في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في (21 آذار / مارس):

سلامًا من غرناطة.. أرواحنا عطشى لماء الشِّعر


عُلَّيّة الإدريسي البوزيدي - المغرب


أقف فجأة أمام البحر الذي وَحَّدَ زرقته لأصعد الباخرة التي ستقلَني إلى الضفة الأخرى  في ذروة الصيف والسفر.
وضعت قدمي على السُّلم وتبعت صوتا طالبا منا الصعود وفيما أنا أدير ظهري  لليابسة تعثرت بي طفلة انحيت لأقبّلها                                                            
إلى أين أنت ذاهبة؟                                                           
سألتني بابتسامة                                                                
إلى غرناطة أجبتها                                                            
ازدحم المكان الذي يصل بين صالتين فهربنا أنا والطفلة التي أمسكت بيدي إلى سطح الباخرة هناك كان الرجل مستمتعا بشمس البحر الأبيض المتوسط ومستمتعا بالنوارس التي تطير أميالا لملاقاة اليابسة.               
لم يخدعني الرَّذاذ يوما لذا جلست على الأرضية  وبجانبي أجلست تلك الطفلة التي سمحت لها والدتها بمرافقتي بعد إلحاح شديد. أشرت بسبابتي إلى طنجة التي تبتعد لكن عينيها كانتا على رنة الهاتف.                      
لم أشأ أن أسمع صوت قلبي لكن في المقابل أطلقت العنان لحنجرتي وبدأت أغني بصوت خفيف حتى بدأت تتسرب إلي رائحة اليابسة من جديد. بعد قليل سنهبط السلالم  قالت طفلتي  بابتسامة على محياها.                                   
أذكر تماما لحظة وصولي الضفة الأخرى كنت أسمع داخلي أمواج البحر الذي أمسك بطفولتي ولاعبني الأرجوحة عندما وضعت رأسي على كتفيه بعد تعب شديد وكانت الرياح تمارس لحقاها بخصلات شعري بعد عمر حافل بالماء                                                                    
بعد أربع ساعات سنصل إلى الفندق. قال سائق الطاكسي المبتسم.           
في طريقنا تحدثنا كثيرا عن المغرب وإسبانيا عن الشعر والشعراء لكن عيني ظلت مشدوهة إلى الطريق التي يجب أن أكتب عنها.
حياة جميلة
حياة تقهقه لشجر الزيتون الممتد على طول الخارج, حياة تغطيك من برد البيت الذي أجدد له الولاء كلما مشيت تحت شمس جميلة.                   
نعم هناك عالم من السعادة في حضني وعليّ أن أسيلها تماما كالقبلة التي ألصقها في وجهي حين أبتسم على الشاطئ لتلك الأمواج التي تسبح في البحر.                                                                            
بإسبانية متلعثمة اعتذرت  لنافذتي التي نسجت دموعا لمراهقة دفنتها كي لا تموت, ورتبت فرحي الصغير حتى وجدت ريحا تحت رأسي.
فالشعر مثل تصميم قبلة على خد وردة  في مزهرية. لتنال نصيبها من الدوخة بعد أن يخرج الثلج  يجب أن  تقلب ألعاب الحظ كل صباح.
هناك قد تناضل بصمت وأنت تقرأ أشعارك بلغة يفهمها ذاك الحزن الذي أنجبك  في عزّ الريح, ورسمك نافذة  مليئة بالبسمات  حتى تهرب لحظات الطريق في  نظرة  طفولة تحب أن تتبرع للاجئة مثلي بلحظات من  البكاء.  ومن ثم تشردك قي نوم متعب لتعيش بقرب أماكن لا يدركها العالم  وأنت تطرز  المعنى كخلية نحل ساطعة.
لم أكن أعرف أن قراءة الشعر في الضفة الأخرى بهذا السحر الذي صار يطاردني, أنا القادمة من عاصمة المملكة المغربية حيث أتيحت لي فرصة حضور قراءات شعرية على مدار شهرغشت ضمن مهرجان  لوريل الشعري في دورته الثانية عشر 2015 م.
في هذا المهرجان وكل ثلاثاء , كان التاريخ يبارك الشعر فتزدهي الأمكنة  القديمة في ملابس لغة تحرس  قوس قزح وتفصل طريقا على مقاس الحلم.
هنا الشعر يحجز موعدا رسميا, ابتداءا من الساعة التاسعة تتناوب على المنصة أصوات من دول مختلفة (المكسيك، وأمريكا، والبرتغال، والمغرب، وإسبانيا) في قراءات تؤثث المسافة المطلقة بين التاريخ والحاضر, وتعدل من بياض ريش النوارس الحالمة والتي تخطط لقيادة العالم بحذاء من الشعر
بإكليل ورد على رأسها قدمت الأمسية الكاتبة والصحفية الإسبانية بريجيدا, بعد كلمات جِدُّ مقتضبة لكل من مدير المهرجان الشاعر بيدرو إنركيز ومسؤولة الثقافة بمدينة غرناطة. تارة مسافرة إلى القصر الجميل وتارة أخرى ببورتريهات شعرية غاية في الروعة للمشاركين بالطريقة التي تحلو للشعر.
كل شيء هنا هادئ حديقة  القصر, ابتسامة الباب الكبير, صمت النافورة الصغيرة, نقاء السماء القريبة, العصافير الجالسة على الأشجار, أنفاسي العالية وأنا أعلق مياهي على ضوء خافت لأومن أن وجه الأرض هنا شعر تذهب إليه الروح مطواعة كنظرة عميقة.
لقد خطر ببالي أن أشارك بولادة قصيرة, لكن صديقتي إليزا أغرقتني بترجمات أنيقة, جعلتني بطاقة مفتوحة لكل العوالم التي أدمنت حبها حتى أشبه الفوضى التي أطفأت عاما جديدا لتصرخ  في نوايا الحرف, وهي تنتقل من بياض إلى بياض تماما كتحية جميلة في وجه مرآة على ماء.
لم تكن المنحوتات التي أبدعها الفنان المغربي جمال الدين الشاهد الوحيد. كانت هناك أنغام القانون ومعزوفات على العود صاحبت صوتا قويا حتى رقصنا جميعنا, وتكارعنا كؤوس الفرح والانبساط.
كنت جِدُّ منبهرة بذاك الحضور الكثيف, الذي اتخذ مكانه في صفوف مرتبة كعلبة شكولاطا رفيعة. قبل بداية الأمسية الشعرية والشمس تحاول أن تغفو وهي ترتدي ألوانا العشَّاق  كالسكينة لن أتكلم الآن  قالت شجرة كانت تخفي أمامها كاميرا لتخليد الأمسية في حين كانت قارورات الماء التي وضعتها سيدة أنيقة بلباس أبيض على يمين الكراسي, حتى إذا دعاك عطش سقيته وأرهفت سمعك للهواء الذي يمشي محمولا على أكتاف لغة حالمة.
كانت هناك نظرات قديمة  أقنعتني أن للشعر لغة عالمية تسري بيننا  بتلقائية المبحر في أعماق اليمّ لتتحالف مع أرواحنا العطشى لماء الشعر.
حين تناوبت أنا وصديقتي الشاعرة- بلغة إسبانية- على قراءة تعاويذ شعرية ,كانت القلعة التاريخية تسافر بنا إلى أماكن مألوفة بالحب والجمال .فلم تكن هناك كفة أجمل من أن ترى حنينك البعيد يعبر ضفته الأخرى كقلادات الولادة وهي مخبأة في صناديق عشق ساحر.
هذا الشعور بالجنون يجعلك ترسم أنفاسك الطائرة قبلا طويلة , تسقطها تباعا  على مرايا دموع مرحت من النظرة الأولى كمن يكتب رسائل حب فوق السحاب, لتوزعها أغاني الجدات  على مسامع حقول السنابل الخضراء حيث يحلو للربيع أن يلبس حذاء الورد .
الليل كان سخيا فامتدت السهرة إلى مطعم قريب. اختلطت فيه كل روائح النجوم  المتساقطة من أنفاس شجرة الخروب مع ساعات الليل القصير. هناك حيث اختار المنظمون الذين تشبه أرواحهم ابتسامات الملائكة من شدة الحب,  أن يجعلوا لورق الغار المحدق في الأعلى  كسوة, نقشتها  أنامل مبدع على صندوق خشبي لتسافر معي إلى المغرب كبرهان فائض بعد الرحيل.
كان من الممكن أن أسأل أصدقائي ,عن خلطة الألوان المختلفة لزراعة كل هذا الحب لولا اسبانيتي الجد محتشمة , وانشغال الكل في التحليق  مع الموسيقى التي بعثرت تعب السفر الطويل, بحثا عن  عيون مفتوحة على لوركا في تجليات مولانا جلال الدين.
لا يمل من يزور غرناطة الضاحكة,  فهي كطفلة بملابس العيد, في الصباح الباكر تصادفك رائحة المدينة النائمة, وتقبلك قبلة جديدة  واحيانا كثيرة تدعوك لفنجان قهوة .
أعدل من قبعتي وأجلس في مقهى بساحة  الكاتدرائية تاركة هواء المكيف ينبح في وجهي.
أريد قهوة بالحليب ليطمئن مزاجي قلت للنادل المبتسم وبدأت أتصفح في صمت حديقة الوجوه المتحركة وكأني أصعد سلالم القلب بأجنحة الملائكة.
هذا هو الجنون الذي جعلني أتسكع  في الليل المتأخر, أصغي لعازف التشيلو الضخم, لراقصة  الفلامينكو السعيدة ,و التي تنتظر مطر الجيوب المفتوحة دائما , بينما تلك الصبية تخطف صورا حية لتكون فراشة لأخطائنا الجميلة  العميقة  في كل الكاميرات في كل الهواتف و في كل النظرات .
 كان محقا ذاك البدر حين تربع على عرشه في السماء تاركا ضوءه البديل_ الذي نحتاج إليه  ليخدعنا _ يجر ذيله مسرورا بابتسامات رقيقة نمت حيث الصخرة تهمس للسهرة أن تنظر طويلا إلى الليل  ولا تزوره  .
وأنا أغادر غرناطة أدركت أن كل الأمكنة التي زرتها والتي سأزورها لاحقا  في قلبي مسافرة منذ وقت طويل.  حيث رأيت الجمهور يسبق الشعر وسمعت شعرا زلزل قبضة يدي التي تسند روحي كبوذي ظامئ
الشعر كان بأعماقهم  وذاك  الذي التقطني من البحر أعادني  إلى الرباط والشعر في قلبي كحب جديد.شعر علمني كيف أمشي على الأرض وفي يدي سلة من الأحلام
فهل سياتي يوم نستمع فيه للشعر كما يحدث هناك؟

تعليق عبر الفيس بوك