تقنعني بالجواب عن كذا وكذا، أو لأنّك لم تحقق الشيء الفلاني في وزارتك، والمصيبة خارج المجلس يعتذرون مما قالوا.. كفى تمثيلا.

إنّ الأمة تريد من عضو مجلس الشورى الذي انتخب ليمثلها، أن يكون قلب هذه الأمة، وضميرها النابض بالمسؤولية الوطنية، وأن يتحلّى بهيبة الملوك وفضل العلماء في السكينة والوقار، وألا يكون مهذاراً ثرثاراً لا يعي ما يقول، ولا يعرف ما يريد من كونه عضواً في مجلس الشورى، ويقلص بنفسه دوره كممثل للشعب، إلى مندوب خدمات عامة، أو مخلص طلبات فردية لا تحقق المصالح العامة للوطن، ورغم أنّي أعلم أنّ هناك ندوات تعريفية بأعمال المجلس ونظامه الداخلي تعقد للأعضاء الجدد، إلا أنني أرجو أن تكرر هذه الندوات.

وألا يُحصر الأمر على المحاضرين من الخارج، وإن كان يُقال مطرب الحيّ لا يُطرب أهله، ولكن هناك أساتذة عمانيون يجيدون إعطاء الدروس في حسن التعامل البيني، وذلك ضمن السّمت والمذاهب العُمانية في الأخلاق، وحسن إدارة الحوار، وإن كثرة الصراخ والزعيق والنعيق، قد تعطب طبلة الأذن، وتعيق السمع والإنصات الجيّد، وتنرفز مزاج الجميع، سواء كانوا أعضاءً في المجلس، أو متابعين عبر وسائل الاتصال المرئي والسمعي.

لقد ألِف العُمانيون هذه الحركات الصبيانية من البعض، خاصة عندما تقترب نهاية فترة المجلس، وتقرب فترة الانتخابات القادمة، وإلا كيف تمر ثلاث سنوات من عمر المجلس، ولا يكتشف هؤلاء الوطنيون الأقحاح أنّ الوضع في داخل المجلس لا يطاق، ويوجِّب الاستقالة عبر تغريدة في "تويتر" وبالمناسبة عرفنا التغريدة تنم عن صوت عذب لعصفور يشدو بالشوق إلى المعشوق، وهناك مصطلح آخر يسمى "غيرود" للناجع على الإبل من موطن إلى موطن، وقد حَنَّ قلبه إلى الوطن الأول، أو حَنَّ لمن سكن الأوطان، فيشدو بغيرود لحنيّ جميل يشدو به إلى الحبيب، أو لمسافر قطع الفيافي والقفار وشدّه الشوق إلى الوطن، فتجده يغرد بلحن حنين الشوق بسبب مرارة الفراق، أمّا ما ينشر في "تويتر" فلا يجوز أن يسمى تغريداً لوجود فارق في المعنى، وهو في الغالب يمثل مناكفات لفظية، أو مهاترات كلامية تسمُّ البدن.

إنّ مجلس الشورى يضم بين أعضائه عباقرة أفذاذا يكسو نفوسهم الأدب والوقار، فترى أعمالهم ولا ترى صورهم أو أصواتهم، وحتى لو استمعت لأطروحاتهم، لوجدتها قطعا أدبية لا تمل سماعها، وإذا نشرت تود تكرارها لتحتفظ بها كمراجع من دواوين الأدب، ولكن البعض الذي يطربه كثرة الصراخ، يُعجب بهؤلاء ويتعجب من صمت أولئك، لأنّ فارق التربية أصبح له دور في التذوق، وهناك أناس يطربهم كل شيء يزعج الحكومة، فيعدونه نصراً مؤزراً للصرَّاخ لأنه من أمثالهم، أما من تربَّى على قيم السبلة العُمانية، فلا يعجبه الصياح والصراخ لأنّه في عرفه مذموماً مستنكراً، ويرى في صياح اليوم نذير شؤم للغد، فقد يتطوّر بالغد إلى قذف وشتم، ولا يستبعد أن يتطور إلى حوار بالكراسي، وربما لأنّ الكراسي عندنا مثبتة في الأرض، فقد يستعاض عنها بالعصي والخناجر، هذا لمن كانت قدوتهم في ذلك بعض المجالس العربية، أو أمثالهم من دول العالم الثالث، وعُمان حتماً ليست من هؤلاء أو أولئك، وهي مختلفة من الأصل عن الكثير من الدول العربية، وتاريخها الطويل الغني بمفردات الأدب والوقار، يبعدها عن الصراخ والغوغائية واحتكار الوطنية، والتاريخ مليء بالعبر والدروس لمن أراد أن يعظ نفسه بنفسه دون واعز خارجي.

إنّ الهُورة والوجلة والصراخ تحت قبة سقف عُمان الرفيع، أمر مرفوض من غالبية الشعب العُماني الكريم، مهما كانت مبرراته ومسوغاته، حتى ولوكان ارتفاعًا في قيمة الوقود شماعة لذلك، فطالما ظل الوطن يمر بأزمة اقتصادية صعبة، فلن نزيد الطين بلة، ونحن كلنا متضررون من الإنعكاسات السلبية لهذه الأزمة، التي تطحن دول فاحشة الثراء وليس عُمان وحدها، إذن لا بد من ضبط النظام في المجلس، وألا يترك يخرج عن عقال الوقار والاحترام، مهما كانت الظروف صعبة وقاسية.

إنّ خير مثال للوقار والاحترام العُماني اليوم، ذلك المتمثل في إدارة وإنسجام مجلس الدولة الموقر، ولا أظن مطلقاً أنّهم أقل وطنية ومسؤولية تجاه الوطن من مجلس الشورى، وربما أتى هذا الفارق الكبير بين المجلسين، وذلك نتيجة لفلسفة اختيار الأعضاء، ففي اختيار عضو مجلس الشورى تتدخل فيه عوامل عاطفية كثيرة منها القبلي والمناطقي والمنافع ووعود المصالح، ولكن اختيار عضو مجلس الدولة يأتي من لدن جلالة السلطان قابوس المعظم نفسه - حفظه الله ورعاه - بترشيح من أهل الحل والربط.. لذلك تجد قرارات هذا المجلس في مستوى رفيع، مفعم بالوقار والاحترام والمسؤولية، ودون قرقعة وهُورة تصمُّ آذان السامعين، وختاماً أقول لمن قال إنّه أراد أن يبرئ قسمه أمام المجلس، فما أظن أنّ القسم لم يشتمل على احترام النظام الداخلي للمجلس، وحتماً لن يشترط النظام تقديم الاستقالة من خلال "تويتر" وبالصراخ داخل المجلس.