أوجه العدالة في شعر سعيد الصقلاوي (3)


أ.د/ ناريمان عساف – بيروت – لبنان


نواصل في هذه الزاوية الأسبوعية استكمال القراءة النقدية حول موضوع العدالة في الشعر والتمثَّل بالشاعر العماني سعيد الصقلاوي وفي هذه الحلقة نبدأ مع البيتين التاليين:              
لشموخٍ مرسوم بخـنوع العصرْ
ولنفــسٍ تدّثـر في ثـوبِ القـهرْ(1)
ينّقسم هذان البيتان إلى ثنائيتين: القسم الأول من كل شطر مرصود للحاكم الذي تقاصصه الدول لحريته، وعدم انتمائه لها، ولأعمالها العدوانية ضد الشعوب، والقسم الثاني مرصود لأعمال الدول الانتقامية منه، كما أننا نعثر فيه على أضداد.
ما يخص الحاكم: شموخ      ≠   خنوع ما يخص الدول الصديقة له
ويتابع:
     ولحبٍ مطعونٍ برماحِ العهرْ
     ولفـجـرٍ مغلـولٍ بـقـيادِ الكفـرْ

إن الصور البلاغية في هذين البيتين تحلّق في سماء الشاعرية ، بالرغم من إنها تبغي الدلالة عن مذبحة واغتيال ، فالحب ، رمز الطهارة وحرارة الحياة ، طعنته رماح العهر، أي عدوان الدول القاهرة، فكما شبّه الحاكم بالحب، شبّهّة بالفجر، فأصبح مغلولاً من قبل قيادات الكفر المعتدية ، وهنا كان لدينا استعارتان تصريحيتان ، والقرينتان هما: مطعون برماح العصر ، ومغلول بقيادة الكفر.
ثم ينتقل الشاعر سعيد من الأسلوب لا المباشر في أشباه  الجمل الأربع  التي أتت ثلاث منها معطوفة ، على الأسلوب المباشر، والصيغ الخطابية ، من خلال طرح تساؤل العارف، والدلالة هي علامة التعجب في نهاية الشطر، وليس علامة السؤال.

               " وهلْ أضحى الخوفُ كفاحًا !" (28)
 ويتبع هذا التساؤل بأسئلة لها الدلاله نفسها ، لتنتهي بصيغة التعجب:

               ما أغرب هذا الحنين المشلول الأبكم
 ثم يأتي  السؤال الذي يتكرر وكأنه  خرجة في موشح:
               ألأنك حرٌّ تعدم.
والحقل اللغوي لهذه الأبيات قائم على تكرار فعل أضحى ، وفعل صار مرتين للتأكيد على أثر التحويل  الذي استجد حيال موقف الدولة المعتدية إزاء الحاكم الحر، بالإضافة الى هذا يقوم هذا  المقطع على الأضداد بين العمل الحاصل ، وبين العمل المطلوب القيام به، لدعم الحاكم الحر، الذي اغتالته قيادات العهر.
الخوف   ≠   كفاح ، العجز ≠ سلاح ، الصمت ≠ وشاح دلالة على التعبير
الشوك ≠ أقاح
وينتهي باستغراب الزمن الحاضر الذي يشبه المشلول الأبكم، والحين هو رمز لدول الجوار الصامته، والمتخاذلة.
 إن الانتقال من الأسلوب لا المباشر إلى  المباشر، نقل القارئ من صورة الهزيمة إلى التساؤل الذي يقصد التوبيخ.
في المقطع الثالث تشتد لهجة التوبيخ، والسؤال عمن أفتى بالتخاذل، الذي عبر عنه بصور متطابقة ، وفعل أفتى يدل على أن مساندة الحاكم الحر شريعة دينية، يجب أن تطبق.
وبعد التساؤل: "من أفتى" تأتي الجملة المصدرية المؤكدة: أن النور ظلامٌ"، يتبعها عشر تساؤلات معطوفة ، وكأنها الوصايا العشر التي نقضتها الدول المجاورة، وشعوبها، وهي مبنية من طباق هي الآتية:
النور ≠ ظلام               الصلح ≠ خصام
الغي ≠ رشاد                الماء ≠ جماد
البحر ≠ سراب             الصحو ≠ ضباب
الليل ≠ نهار                 الجبر ≠ خيار
السلب ≠ حلال               الحق ≠ ضلال
العدل ≠ محرَمْ
في المقطع الرابع، وبعد لهجة التعنيف، تتتالى الجمل الفعلية بصيغة الماضي، والجمع وهذا دليل على أن اغتيال هذا الحر، اشتركت به دول وشعوب كثيرة.
والدلالة على قوة هذا الحر، وقدرته على التحدي، يستعين الشاعر بطباق في الأفعال، منعوا الطير عن الأطيار، فحلقتا.
فالأطيار هي رمز الحرية ، وهي أخت الحاكم الحر، فقد شلّوها كي لا تساعده ، لكنه تحدّى وحلّق.
قطعوا الجريان عن النهار، جملة تشكّل كناية عن سجن الأحرار، وإيقاف الحركة الاقتصادية، وحصار الشعوب الأبية، وفعل (قطعوا) قوبل بفعل مضاد، ألا وهو: واصلتا.
ويتابع الشاعر:
"حجبوا اللمعان عن النجمات ، فنوّرتا ".(3)
إن كناية (حجبوا اللمعان عن النجمات)، تدل على محاربة الناجحين، واللامعين إعلاميًا، لكن الحر، تحدّى حجب النور، فنوّر.
     أيضا يتابع في الوصف القائم على الطباق:
          
      "حبسوا التغريد عن العصفور ، فغرّدتا  
               والعطر عن الأزهار ، فأرّجتا
               والريـــح عن الأسفار، فطوّفتا
               والسحب عن الأمطار، فأخصبتا"(4)
"إن عبارة حبسوا التغريد عن العصفور "كناية عن سجن، وكتم أصوات الحب، والجمال والفن، لكن تحدي الحر يولّد الفعل المضاد (غردتا).
هنا يتوقف الشاعر عن إيراد أفعال جديدة، بل يعتمد عطف الصور على فعل حبسوا.
فيتأتى الطباق المعنوي ، فحبسُ العطر عن الأزهار تحدّاه الحاكم الحُرُّ، فأرّج، وهنا استعارة رائعة، قوامها أبطال شبهوا بالأزهار، وهو رئيسهم الذي أرّج ، ثم يتلو هذه الاستعارة حبس الريح عن الأسفار الذي تحدّاه الحر، فطوّف، وأخيرًا تُتوّج المجازات العقلية بمجاز حبس السحب عن الأمطار ، الذي طابقه فعل " أخصبتا".
ونلاحظ هنا أن كل الأفعال الماضية التي تنتهي شطور الأبيات بها، جاءت جديدة، متصلة بتاء التأنيث، وأكثر الأحيان كانت مشدّدة . وهذا في سبيل التأكيد.
ويتابع الشاعر بأسلوب مباشر قائلاً:
" ولأنك حرّ قد دفنوا أصوات ضمائرهم ، حقًا عرفوك
وما اعترفوا إلا بخناجرهم"، وهذه كناية عن بطشهم، وشهوتهم للدماء ثم يقول:
               غطّوا بالظلمة كلّ بصائرهم
                حكموا، لابدّ ستعدم!
إن الحركة والحيوية والرومانسية والتدرج في حركة الأفعال الماضية، تسيطر في هذه الأبيات، والمجاز العقلي يتبع بعبارة واضحة الدلالة على الحر، ولكن هذا الحرّ يسمو ضياء:
               "فسموت سنى
               ونقشت بوجهك، أن العزم حياة" (5)
وهذه الاستعارة التصريحية تتبع بصورة بديعة، فذكرى الحُرُّ تنقش في ذاكرة ِالأجيال. ثم يسجل الشاعرحكمة " أن الهمة والنشاط ، ورباط الجأش ، والمواجهة حياة" إن شرح مواقف المعتدين الذي يتُبع بتأكيد ، أعطى الأبيات وهجًا، وحيويةً. وتأتي الأبيات الأخيرة ، لتكون الوقع الأكبر في القصيدة:
               فاكتــبْ يا ألــقَ التاريـخ
               ويا صمت َالأزمانِ تكلمْ
               الباطل يُهزمُ
               الباطلُ يُهزمُ(6)
وهذه انتفاضة ، وثورة على رداءة الأيام، إنها صرخة أتت بفعل الأمر (اكتبْ)؛ وللتاريخ أل عندما يسجل إعدام حر، فهنا للموت وهج لأن الذي استشهد ، استشهد وهو شريف ، متحدٍّ الفاسدين، لم يخن، لم يتواطأ، وما باع عرضه، ولا أرضه، ولا فكره. ويلتفت الشاعر لينادي صمت الأزمان، والأزمان هي أزمان الناس، والجماهير التي صمتت خوفًا، رهبة وجبنًا، فهبّ الشاعر في وجه الزمن الرديء ثورة، ودعوة الى التعبير والانتفاض، وقول الحق، فالباطلُ يهزمُ ولو بعد حين.
هذه القصيدة مترابطة عفويا ، وهي على حسب قول كاتبها المهندس سعيد الصقلاوي تعلي من قيمة الحرية. والحق والعدل والمقاومة، ومؤلفة من أربعة مقاطع، محورها الإنسان الحر و العدالة في اغتياله ، وحرية هذا الإنسان لا مطلقة، وتحديه العدوان أعطاه لقب الحاكم، سواء كان هذا الحكم فعليًا في دولة، أو معنويًا في المجتمع.
     وتتمتع هذه المقاطع بكثافة الصور المبدعة ، التي تؤاخي الإبلاغية مع الإبداعية؛ والوحدات الفعلية المتكررة ، التي تشرع الحركة، أما الوحدات التي تؤكد ثبات معنى الجملة المحورية للقصيدة: " ألأنك حر تعدم" فهي الطاغية في تكرارها، و تشكل هذه الوحدات مؤشر الثبات العميق عبر طغيانها في أنساق متكررة (7)
لتربط الكلمة المفتاح المعبّر عنها بشتى الصور، وشتى البنى والحيوية التي تضجّ في هذه القصيدة من خلال الالتفات من الأسلوب المباشر إلى لا المباشر، مما يعطي إحساسًا بالترقّب، خاصة في المقطع الرابع .
والتساؤل كبير يُختصر بجملة : "هل مكتوب" التي تعبر على أزلية انعدام العدالة في التعامل مع الحر.
واللهجة الخطابية ، ضجت في هذه المقاطع ، فأتت موسيقاها كطرق المطرقة، فيها لهجة الغضب بصورة تصاعدية. وفي المقطع الثاني أصبحت أكثر هدوءًا ، فانهالت الصور الشعرية الحزينة، وبهذا تحققت الوظيفة الشعرية (Poetique) ، وهذه الوظيفة تتمحور حول المرسلة نفسها ، أي أنها مستهدفة في ذاتها ولذاتها ، باعتبارها مرسلة، وما يميّز الوظيفة الشعرية عن غيرها من الوظائف هو التأكيد على المرسلة لحسابها الخاص(8)
وهذا ما ثبت في هذا المقطع،  فالصور أو الأصوات سيطر عليها حرف مهموس (الحاء) خاصة في الروي.
وبدون الوظيفة الشعرية اللغة تصبح ميتة، والأنواع الشعرية على اختلافها تحتم مشاركة وظائف لغوية أخرى إلى جانب الوظيفة الشعرية المهيمنة، وفقًا لتراتبية متغيرة... فالشعر الغنائي الموجه نحو المتكلم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوظيفة الانفعالية، وشعر المخاطب يتسم بالوظيفة الندائية، ويمتاز بالتوسل أو التحريض، وفقًا لتبعية المتكلم للمخاطب، أو المخاطب للمتكلم (9)
هذا ما تحقّق في المقطع الثاني، ثم الثالث القائم على البدء بصيغة السؤال (مَن) التي ينعطف عليها أسئلة تحتل المقطع إلى نهايته حيث العبارة: "ألأنك حر تعدم".
هذا وروي المقطع الثاني، تزاوج بين الحاء (الحرف المهموس) تآخى مع المعنى الشاعري ، وبين حرف الراء والميم الجهريين.
هكذا نجد بأن الوظيفة الشعرية في هذه القصيدة تظهر في "المرسلات التي تتمحور على المرسلة نفسها كعنصر قائم بذاته"(10)، مراعية كل مناحي التواصل الانفعالية، الندائية، الشعرية، محققة بذلك "اقتران كل وظيفة من وظائف المرسلة اللغوية بأحد عوامل عملية التواصل الإنساني(11) ومراعية موقع الصوت في النفس، وما يشكله من إحساس متقارب من المعنى ، فالمقطع الثالث كان  رويه حرفا مجهورًا:
ر – م – د – ب
ر – ل – م   روي قائم على ثنائية..
المقطع الأخير جاء رويه مهموسًا: (تا) فاقترب من حرف ط صوتا، ليصبح فيما بعد مجهورًا في مجمل الأبيات (ميم) .
إن الموسيقى تحققت داخليا وخارجيًا في هذه القصيدة، والحروف المستعملة استعملت مع الثورة والغضب، أما الحروف المهموسة واللينة فقد استعملت عندما كان يصف أحوال الحر ومواقفة الحميدة التي تنم عن طيبته وشاعريته.
     هذا وإن هذه القصيدة هي من الشعر المعاصر وأبنيتها قائمة على شعر التفعيلة التي جاء مجملها ( فعلي ) ، مع جوازاتها، فكانت تكرر حسب الموجات الانفعالية ، والمشاعر المسّتعرة. بإختصار هذه القصيدة قائمة على سؤال فيه تعجب، وإن لم تظهر علامات التعجب إلا في المقطع الثاني ثلاث مرات (12) وفي المقطع الأخير مرة واحدة فقط حين قال : "حكموا لا بد ستعدم! (13)
وفي المقطع الأخير مرة واحدة فقط حين قال: " حكموا لا بد ستعدم! " والتعجب اصطلاحيًا هو انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه وهذا الانفعال استغراب في وجدان شاعر مرهف، ومهندس ملهم، فأثمر هذه القصيدة المبدعة.

..........................
المصادر:
1)    م، ن، ص: 70
2)    نشيد الماء، ص: 70
3)    نشيد الماء ، ص 72
4)    م . ن . ص، 72 – 73
5)    نشيد الماء ، ص 73
6)    م . ن . ص . ن.
7)    كمال أبو ديب / الإنسان والبنية، قضايا الشعر العربي، فصول، عد4، ص 88
8)    Jakobson, Roman, Essais de linguistiquegenerale, les fontions du langage, traduit et preface par Nicolas Ruwet, les ed, de Minait, 1963.p.218       
9)    م. ن. ص 218 – 2019
10)    د. ميشال زكريا، المدخل الى علم اللغة الحديثة ، مؤسسة نعمة للطباعة ، ط 1 2002.
11)    م. ن. ص 73
12)    نشيد الماء ، ص 71
13)    م. ن . ص 73

 

تعليق عبر الفيس بوك