روسيا البوتينية وأحلام الغرب

 

≥ لا يزال الغرب مُصرا على التعامل مع روسيا البوتينية بعقلية وأدوات الحرب الباردة انتقامًا من الشيوعية

علي المعشني

برهنتْ الأزمة الدبلوماسية التي تفجَّرت أخيراً بين روسيا وبريطانيا، بشأن تسميم العميل المزدوج، واتهام بريطانيا لروسيا بتنفيذ العملية، وقيامها بطرد 23 دبلوماسيا روسيا، ومقابلة روسيا لبريطانيا بنفس الإجراء، والتلويح الغربي بمقاطعة دورة كأس العالم القادمة بموسكو تضامناً مع الموقف البريطاني، برهنت جميعها على أن الغرب لا يزال يتعامل مع روسيا الاتحادية بمناخات الحرب الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي متمثلاً بالاتحاد السوفييتي.

كما برهنت هذه الأزمة على أنها مجرد رأس جبل الثلج في الصراع الوجودي ما بين الغرب وروسيا الاتحادية، هذا الصراع الذي يعود إلى قرون طويلة في التاريخ بين القيصرية الروسية الممثلة بالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والغرب الممثل بالكنيسة الكاثوليكية الغربية ومعها الكنيسة البروتستانتية. لم يستوعب الغرب ولم يرُق له أن روسيا اليوم دولة بلا أيديولوجيا شيوعية، ولم يرق له أو يستوعب كذلك أن روسيا اليوم هي دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، وتشاطره في سياسات السوق المفتوح والليبرالية؛ حيث لا يزال الغرب يصر على التعامل مع روسيا البوتينية بعقلية الأثر الرجعي التي لم تغادر فكره وبأدوات الحرب الباردة وبالانتقام من الشيوعية التي لم تعد تشكل اليوم في روسيا سوى تكتل حزبي صغير لا أثر له.. بفوز القيصر بوتين بولاية رئاسية رابعة يجعل العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب عالمية ثالثة سيتسبب بها الغرب برعونته وابتزازه واستفزازه للقيصر بوتين، والذي أعلن في خطابه الأخير أن روسيا أصبحت القوة العسكرية الأولى بلا منازع في العالم.

لم يستوعب الغرب بعد أنَّ دمشق كانت المنبر الذي دشن من خلاله بوتين روسيا البوتينية التي تجردت تماماً من كل سياسيات وعقائد الاتحاد السوفييتي؛ حيث استخدمت روسيا -ولأول مرة في التاريخ- حق النقض "الفيتو" في قضايا حلفاء، بينما كانت فيما مضى لم تستخدم هذا الحق إلا فيما يتعلق بقضايا تمس أمنها القومي؛ وذلك الأمن القومي الذي كان لا يتعدى جغرافية الاتحاد السوفييتي.

ولم يستوعب الغرب كذلك استخدام الروس لكافة أسلحتهم الإستراتيجية الفتاكة لدعم حليفهم السوري وللحفاظ على الدولة السورية، كما لم يستوعب الغرب رسالة ومغزى تصريح بوتين باستعداد روسيا الكامل لاستخدام السلاح النووي للرد على أي اعتداء على روسيا أو أي حليف لروسيا، وبهذا يكون بوتين قد أعلن صراحة ماهية الأمن القومي الروسي الجديد، الذي يتعدى جغرافية روسيا إلى كل بقعة جغرافية في العالم ترعى المصالح الروسية وتشكل تحالفا معها.

افتعال بريطانيا لأزمة تسميم الجاسوس المزدوج وطرد الدبلوماسيين الروس والتلويح الغربي بالانسحاب من دورة كأس العالم القادمة في موسكو يعيدنا إلى العام 1980، عندما قاطع الغرب دورة الألعاب الأوليمبية في موسكو بزعم "غزو" الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، وتلك كانت حلقة في مسلسل الحرب الباردة ما بين المعسكرين الشرقي والغربي.

حين نعود للزمن القريب، نجد أن الاتحاد السوفييتي كان له الفضل الأكبر في انتصار الحلفاء على النازيين في الحرب الأوروبية الثانية "العالمية"، فما الذي جمع يا تُرى الاتحاد السوفييتي والغرب في تلك الحرب الكونية المصيرية، وبمجرد أن وضعت الحرب أوزارها عام 1945 انقسم العالم إلى معسكرين: شرقي وغربي، ودشنت مرحلة الحرب الباردة التي عرفها العالم الى بداية التسعينيات. وبالعودة للقرون الأبعد نجد أن الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية مع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وحاميتها روسيا القيصرية، لم تكن تخلو من العنف والحروب الساخنة والباردة لغاية اليوم.

وما الأزمة السورية إلا فصل من فصولها، حيث يعتقد الروس بأن سوريا هي مهبط الكنيسة الأرثوذكسية؛ وبالتالي فالدفاع عن سوريا هو دفاع مقدس، وهذا ما لم يستوعبه الغرب لغاية اليوم.

كثيرة هي أوراق بوتين التي يمكنه أن يلعب بها لهزيمة الغرب ومواجهة مخططاته، وكثيرة هي أوراق الغرب الساقطة التي أصبحت تذروها الرياح اليوم، ولم يستوعب الغرب أنه ولغاية اليوم لا يزال يتعامل بعقلية الأثر الرجعي، وأنه فقد مكانته والقطبية الواحدة في العالم، وأن هناك قوى أخرى أصبحت على عرش قيادة العالم وتقرير مصيره ومنها روسيا الاتحادية. هذا المصير الذي سيتشكل وفق القانون الدولي والأخلاق والضمير الإنساني، وسيتخلص وإلى الأبد من بلطجة الغرب ورأسماليته المتوحشة.... وبالشكر تدوم النعم.

--------------------

قبل اللقاء: من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه أن يعيد عثراته.