الأمةُ منهجٌ.. "أفلا تعقلون"؟!


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


لقد أضحت القراءة فى عالمنا العربى نوعا من الرفاهية (العقلية)، ولا تعدُّ ضمن منظومة الاحتياجات، أو الأولويات للإنسان العربى، رغم أنها فى التصنيف القرآنى تعد من أساسيات المنهج الذى نتعبَّد به ونحيا مع منظومة تعاليمه، أوقل: إنها على قمة المنهج، فهى أول أمر نزل على النبىّ الأعظم حين جاءه الوحي يعلمه بنبأ الرسالة وحمل التكليف وقد كان مبدأ ذلك كله "إقرأ"، بل حروف كلمة "القرآن" ذاتها مشتقة من مادة (قرأ) ودالةٌ على كثرة القراءة وهي على وزن (فعلان)، ولعل الحكمة من افتتاح هذا الحدث (الجلل/ نزول القرآن) بهذا الأمر {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}[سورة: العلق].. هي أن يعلّمنا أنه لا يكون قيام ولا فهم ولا علم لهذا المنهج (أولا وآخرا) إلا بالقراءة، وأنَّ ذلك يتطلب من العنت والمشقة الجهد الجهيد للقيام بهذا القول (الثقيل)، لذا قال صلى الله عليه وسلم حينها: "لقد مضى عهد النوم ياخديجة".
والمستعرض لهرم أولويات واحتياجات الإنسان (العربي) لا يكاد يجد ضمن منظومته عنصر القراءة إلا نادرا، حيث يتم ترتيب الأولويات وفقَ ظروف ومتطلبات الواقع وما يحكمه من عوامل سياسية واقتصادية، وقد يدهش البعض لذكر هذه العوامل حين الحديث عن القراءة وعلاقة الفرد العربي بها.. ولكننا نقول: إذا كانت القراءة هى نوع من شحن الوعي والفكر وإرضاء ظمأ النفس المعرفي فهذا أمر يتيحه الواقع المعاش، وكما يتم تصنيف وترتيب الأولويات حسب هرم (إبراهام ماسلو) فإن أهم متطلبات الكائن البشري تتمثل في الحاجة إلى الطعام والشراب والأمان، كما رتبها القرآن حين مَنَّ الله – تعالى - على قريش بنعمه فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} " [سورة: قريش (3/4).
وإذا كان الفرد العربي لم يستطع أن يحقق هذين الأمنين فى واقعه فإنه يظل يلهث خلفهما أملا فى تحقيقهما، وخوفا من أن يفقد المتاح منهما فى وقته، وهذا هو المطلوب تحقيقه من مستوى صناعة الوعي للشعوب. وليست العبرة بكثرة المتاح ولا المحقق من الأمن النفسي والمادي، لكن العبرة بمدى الحفاظ عليه، أو الاحتفاظ به، فمع تبدّل الأنظمة الحاكمة، واختلال ميزان الاستقرار السياسي، وتراجع مؤشرات الدعم الاقتصادي يصبح الفرد العربي مطاردا ومتهما حتى يستطيع أن يثبت عكس ذلك، ويظل فى نوع من القلق والاضطراب يعرّضه فى أى وقت ـ ربما ـ لتأميم أمواله، أو الوقوع فريسةً لوشاية سياسية أو فقدان الوظيفة المعيشية ... إلخ.
ولذا.. يظل الإنسان متأرجحا في المنطقة الوسطى ما بين الوعي واللاوعي (ومنشغل) بهذه الهواجس، ويظل مترددا وحائرا يدور فى فلكيهما.
وعند الوصول بالإنسان إلى هذه النقطة المفصلية يبدأ عمل أجهزة الإعلام المؤدلج والموجّه فتقوم بتهيئة الوعي الجماهيري بصورة غير مباشرة، وصناعة الرأي العام على عينها، وتشكيل العقل الجمعي عبر العديد من وسائل الإعلام والبرامج (الموجّهة)، وصناعة السينما المؤطرة، مسنودة بمزيفات الوعي الأخرى، حتى إذا ما أريد لهذه الجماهير الخروج للتهليل والتصفيق والتقرير كان من السهل اقتيادها وإخراجها إلى حيث يريد صانع السياسة.
فالنظم الاستبدادية تعلم يقينا أن القراءة بناءٌ للوعي، والوعي يستتبعه إدراك، ويأخذ بيد الإنسان إلى التحليل والاستنباط والاستقراء، وتشكّل دافعًا للتطوير والتحديث والانتقال إلى مستويات إنسانية أفضل، وتقود صاحبها إلى المهارة في بناء وطرح الأسئلة والجِدة في النقاش والجدل، والبحث عن الأجوبة وصولا إلى الغاية الكبرى وهي الانتقال من مرحلة التنظير الديناميكي إلى التطبيق الاستراتيجيّ الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش. وهذا ما لا يراد لهذه المجتمعات أن تكونه.  
هذا بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى والتى من أهمها سكونيّة وسبوتيّة المناهج الدراسية التى لا تزال تراوح مكانها بينما العالم المتقدم يدخل عصر الثورة العلمية الرابعة والحال في شرقنا لا يكفّ عن أساليب التلقين والتقييد، والالتزام بمنهاج دراسي محدود، تحفيز العقل الإبداعي ليس هدفه، واستنفار القدرات ليس من غاياته، وبناء المهارات ليس من متطلباته، والقراءة الحرة ليست من دينامياته.
 فمن المعلوم أن معين العلم لا ينضب، والنّهم المعرفي لا حدود له ولا يكبح جماحه لجام، ، إلا بقتل المواهب، ووأدها فى مهاد السنوات العمرية الأولى، وتثبيط المحفزات النفسية التى تولد مع الطفل، وطبع العقول بطبع التلقين والتحديد، وضرب أسوار الجهل عليها، حتى تفرَّغ مما فُطِرت عليه.
وبحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن اليونسكو عام 2013 كان كل (80) عربيا يقرأون كتابا واحدا سنويا، بينما كان المواطن الأوربي يقرأ (35) كتابا فى السنة، والمواطن الإسرائيلي يقرأ (40) كتابا فى السنة. مع استبعاد التقرير للكتب الدراسية وتركيزه على القراءات الحرّة.
ومن المحزن أن تؤكد الإحصائيات تراجع معدل القراءة للمواطن العربي ليصل إلى ربع صفحة فى السنة الواحدة، كما أن تقرير التنمية البشرية الصادر عام 2011 عن " مؤسسة الفكر العربي" يشير إلى أن المواطن العربى يقرأ 6 دقائق سنويا، بينما يقرأ الأوربي بمعدل 200 ساعة سنويا.
ومن خلال الخطأ فى منظومة التعليم، والسياسات التى يحيا الفرد العربي في إطارها ويعيش فيها قلقا دائما وغير مستقر فى ظلها، تتراجع ملكة القراءة ويتراجع معها الوعي المجتمعي فتصبح الشعوب أشبه ما تكون بالقطيع، فى الإدراة والأداء وتتلاشى قيمة الإنسان تدريجيا، حيث يفقد أدوات التدبر والتفكر والتعقل المخلوق من أجلها والمأمور بها أمرا إلهيا للوجوب حتى تكون حياته متناغمة منضبطة مع ما خلق له "أفلا يتدبرون" ، "أفلا تعقلون" ، "أولم يتفكروا" ، "قل انظروا".
لكن هذا السلوك مستحدث فى الأمة ولم يكن لها به عهد ولا سمة، إنما ابتليت به بما أصابها من تراجع وتخاذل، وقد شيدت المكتبات فى بغداد والقاهرة قديما، وأنشئت دور النشر والترجمة، وعلا شأن الكتاب حتى قال الجاحظ: "الكتاب نعم الأنيس فى ساعة الوحدة ونعم القرين فى بلاد الغربة، وهو وعاء ملئ علما، وليس هناك قرين أحسن من الكتاب ولا شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، ولم لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك فيما ينفعك وصونها عما يضرك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة من لا خير فيهم لكان فى ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منة".
وقال المتنبى: خير مكان فى الدنى سرج سابح    وخير صديق فى الزمان كتاب.
وقد قيل لعالم ما يؤنسك؟ فضرب على كتبه وقال: هذه. فقيل له من الناس؟ قال: الذين فيها.
وظاهر الأمر أن السباق فى عالمنا العربى محتدم ـ لكنه ليس للعلم ولا القراءة -، فهو في سباق لا ينتهي من صناعة الأبراج والأطباق والولائم وأشجار الكريسماس، والمفاخرة بالسيارات ومظاهر البذخ والترف والتخمة، وجميعها لا تصنع نهضة ولا تقيم شعبا ولا تحيى وعيا.. إنما الأمة منهج، فإن مات منهجُها ماتت ولو بقيت على قيد الحياة.
فربّ حي رخام القبر مسكنه   وربَّ ميت على أقدامه انتصبا.
والمنهج باق والأمة نائمة، وإذا أرادت أن تضع اللبنة الأولى فى صرح البناء الحضارى فهي موجودة فى أول كلمة فى كتابها: (اقرأ)، وهى مفتاح العلم والحضارة والحياة ولا حياةَ بدونها،
قد مات قوم وما ماتت مآثرهم    وعاش قوم وهم فى الناس أموات


 

 

تعليق عبر الفيس بوك