سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (28)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيدي – جامعة نزوى


فاجأني تلميذي النجيب يوما فسألني ما الفرق في التعبير القرآني بين (يا أيها الذين آمنوا...)، و التعبير بقوله: (المؤمنون – المؤمنين...)؟ أهما متساويان في القصد والدلالة ؟
فكان جوابنا عن الفرق بينهما، وعطفاً على ما درجنا عليه في استقراء ما ورد في القرآن الكريم من الآيات موضع السؤال، فقد وردت عبارة (يا أيها الذين آمنوا) 89 مرة، والتعبير بـ (المؤمنون) رفعاً، ونصباً، وجرّاً، 174 مرة. وفي هذا الإحصاء مغزى:
إنّ (المؤمنين) هذه الصيغة تنبئ عن اكتمال صورة (الإيمان)، وسيرد بيان ذلك. ويقتضي منّا أن نذكر:
أولاً: معنى (الإيمان) لغةً:
"الإيمان: التصديق نفسه"(1).
ثانياً: الإيمان المطلوب شرعاً:
قال تعالى: (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نقرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير. سورة البقرة – الآية 285) فالرسول القدوة والأسوة الحسنة آمن بالوحي وما تضمنه.
انظر يا ولدي إلى لفظ (المؤمنون) وإلى (أل) الداخلة عليه والتي هي لاستغراق الجنس، المرادفة بـ (كلّ) لإزالة أيّ شكّ عدداً وصفة لبيان مراتب الإيمان: الأولى: بالله، والثانية: بالملائكة، والثالثة: بالكتب، والرابعة: بالمرسلين،، ويعلّق أبو حيّان الأندلسي (ت745ه) على هذا فيقول: "وهذا الترتيب في غاية الفصاحة"(2).  
نلحظ في خطاب الله جلّ شأنه بـ (يا أيها الذين آمنوا) التي وردت في جميع القرآن، أنها مردفة بأفعال تستكمل للذين آمنوا صفاتٍ شتّى بين أوامر، ونواهي وأخبار، وعلى الوجه الآتي:
فقد وردت صيغة الأمر بعد تلك العبارة نحواً من ثلاثين منها:
(استعينوا بالصبر...
كلوا - مرتين.
ادخلوا.
أنفقوا - مرتين.
اتقوا – وردت ثماني مرات.
اصبروا.
أوفوا.
اذكروا.
كونوا. وغيرها كثير.
أمّا (لا الناهية) التي تصدرت الفعل المضارع فوردت نحو خمس وعشرين مرة منها:
لا تقولوا...
لا تبطلوا...
لا تتخذوا، وردت ست مرات.
لا تأكلوا، مرتين.
لا تكونوا، مرتين.
لا تقربوا...
لا تحلوا...
لا تحرّموا...
وغير هذا كثير.
ما أخلص إليه: إنّ الله يتدرج في استكمال صورة الإيمان عند الذين آمنوا بدءاً به، فيريد منهم بأوامره ونواهيه أن تتمكن في أنفسهم أحداث تلك الأفعال وما تتضمنه من معانٍ في سياقها، هذا فضلاً عن الأخبار التي وردت في أساليب أخرى كالاستفهام، والخبر يراد بها ما أريد بالأوامر والنواهي.
أمّا صيغة (المؤمنين) فهي (اسم فاعل) الذي يسمّيه الكوفيون (الفعل الدائم)(3)، تدلّ على الحدث والحدوث وفاعله(4)، على ما يراه أستاذنا فاضل السامرائي – مدّ الله في عمره –(5)، فإذنْ هي أكثر ثباتاً، وأدوم، من الفعل وإن كان ماضياً.
وانظر - يا ولدي – في الآيات التي ورد فيها لفظ (المؤمنين):
-    (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون...) الآية 105/التوبة.
-    (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم...) الآية 2/الأنفال.
-    (إنما المؤمنون إخوة...) الآية 10/الحجرات.
 ويعلّق أبو حيان الأندلسي على لفظ (الأخوة) فيقول: "ويغلب الإخوان في الصداقة، والأخوة في النسب، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر"(6).
-    (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض...) الآية 71/التوبة.
وكفى الله المؤمنين فخراً أن بعث رسولاً من أنفسهم، وبقوله تتجلى مكانة المؤمنين: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهميتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الآية 164/آل عمران.
وغير هذا كثير فتأمل تعرف ذلك.
ومما تقدّم يتبين لك – أيها التلميذ النجيب – أنّ هناك فرقاً دلالياً من توجيه الخطاب بـ (يا أيها الذين آمنوا) وبلفظ (المؤمنين)، وهذا ما نرجحه، ونتبناه! والله الموفق للصواب .
..............
المصادر:
(1)    الخليل بن أحمد الفراهيدي: كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي/بيروت، ط1، 1988م، باب النون والميم و(وايء) معهما (أمن)، 8/389 .
(2)    تفسير البحر المحيط، تحقيق الشيخ زهير جعيد، دار الفكر/بيروت، طبعة جديدة منقحة، 2005م، 2/756 .
(3)    ينظر: الفراء: معاني القرآن، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة، د.ط، 2000م، 2/43-223 .
(4)    ينظر: فاضل صالح السامرائي: معاني الأبنية في العربية، دار عمّار/الأردن، ط2، 2007م، ص41 .
(5)    ينظر: نفسه، ص41 .
(6)    تفسير البحر المحيط، 9/516 .

تعليق عبر الفيس بوك