البَيَانُ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (2)


ناصر أبو عون


انطلاقًا من القواعد التي تمَّ التأسيس والبناء عليها والإشارة إليها في الحلقة السابقة ندخل إلى (البنية المعماريّة) لـ(معجم البَيَان الحَركيّ والحاكي في القرآن الكريم) استنادًا على جهود السابقين من العلماء القدامى والباحثين المعاصرين الذين اشتغلوا في هذا العلم تحت مسميات عديدة، ولله الفضل والمنّة أنْ بعث فينا بعد نبيّه محمد – صلى الله عليه وسلم – رجالا ونساءً أفنوا زهرة شبابهم في دراسة القرآن واستبيان كنوزه، ومن ثَمَّ استوجب المقام إلى الاعتراف بفضلهم والإشارة إلى جهودِهم في هذا المضمار، فمن اهتدى بـ"الكشَّاف" للزمخشريّ، واستنارَ به في جَلاء ما خفي من المعاني، وأبحر بسفينة المعارفِ في "البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسيّ، وتدارس "أسباب النزول"، واستخرج المعاني الدريّة لكل مفردةٍ لغوية، وأفاد من مواطن النحو والإعراب التي تفتح مغاليق آيات الكتاب، قطف من ثمار أفنان (البيضاويّ وحواشيه)، وعَبَّ من كؤوس النباهة، واستطاب أشجار البلاغة، فذاق حلاوة بيانها، وتسامرَ بلطائف آدابها. وقبل أن يمضي إلى غايته تأبَّط"إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" لأبي السُّعود، فتمكَّن من "حقيقة العربية وتضلَّع فيها"، وتناول بميزان عقلّه، واستظلّ بنور قلبه تحت أشجار"روح المعاني" للآلوسي فأحسنَ النظر والتقليب وولَّد من المعاني ما يأخذ بلبِّ الأديب الأريب، فإذا ما وصل إلى فنار الآيات أرسى سفينه على شاطيء "التحرير والتنوير" للشيخ الطاهر بن عاشور، زمخشري عصره، ونابغة بلده.
 وللترويح ساعة عن قلبه ولِجَ إلى نور الكتاب، فقلَّب النظر، وخرَّ راكعًا وأناب، وأخذ الدروس العِبر  من "التفسير القرآني بالقرآن" لعبد الكريم الخطيب، فنهل من معين لغته المشرقة، وقَدَّ من عباراته المؤدِّبة، واستخلص الدرّ المكنون من لطائفه المتأدبة، وتسامى في مراتب أساليبه الراقية، حتى إذا ما تكرّعت روحه من رحيق (الخطيب) جلس في  "في ظلال القرآن" يستلذُ من القطوف الأدبيّة الدانية للقطب الشهيد، حتى إذا ما تاقت روحه إلى الجنان جلس وقرأ وأطفأ لهيب الظمأ فعبَّ من "كلام المنان" للشيخ عبد الرحمن السعديّ فروى عطشَ القلب من مختصراته، واستنبَه العقل من روائع لفتاته، واستعذب اللسان من بديع إشراقاته.
وللاقتراب أكثر من (لغة الأجسام)، و(الإشارات الحركيّة)، و(الدلالات غير اللفظية) التي لا تخلو منها آيات القرآن كان لابد من التعريج على  «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، وإمعان النظر في «نظم القرآن» للجاحظ، والاسترشاد بــ(ابن قتيبة) في كتابه «تأويل مشكل القرآن»، والاتعاظ بـ«دلائل الإعجاز» لعبد القادر الجرجاني والاستهداء إلى مواطن التصوير بقراءة «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» لابن عطية الأندلسيّ، والإسراء معه في سماء المعرفة، والارتقاء إلى سِدرة «مدارك التأويل»للنسفيّ.
وللاقتراب من بلاغة وإعجاز القرآن، واستكناه ما خفيَ من لغة الأبدان كان لزاما التريّض في حدائق المفسرين المحدثين، والاستنارة بـ«التفسير البيانيّ للقرآن الكريم» للداعيّة الإسلامية عائشة عبد الرحمن، ومطالعة كتاب محمد متولي الشعراوي «من نبض الرحمن في معجزة القرآن».
وتجدر الإشارة هنا إلى مطالعة نتاج الباحثين المعاصرين من الذين وضعوا بحوثا متقدمةً في دراسة (لغة الجسم) في القرآن الكريم وأول كتاب عثرنا عليه كان بعنوان: (المفارقة القرآنية – دراسة في بنية الدلالة)، صدر عام 1994 عن دار الفكر العربي للدكتور محمد العبد، وهو بحث يقع في بابين، أولاهما مدخل نظريّ يتعرّض لمفهوم المفارقة، وطبيعة العلاقة بين المفارقة ومعنى المعنى، ثم انتهى الباب الأول بالنظر إلى المفارقة في ضوء السياق. أما الباب الثاني، فهو دراسة تطبيقية (للمفارقة القرآنيّة) وجاء في سبعة فصول هي ذاتها الأنواع المختلفة للمفارقة: (مفارقة النغمة، والمفارقة اللفظية، ومفارقة الحكاية، أو الإيهام، والمفارقة البنائية، ومفارقة الألماع، ومفارقة المفهوم أو التصوّر، ومفارقة السلوك الحركيّ).
وفي عام 1995 ظهر كتاب (البلاغة القرآنيّة في الإشارة والحركة الجسميّة) للدكتور عبد الله هنداويّ، وتناول فيه الصور الحركيّة التي تؤديها الأعضاء الجسميّة، وتعرّض فيه للصورة الحركيّة بالإشارة ودلالالتها وحدَها أو دلالتها مع اللفظ بطريقة الحكاية لمَنْ لم يشاهدها، وتناول فيه الحركة في الأعضاء الجسميّة باليد والوجه والرأس والعين والفم واللسان، وغير ذلك لما يبدو من وراء التعبير بهذه المشاهد الحركيّة ونقلها للسامع والقاريء من أسرار بلاغية من خلال النظم القرآنيّ.
ثمَّ ظهر بعدهما بحث صغير بعنوان: (لغة الجسد في القرآن الكريم) للدكتور عمر عتيق وفيه يرصد شبكة العلاقات الدلالية بين الحركات الجسمية الظاهرة ومعناها اللغويّ في النص القرآنيّ. ويفيد البحث من التراث اللغويّ والبلاغيّ لبيان العلاقة بين لغة الجسد واللغة المنطوقة، ويوظِّف البحث حزمة من العلوم والنظريات، نحو علم النفس الاجتماعيّ، وعلم التشريح والأعصاب، وعلم الفراسة، وعلم العلامات (السيمولوجيا)، وسيكولوجية اللغة والبنية المعجميّة والنظريّة السياقيّة.
وفي عام 2010 تمّ الكشف عن أطروحة للماجستير بـ(جامعة النجاح الوطنيّة) في فلسطين المحتلة للباحث أسامة جميل عبد الغنيّ تتبع فيها (لغة العيون ولغة الوجه وملامحه، ولغة الإشارة، وحركات الأعضاء، ولغة الجسد في الهيئة وأوضاع الجسم).
وبعده مباشرةً عثرنا على بحث بعنوان (من بلاغة التصوير بالحركة في القرآن الكريم – دراسة البيان الحاكي) للدكتور عبد الله الأنصاريّ من جامعة أم القرى وقد حاول فيه استقصاء صور الحركة في البيان القرآنيّ بغية الوصول إلى الكشف عن بلاغة القرآن المعجزة في التعبير والتصوير بالحركة. ويتكون البحث من مقدمة وتمهيد تناول فيه الباحث تحديدا المراد بمصطلح "التصوير بالحركة" وإشارة العلماء المتقدمين إليه، وهو يتكون من أربعة مباحث هي: (التصوير بالحركة عن طريق الوجه، والتصوير بالحركة عن طريق الرأس، والتصوير بالحركة عن طريق العين، والتصوير بالحركة عن طريق اليد).
وفي النهاية عثرنا على ورقة بحثية مصغرة للدكتور عبد القادر مغدير من جامعة الإمارات العربيّة بعنوان (لغة الجسد في القرآن الكريم)، ومنهجه في دراسة الإشارات غير الشفاهيّة يقوم على استخراج بعض الآيات التي تحتوي على إشارات ومعرفة آراء المفسرين حولها واستخراج الدلالات والمعاني التي تحملها وعرضها بأسلوب سهل مُيسر.
أمّا عن منهجنا في بناء هذا المعجم فهو يقوم على فكرة (إفهام العوام بإشارة الأجسام)، ومن ثَمَّ سنقوم بتتبُّع (الحركات الجِسميّة الظاهرة)، و(الإيحاءات البيانيّة الحاكية)، و(الإشارات التعبيريّة الصادرة)، من (الأجسام النابضة بالحياة) في سائر سور القرآن شاملة سائر المخلوقات من (أرض وسماء وإنسان، وطير وحيوان، وملائكة وأبالسة وجان، وجنان ونيران، وغيرها من المخلوقات) في سائر الكريم وِفقَ ترتيبها بين دفتيّ (المصحف) مع تبيان (قصة الآية وموضوعها)، ورسم (المشهد التصويريّ)،  وإيضاح (البيان الحركيّ ولُغة الجِسم الإشاريّة) للحركة الجسمية الصادرة من الكائن الحيّ استنادًا لأقوال العلماء. ومن خلال هذا المعجم استطعنا تذليل العديد من "المشكلات الوظيفية" التي تواجه مستخدمي المعاجم فاعتمدنا طريقة في الشرح تتناسب مع أكبر شريحة ممكنة من المتلقّين. ولهذا المعجم التخصصي هدف مرجعي وتعليمي في آن معا، وأنه موجه لجمهور واسع لا يقتصر على المتخصصين.
فطبيعة هذا المعجم (لغوية بلاغية) تُعرِّف بـ"الحركة الجسميّة البيانية" في القرآن الكريم وتشرح الصورة البلاغية ومكوناتها مدعومة بأقوال بعض البلاغيين والمفسرين البيانيين متتبعين الملامح البلاغية في كل آية احتوت على أي قدر ولو يسير من (التعبير بالحركة)، أو ما يُطلق عليه (البيان الحاكي)، أو ما يطلق عليه عند بعض المحدثين اصطلاحا بـ(لغة الجسد) بمختلف معانيها، ويقدم المعجم شرحا تفسيريا لخصائص (الصورة البلاغية) مضيفا إليها بعض الأمثلة  التي تضم سياقات مختلفة لاستخدام هذه الصورة أو تلك. مع الاستعانة بالقراءات الواردة عن الآيات، والوجوه الإعرابية المختلفة بما يخدم الصورة، ويعضد الرؤية مع الالتزام بالابتعاد عن سائر صور الاختلاف المذهبيّ معتمدين التوفيق والتقريب لا المباعدة والتغريب.
و في إطار هذا المعجم لا نعرض للصورة البلاغية (الحركيّة) كمفردة مستقلة؛ بل نعرض أيضا لسائر السياقات الحرة لا الجامدة التي تظهر فيها هذه الصورة، فـ"السياق الحُرّ للصورة يمثل الجمل اللغوية التي يمكن أن تظهر فيها (الصورة) دون أن تفقد استقلاليتها النحوية والدلالية". ونعتمد في توثيق "الصورة الحركية" طريقة نسج المصادر في سياقات المتن باتباع أربع خطوات هي: "تجميع المعلومات المتعلقة بالصورة"، و"تسجيلها"، و"معالجتها".
ولايفوتنا في هذا المقام الاعتراف بالفضل والامتنان لأصحاب، وسُكّان وخدّام(بيوت القرآنِ) من الملائكةِ وبني الإنسان التي تربّينا تحت جدرانها، وجلسنا إلى مشايخها، وقطفنا من ثمارها، والإقرار بالولاء لحَملةِ القرآنِ والعلماء، وأصحاب الحقوق علينا، من الأصدقاء والحفظةِ والقرَّاء؛ والرجال والنِّساء، والسابقين بالإحسان والفضل الثناء. ياربِّ تقبّل مادامتِ الأرضُ والسَّماء.

 

تعليق عبر الفيس بوك