الشّاعر الفلسطيني أحمد دحبور"عود اللّوز ما زال أخضر"

أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات


رحل "طائر الوحدات" قبل أشهر، تاركاً خلفه عالماً يعاني من "اختلاط اللّيل والنّهار".. رحل "الولد الفلسطيني" بعد أن روى لنا حكايته، ووقّع "شهادة بالأصابع الخمس"، تشهد على فقره ونفيه وتشرّده، وقبل كل ذلك تشهد على فلسطينيته التي نفحها روحه وشعره الفصيح، وشعره العاميّ الذي أصبح أغانيَ للعاشقين..  رحل أحمد دحبور، وبقي عود اللوز الأخضر مزروعاً في الدار، متضوّعاً بعطر حيفا التي لم يشعل أهله فيها له شمعتين في عيد ميلاده الثاني، بل حملوه في رحلة نفي طويلة خارجها؛ ليعيش مسكوناً بالهوية الوطنية الفلسطينية التي بقيت حاضرة في شعره حتى النزع الأخير.
في شعر أحمد دحبور يستطيع القارئ أن يلمس ثنائية الخاص والعام في أكثر تجلياتها، ينغلق الشاعر على بيته وأسرته وهمّه، ليكون "جمل المحامل" الذي يتحمل الجميع، ويتّسع ليكون فلسطين ببحرها وجبالها وسهولها ورؤاها المخضرّة. هو في بيته الصغير ابنُ أبٍ يحاول أن يعيل أسرته من غسل الموتى ومن إيقاظ الناس في سحور رمضان، أبٍ "يقرأ سورة الرحمن والبلد الأمين/ فيرطّب الله التراب على العباد النائمين".
وهو ابن أمّ تعاني الفقر والحاجة في أقسى صنوفها، وتكابد جرح الكرامة الذي تعضّ عليه من أجل أطفالها، وتخفي دموعها حين يفرح أولادها ببقجة الثياب التي تأتيهم عن طريق المساعدات، لأنها لا تريد أن تسرق لحظة فرح عابرة من حياتهم، ومن حياة أطفال المخيم المليئة بالبؤس:
عرسُ المخيم هذا فائق البهجهْ
تضيئه امرأةُ الخوريّ بالبقجهْ
مستبشر كل بيت
أختنا رقصت
هذي البلوزةُ لي، رفرفتُ
والكرةُ البيضاء لي
وأخونا شدّ معطفـ "ـه" البنيّ
أمّي تدارينا
وتشفقُ أن نرى أساها
الذي صارته عيناها
إنّ صورة الأم في شعر دحبور صورة نموذجية، فهي تسهر على مرض الشاعر وغربته، وتفهمه حتى قبل أن يتكلّم، وتدرك أبعاد رسائله، على الرغم من أنها لا تحسن القراءة والكتابة. يقول دحبور:
طرّزتُ لأمي مكتوباً من غير كلامْ
حمّلتُ إليها ألفي حمل سلامْ
وأنا أمي لا تقرأ
وستفهمني
وتكاتبني
من يرسلُ منكم مكتوباً
من غير كلامْ؟
هذه الصورة الجميلة للأم تمتزج لديه بصورة أخرى لا تقل عنها جمالاً، إذ تنقل إلى موقع آخر يظهر في قوله: "أسأل الحجر الذي رشقته أمي في التظاهرة الأخيرة" لتلتحم هذه الرؤية برؤى شعراء آخرين، عبّروا عن ذلك الحبر السرّي الذي يربط الأم بالوطن.
إذاً فالأم التي تفهم أولادها من غير كلام هي ذاتها التي ترشق الصهاينة في المظاهرة، فالأسري هنا ينفتح على الوطني؛ ليشكّل رافداً من روافد الموقف الرؤيوي الذي يسعى الشاعر الراحل إلى تأكيده من خلال مواقفه المتعددة؛ فهو ذلك الرجل الفلسطيني الذي ولد في زمن الانكسارات والخيبات:
أنا الرجل الفلسطيني
أقول لكم رأيت النوق في وادي الغضا تُذبحْ
رأيتُ الفارسَ العربيَّ يسأل كسرةً من خبزِ حطّينِ
فكيف بربّكم أصفحْ
ومن هذه الانكسارات تعلّم الراحل أحمد دحبور ألا يخضع، وتعلّم أن يجابه، محددا موقفه من القضايا الوطنية، بكثير من الوضوح، ومن ذلك ما قاله حول (العودة الملتبسة) بعد توقيع اتفاقية أوسلو؛ إذ شعر الرجل بمرارة الانتماء، وأحس أنه يعيش في هذه الحالة هجرة ثانية إلى منفى جديد؛ لا يشعر فيه بأنه يملك الوطن والتاريخ. يقول دحبور:
إنّ للاشيء في تربته نعتاً ومعنى
ليت أنّي، ليت أنّا
غير أنّا
غير أنّي ها هنا الآن:
لماذا؟ وبماذا؟ والسنونو حائرهْ
عودة أم هجرة ثانية يا أيها السرب المعنّى
لقد عاش أحمد دحبور المنفى بكلّ تجلياته، حتى بعد أوسلو، وكانت روحه تنوس بين عذاب المنفى ولهفة العودة، فراح يسبر أثر غياب الفلسطينيين عن أرضهم، من خلال إقامة علاقات شديدة الخصوصية بين الأرض ونباتاتها؛ إذ لا تجد الياسمينة العطشى من يسقيها، وحين ترسل عطرها لا تجد من يشتمّه، فتتقوقع على نفسها شاعرة بغربتها عن المكان. يقول دحبور:
تطلب الياسمينة ماء،
لا ضوء يكفي ليغسل وجه المكان
والعطر يرسله الياسمين إلى لا أحد
ولعلّنا نشير إلى أنّ ارتباط الشاعر بالطبيعة، بياسمينها ولوزها، دفعه إلى تكرار مقولة الاستمرار في الحياة، وصياغة الوجدان المقاوم، إذ يؤكّد أن قدر الفلسطيني دائماً هو أن يعيش، وألا يستسلم للموت، وأن يبحث عن قيامته الجديدة بين ركام المجازر. يقول دحبور:
آن أن تدركي أنني لا أسلّم بالموتِ
لا تضحكي،
قد أموت لمدّة كأسين، أو سنتين،
وإن شئتِ مجزرتين،
ولكنّ لي، بعدَ ثالثةٍ، أن أقومْ
والحياة عند أحمد دحبور لا تمثّل إرادة الإنسان فقط، كما بدا في المقطع السابق، بل تمثّل منطق الكائنات جميعها، لأنّ الفضاء سيأتي وإن أضربَت النافذة عن عملها، ولأنّ الغناء سيستمرّ وإن أضربت عنه العصافير، ولأنّ المطر سيهطل وإن أضرب الغيم. وباختصار: فإن الحياة لدى دحبور ستواصل مسيرتها مهما حاولت الكائنات إيقاف هذه المسيرة:
أضرَبَ الشّباكُ، لكنّ الفضاءْ
لم يزل يهب، من مستقبل الشباك، أو يأتي إليهْ
أضرَبَ العصفور، لكن الغناءْ
لم يزل يقتاد طفلا حالما من أذنيهْ
أضرَبَ الغيم، ولكن الشتاءْ
حدّد الموعد،
والمزراب يغري العتبه
ما الذي تطلب هذي الكائنات المضربهْ؟
وهو يستند إلى ملاحم العرب وأيامهم، وإلى مقتل كليب تحديداً، ليؤكد موقفه الواضح من الصراع مع الأعداء، فهو يستعيد مقولة كليب ذاته، ويخطّها مرة أخرى على جدران المخيم، بعد أن أطلّ عليه وجه كليب، طالباً منه عدم المصالحة:
رأيت رأسَ كليبٍ
يضيء وجه المخيّمْ
يقول لي: لا تصالحْ
يقول لي: أنت مُلزمْ
إنّ الدّما لا تسامحْ
ومثلما لجأ الشاعر إلى مقتل كليب ليدعم فكرته، فإنه يلجأ إلى الأساطير والكتب المقدسة وغيرها؛ ليمتح من بئرها جميعاً، وها هو ذا يعود إلى قصة يوسف عليه السلام، حيث ينتظر الجميع عودته، في إشارة إلى العودة الفلسطينية المظفرة، من خلال رمز الكوفية:
قد ابيضّتْ عيونُ الأهلِ، والبئرُ التي تخفيكَ
لم ترسلْ قميصاً منكَ أو كوفيّةً
فاصعد إلينا مرةً في الشَّهرِ، جِئْ في الليل
جئ في النّهرِ يا عينيْ أبيكَ الصّابرِ المكدود
وأخيراً فإننا نقول:
إذا كان جلجامش قد أنفق حياته بحثاً عن عشبة الخلود دون جدوى؛ فقد وجدها الكنعاني أحمد دحبور منذ البداية، إنها أبجدية فلسطين التي اشتقّها من عود لوزها الأخضر، فكتب القصيدة تلو القصيدة والأغنية تلو الأغنية؛ ليبقى خالداً في ذاكرة الوطن التي لا تعرف النسيان.
هامش:
أحمد دحبور (1946 ـ 2017) ـ أعماله الشعرية: (اختلاط الليل والنهار) و(أي بيت) وبغير هذا جئت) و(جبل الذبيحة) و(حكاية الولد الفلسطيني) و(ديوان أحمد دحبور) و(شهادة بالأصابع الخمس) و(الضواري وعيون الأطفال) و(طائر الوحدات) و(كسور عشرية) و(كشيء لا لزوم له) و(مواجهات) و(هكذا) و(هنا.. هناك) و(واحد وعشرون بحراً).

تعليق عبر الفيس بوك