في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في (21 آذار / مارس):

مبارك الراجي: كتابة السيرة، كتابة الرَّماد الأزرق

...
...
...

الشريف آيت البشير – أديب وناقد من المغرب

    

(إلى كل الشعراء بمناسبة اليوم العالمي للشعر)........    
 (1)
يتحدّر الشاعر مبارك الراجي من الصويرة، المدينة الأطلسية التي اكتسبت هويتها من الريح، مدينة ذات
جغرافيا وإمكانات حضارية متواضعة، لكنها غنية ودافئة وعميقة وغائرة في النفس التّوّاقة إلى الحلم..
كل صفة للمدينة هي تماما صفة الشاعر، يتبادلان الحمل على العاتق؛ فمبارك الراجي هو الصويرة، والصويرة هي مبارك الراجي، هو يستعيدها رمزا في الشّظف وفي اليتم، وفي الانقطاع المبكّر عن الدراسة، لكنه يتعملق في سماوات الشعر وهو في حالة استقراء الأحوال ليقذفها حمقا وجنونا في وجه القارئ المنذور للتعدد، أي أولئك القراء الذين يجعلهم "يجنون الرياح في سلال خفيفة"، و "يضحكون في الأزرق حدّ النرفانا". أما هي فتحوز ما تجعله يباهي بها الأمم. إنها المدينة التي تحوّل فقدان الغربي لتوازنه وحسّه الإنساني المصادر جرّاء ارتباطه بحضارة غربية متنفّجة.. إذ هنا في كنف هذه الموغادور يكون، كأنه في بيت فرويد، أوفي دعوة سقراط إلى معرفة النفس، سيّان ما داما معا نافذة لتشكيل الوعي الحاد بالوجود. حين يلوذ الغريب إلى المدينة وبها، تكون إقامته دافئة ونديّة ومعادلا رمزيا للذهب.. المستخلص من لحظة الغروب الباذخ، وكأن كل ذهاب إلى الصويرة هو ذهاب إلى "الشرق"، أي ذهاب إلى الذهب.
يتابّد الشاعر مبارك الراجي في هذه المدينة، أي يجعلها إقامته الأبدية في الإقرار بالحيوات ذات الشكل
الدائري، لتكون هي بدايته التي جعلته يتشرّب ملحها، فتكون منتهاه في ذاك الشفق المترع على اللجين، على الجزيرة الموصولة بصغراها حيث ذكرى "صخرة جورج" ترعاها النفس وتحتمي بها في المدلهمات وفي أوقات العزلة الباذخة مع أصفياء لهم القدم الراسخة في التسكّع .. وحدها "سفينة نوح" تحرسهم من كل غرق محتمل..
من خلال تكريس مبارك الراجي شاعريته لهذه المدينة عدّ سادنها البارّ. إنه حارسها الحالم وهما في رقدتهما الرؤوم.. فيصبحها، وتصبحه، في سبيكة عجيبة.. حتى بدت كلما رأيته، وبدا كلما حللت بها، فتقول المدينة: كلما أبصرتني أبصرته. ويقول الشاعر: كلما أبصرتها أبصرتني.
مبارك الراجي هو موغادور
مبارك الراجي هو الريح في موغادور
هو موغادور المكان
هو موغادور الكمان
هو الكمان الذي تضعه على كتفها
هي الكمان الذي يضعه على كتفه
ليكون بالنهاية: "هاويا في الريح مقاما بلا قرار".
(2)
بقلم الملح يكتب مبارك الراجي قصائد على إيقاع الندى، على إيقاع رذاذ البحر، يقرأ كتاب الماء، يتفرّس الشقوق في نعومة الكلس وملاسته على ظهر بيوض النوارس، ليكون الوجود هبة التّكسّر في الاستعارة الرؤوم لتكسّر الثرى حين تشرئبّ من بين الشقوق ويتفتّق الربيع تماما كما في شاعرية التّمّامي  نسبة إلى أبي تمام، الشاعر الصانع المنذور للأجرام..
السّحنة اللوزية لمبارك الراجي ملتهبة بالشمس وبالملوحة، حين تعثّر الموج بالصخرة تناثر بلغومه زبدا.. سحنة الشاعر ترشح منها النار، سرقتها روحه من مواقد العابرين تكسّرت قدورهم شظايا في الجزيرة.. الشاعر، دوما، ينصت إلى المكان كانت الحشرجة سيدته، أنين الفواجع وعذابات المواجع "يدوزنها" إيقاع داء العائدين من الحجاز، أو هي لمن ألهبوا السياط الجيّاد في "حركة" الرحامنة، ذات "سيبة" من الزمن الفائت.
ريش النورس يغرف موسيقاه من البحر، يكتبها نقرة، نقرة.. يغمس الجناح في "المريسة" هناك حيث ينزّ
الطحلب اخضراره على جنباتها.. ليدرأ عنها هجمة وشراسة الموج، كل مرة يعضّ عجيزتها لتتفتّق روح الشاعر نارا بها يحاكي في العبارة فجائع وفتنة المكان.
يحبّ مبارك الراجي بيوض النوارس، يحضنها لتتكاثر، تزغرد وهي تزفّ إلى المرسى البواخر المحمّلة
بالغلال. يتنصّت الشاعر سقوط همس الندى على الروح في أسطح مبلّلة بالاشتهاء، وبعد الهزيع الأول أو الأخير من الليل يعانق الشاهدة لقبر أمه وينام..
مبارك الراجي هو شاعر طفل يسفّ التراب ملحا، كان قد استحال تبغا رشحته الأنوار في وحشة السماء،
عنجهيتها "صادية" وهي تفرح لتمزّق الطفل وارتعاشته، روحه منذورة لمهب الريح ولدوخة ضربة شمس، بها يتلف الخطو، يتلف تفاصيل الزمن.. الزمن المنمّط أرخى عليه كل الهموم وكل أمواج ليلها الطويل.. إلى اللانهائي وعانق كبديل سموق العبارة وسموّها اللايحد ين..
لا يأتي الشاعر هنا، من فسحة إبداعه: )شذرات نائية من كتاب الغربان، الصادر حديثا من سنة 2018 عن دار الفنك( من أفق أكاديمي، مرجعه الوحيد هو الذات المكتنفة بالملوحة، كان قد نشّاها في مسامّه رذاذ البحر.. رطوبة نشّفتها الرياح على الجلد، ودبغته بلون بشرة مخلوط بالحمرة هي حمرة الشفق، حمرة المغيب في الطرف الأقصى للجزيرة أو في الفجوة قصمها وفصلها شقّين "بوسيدون" بجبروته.. يكون الغروب دوما إيذانا ليقظة الذات، روحها منذورة لدهشة العالم المتوثّب والمتيقّظ ليلا والمدوزن بمواء القطط ونباح الكلاب.. وفحيح الكاتبة على آلة "الدّكتيلو" نزّ منها الشّبق لتتوئم لذة السّاق بالسّاق في دوخة استدارة العين لكل من النورس والسردين والمرأة المدثّرة بالحايك، سيدة هذا المدى "الأبنوري" بتوصيف إدمون عمران المالح.
مبارك الراجي مدين لكل الأفكار الشاردة والمنقوعة في "لعنة" التجريب وغوايته ودهشته في ارتياد المجهول وفي ذهابه إلى المستقبل.. هو مدين للأفكار المتمردة والخارجة عن الإطار، تماما كقطار البلجيكي "رونيه ماغريت" الخارج للتّوّ وبشكل مزدوج، مرة عن المدخنة لترجمة دلالة الحركة، وأخرى عن الإطار لترجمة الجنون في حالة من "الاستهراب" المكينة.. كمنطق سوريالي يؤسس لرقّة إنسانية منذورة لنفس يعبق بدخّان سيجارة مزمومة بشفتين شرهتين لشاعر اسمه: مبارك الراجي من المغرب، ليس له وحده، وإنما للإنسانية أيضا.

 

تعليق عبر الفيس بوك