في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في (21 آذار / مارس):

قطارُ المَنَاشي


                  محمود الكرشابي - مصر

 

(1)
سُبْحانهُ،
حشرَ الدّنيا في حُقِّ حديدٍ
كعالمٍ في بيضة
رُكَّت بيدِ القدرة،
فارتجَّ العالم
ثُم قال لهُ:
اِمضِ بنا يا قطار المناشي!


خمْسُ دقائق فقط
أو ربّما أقلّ
هي ما تفصلُ كلّ محطّة عن أُختها
ما أنْ يتحرك القطارُ
حتّى يقفْ

قلتُ: أوْقفنا في نفْسه القطار
أحدُهم قال: هذا القطارُ
مكتوبٌ على مؤخّرته
(و قوفٌ متكرّر)!
 قالتْ امرأةٌ:
ثمَّةَ زلطة تحت حافر القطار..
وقال مُزارعٌ:
سخْلةٌ .. أشارت له فتوقّفْ
ودعا شيّخٌ، وأمّنا
"... ربّنا باعد بين أسفارنا"

حين مرّ الوقتُ سريعًا
وابتلعتنا سريعًا المحطّات
قلنا: في قطار المناشي
يَحْمَدُ القومُ النِّكات!


(2)

الأربعيني الأصْلع
إلّا من بعض خُصلٍ
غارقةٍ في الفازلين
والّذي تفوح من بذّلته الصّوفيَّة
كجثّةٍ في مشرحة
رائحةُ المسكِ والنّفتلين

تأوَّه كوَزَغةٍ
حين خبطَهُ بائعٌ متجوِّلٌ
في ركبته...
لعن العالمَ بأسْرهِ
وراح يحدّقُ في صدر فتاة...

عندما وقف شابٌ
على كتفهِ وكرفس طفلٌ
على قدميه؛ تأفَّفَ
كان القطارُ كعُلْبة سردين
كان أضْيَق من ضِيقه

لكنّهُ كاد يخرجُ من إهابهِ
عندما مالت فلّاحةٌ عجوز
ودلقتْ مِشَنّتها على رأسه
لِيَنْبُتَ  دغلٌ في صلعته
وبستانُ كرفس!
 
فجْأةً مال عليّ
وأزاح الكتاب من يديْ
وبصوت غامضٍ
كأخْرَس يُسرُّ في أُذنِ
أصمٍّ بفضيحة:
 من ثاني أقدم سكك حديد
إلى ثاني أسوئها في العالم
تلك هي رحلةُ القطار
خلال ستّين عامًا
من حُكمنا الوطنيّ...

حين عاد بظهره إلى الخلف
أطلّ من عينهِ كقشّةٍ
حزنٌ بحجم قطارْ

(3)
عجوزان..
وجهانِ مُتغضّنان
من طول الرحلةِ
يسْتدْفئان بجمر الحكايا

فتاةٌ جامعيّةٌ
تدْرس الاقتصاد المنزليّ
وتسمع موسيقى غربية
من خلال سماعة هاتفٍ
وتحتلُّ شنطةُ يدها مقعدًا..

شابٌ يقف على باب القطار
يشعلُ سيجارةً
وينظرُ للأمامْ

نكْلا...
مُنتصفُ الطّريق
بلدٌ تدلُّ عليه الرّائحةْ

بائعٌ متجوّلٌ وحيد
يبيعُ المناديلْ
ويُغنّي المواويلْ

امرأةٌ وبنتُها
يفترشان المسافة بين عربتين
ويملآن طشْتًا بالسّمن والجبن
الفتاةُ صابحةٌ
وبيضاء كشَخْبِ الحليب


الكُمْسري يجلسُ بيننا
كواحدٍ منّا !
يُرتّبُ أوراق التّذاكرِ
ويُحصي النّقودْ

هذا خميسُ الإجازةِ
القطارُ هادئٌ وحميم

يا الله..
شكرًا على هذا النّهار
شكرًا لأنّك شئتَ
فشُفْنا بعينيكَ كلّ الجمال
يسافرُمخْفورا بسرّ الرّحيل
هنا في قطار المناشي

(4)
جنديٌّ ومُلْتحٍ
يجلسان على مقعدين متجاورين
والقطارُ شِبهُ فارغٍ ويئن!

كانا معًا أثقل مما
 يحتمل القطار

الجنديُّ يغالب النّوم
والسّلفيُّ يقرأ في واحدٍ
من شروح الإمامْ

تسقطُ رأسُ الجنديّ
على كتف الشّيْخ
يقبّلها ككسرة خبزٍ
سقطت في الطّريق
ويرجعها سالمة الى كتفه

الساحةُ انكشفتْ عن
قتلى بلا عددٍ
رؤوسٍ بلا أجساد
وأجساد تتطاير شلْوا شلوا

 


ودمٌ يقطر من أسنان جنديّ
خوذته ملْقاة على الأرض
كقبّة ضريح
وأفرُوله ملطخ..
وكان قيّحا ودمامل
على طول الطّريق
تعرقلُ سير المجنزرات

الشّيخُ على منبِر
متهدّمٍ وصدئْ
يخطبُ في حشْد من جماجم
يعتمرون دبابيبس وألغام...

وكان كلّما اُرتجّ عليه الكلام
غَمَس إصبعين
في الدّم المتساقط  من أسنان الجنديّ
وقلّب صفحاتٍ من شروح البخاري
وطفِقَ يقلّمُ النّصوص
حتى تُلائم جسدَ المعركةْ

ومن نافذةٍ في القطار
خلفهما تمامًا
كان كلبٌ يخطف دجاجةً في فمه
الدّجاجةُ كانت لعجوزٍ عمياءَ
وقيلَ الدّجاجةُ كانت لمساكينَ...
وكان الكلبُ عقورًا أجربَ
يهتزُّ عنيفًا
ليطرُدَ قُرادًا
يتطفّلُ على دمه
بيْنا كان الجنديُّ
يحلمُ بمعاركَ
ويخوّض في نهر دماء
ويغْتصب عروشًا

كان الشّيخُ في مغطسٍ
يلْحس ورك جاريةٍ عذّراء
ويلهو بجيدِ غُلام

يبحثُ جاهدًا في شروح البخاري
عن أسانيدَ...
ويهرفُ عند كل صلاة
بالثّناء لربّ الجنود.

(5)
هل قلتُ لكم
إنّني ولدتُ في بؤونة
في أقاصِي الصعيد
كان البيت يشْرفُ
على شريط سِكّةِ الحديد
آخرُ رحلةٍ
لقطار الضّواحي هُناك
مرّت لحظة ميلادي
اختلطت صرخةُ الطّفلِ
بصافرةِ القطار
وكان صوتُ البهائم في الحظيرةِ
نقيقُ الضّفادع في الماء
الهواءُ على جريد النّخلْ
جوْقةً كونيّةً
كان لحنًا جنائزيّا مهيبًا
يليقُ بميلادِ آخر طفل
عزفت له القطاراتْ

تدعو القابلةُ –بعد أخذِ الحلاوة-
:اللّهمّ هبهُ مَضَاء قطارْ
وتدعو النَّفْساءُ:
اللّهمّ هبْهُ عمر القطار
(لم تكن تدري أنه  ذاهب لحتفه...)
وأشْرَأبُ من مهدي وأدعو:
اللّهمّ هبني قلبَ قطارْ

 

صارَ قطارُ النّاسِ
والبهائم والبضائع
قطارَ قصبْ
بعدَ أن اشترت سكّةَ القطار
فبريكةُ السّكر
أوّلُ اللّصوص
والتي سرقتْ عرقَ الشّاب
بعدما سرقتْ- قديمًا- قطار الصّبيْ!

كان القطارُ يمضي سادرًا
لرحلتِه الأخيرة
وكانت سماواتُ الله
خاشعةً في وداعه
وثلاث دعوات
محروراتٍ معلقاتٍ
بذيلِ قطارْ
يسْبحنَ في الفضاءِ بلا إجابة

(6)
القطاراتُ كما الجنودُ العظام
تأنفُ موت الفراش
أسوأ كوابيسِ القطار
أن يموت إكلينيكيًا
 لذا كلّ رحلةٍ
يرجو القطارُ السّائقَ المتمرسَ
وعاملَ المزلقان:
لا تحرمَاني من
موتة تليق بمحاربْ...

 

 

أعرفُ قطارًا مات
حتْف أنفهِ، هكذا
دون معارك حامية الوطيس
دون حوادثَ
لم يصبه سهمٌ في معركة
لم يسقط عن صهوة جواد
لم تثْقبه دانةُ مدفع

أين ما كان يقرأ الرّاكب الشّاعر
على مسمعه من أدب الحرب
 وسير الفُتوّات الشَّماميل؟
هل تكون النهايةُ
عاديةً كالصدأ الّذي يعلوه
(القطاراتُ قومٌ لا يموتون
حتف أنوفهم..


يصرخ في مشيّعيه
يطوي موتَه على ألمٍ وخزي

هو مركونٌ في أقصى المحطّةِ
بائسٌ ووحيد في موته
كقطعة خردةٍ
حتى القطارات
أشقاؤه وبنو لدَاته
يمرّون به
ولا يُقْرِئوه السّلام


(7)
القطار الذي غادر بهم
لم يصلْ
لمحطته الأخيرة
لكنهم وصلوا!

تعليق عبر الفيس بوك